2,027 عدد المشاهدات
كانت دلمون أرضاً تمتد إلى ما وراء حدود البحرين، إلى أقصى الشمال من الكويت وجنوباً حتى المملكة العربية السعودية. بدأ البحث عن دلمون الحقيقية عندما قام عالم الآثار الدنماركي جيفري بيبي بزيارة البحرين من أجل استكشاف الآلاف من المدافن غير معلومة التاريخ والمنتشرة في جميع أنحاء البلاد. ثم وضع بيبي كتاباً يعد بمثابة توثيق لرحلة العمل التي قامت بها البعثة الدنماركية في منطقة الخليج العربي. ويروي الكتاب الصادر عام 1969، قصة العمل الاستقصائي الأثري بأسلوب شائق. ويتحدث بيبي عبر صفحات الكتاب عن رحلة الاستكشاف في منطقة الخليج العربي فيقول:
«دخل العمل في البحرين مرحلة جديدة منذ 1960، ولمدة سبع سنوات كنا نحفر معبد بربر والمدينة المحيطة بقلعة البحرين وقرية فيلكا، ومدينة الفخار الكاسي ومدناً أخرى. وما لبث الحفر في البحرين أن أصبح روتينياً. ولقد وجدنا عبر سنين التنقيب الأختام والتوابيت والتماثيل الطينية والأواني الفخارية، وكان علينا التوقف ليس لعدم وجود الآثار؛ بل لأنه من غير المعقول توقع أن يستمر الشيخ سلمان وشركة النفط في تمويلنا إلى أجل غير مسمى».
رحلة أبوظبي
وثق بيبي زيارته إلى أبوظبي فقال: «في تلك الفترة ذهبنا إلى أبوظبي لإلقاء نظرة على نتائج الحفر التي كانت قد بدأت منذ عامين. وانتقلنا إلى مخيم أم النار بعد أن كان فريقنا قد بدأ أعمال التنقيب فيها وحفروا في اثنين من التلال ووجدوا دائرة مثالية من كتل الحجر الجيري المقطوعة، حيث كنا نستخدم أحدث الحفارات المتوافرة في ذلك الوقت».
وأضاف: «لم تكن التلال قبوراً على الإطلاق بل كانت مباني خاصة لدفن الموتى بلا تمييز بين فقير أو غني كما هو حال الأهرامات. فقد كان الجدار الخارجي مدعوماً بجدار حجري سميك على طول الطريق. وكانت المداخل عبارة عن مداخل صغيرة، أبوابها مصنوعة من ألواح حجرية رفيعة تزينها مقابض حجرية منحوتة. في منتصف الطريق بين المداخل يوجد جدار صغير متقاطع مع جدران أخرى وقد قسم الجزء الداخلي للمبنى الدائر بوساطة نظام من الجدران إلى أفران صغيرة وممر عرضي. ورصفت كل من الممرات والتجاويف بألواح، بينما اتسعت الجدران تدريجياً صعوداً إلى أعلى، ما يدل على أن التجاويف والممر قد تم تثبيتها بدقة متناهية لتسمح لنور الشمس بإضاءة القسم الداخلي. وقد تبين وجود هدايا كانت قد رافقت الموتى إلى القبر بين الرفات، هدايا من الفخار والأسلحة النحاسية. قمنا بحفر خمسة قبور أخرى أصغر حجماً فأصبح لدينا الآن سلسلة من المقابر المحفورة تتراوح من الأصغر إلى الأكبر».
رفات وفخار
وتابع بيبي واصفاً المقابر في أم النار: «من هذه المقابر الخمسة الأصغر، واحدة فقط كانت تحتوي جداراً خارجياً مكتملاً. وتحتوي جميع المقابر، باستثناء أصغرها، على رفات بشرية وفخار. ويحتوي أحد القبور على رفات ما لا يقل عن 36 فرداً، إضافة إلى أكثر من 40 آنية فخارية، منها 22 لم تنكسر. أما المقابر الأخرى فاشتملت على نحو 16 آنية».
وأضاف: أثارت عمليات التنقيب هذه تساؤلات عدة عن قدم حضارة أم النار، فإحدى الفرضيات تدل على أن الأواني والمزهريات كانت تنتمي إلى مجموعة من التركيبات الموجودة في إيران وبلوشستان، والتي تم تصنيفها بشكل عام على أنها «من العصر الحجري».
وبعض الجرار المكتشفة تشبه في صناعتها جرار «ثقافة كولي»، ما قد يدعم فرضية أن سكان أم النار كانوا الجيران الغربيين لشعب كولي، واستوردوا جزءاً من فخارهم. أو أن أم النار كانت قريبة من كولي، وكانت كولي معاصرة إلى حد ما في وقت سابق لثقافة وادي السند. لكن ثقافة وادي السند كانت معاصرة لثقافتنا البربرية، مع ديلمون الأولى، المدينة الثانية في البحرين. لذلك كانت أم النار بدورها معاصرة، أو سابقة إلى حد ما، ثقافة بربر.
أصبح الاحتمال أكثر غموضاً أن يكون لدينا هنا في أم النار أول موقع من «الحضارة المفقودة» الثانية في البحر السفلي «مملكة ماكان» النحاسية، والأكيد أن أم النار لم تكن يوماً جزءاً من ديلمون. بعد خمسة أيام، في الصباح الباكر، دخلنا إلى الشاطئ ومضينا في رحلتنا إلى البريمي.
رحلة البريمي
يقول بيبي في حديثه عن رحلته إلى البريمي: «كانت الرحلة الاستكشافية إلى البريمي هي الثانية ضمن عدة رحلات كان آخرها في العام 1968. أما رحلتي الأولى فكانت في العام 1959، سنة الحفر الأولى في مقابر أم النار. في تلك السنة، كنت قد طرت من البحرين مع زملائي لنلقي نظرة على تقدم عملية التنقيب. وعند وصولنا، رأينا من مسافة بعيدة رجلاً يتجه إلى قمة الجزيرة المظلمة من جهة المخيم وقال: ستقابلون زواراً مميزين في غضون نصف ساعة، وسيخرج الحاكم للنظر في ما تجدونه».
ويصف لقاءه بالمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، لأول مرة فيقول: «استغرقت الزيارة نصف ساعة، ورافق الشيخ شخبوط بن سلطان، ولداه سعيد وسلطان، وشقيقه زايد، رجل طويل القامة نحيل ولكنه عريض الكتفين يشبه الصقر، وله لحية سوداء قصيرة مشذبة بعناية. كان زايد أكثر وقته عادةً في المناطق الداخلية، ولكنه الآن يذهب إلى الساحل ترقباً لهلال رمضان، وكان يتولى منصب نائب الوصي على قرى واحة البريمي. كان ذائع الصيت وعرف بكونه صياداً عظيماً ومن أشهر مقاتلي الصحراء».
ويضيف: «في زيارتنا الثانية كنا متجهين إلى الجنوب الشرقي، بعيداً عن الساحل إلى البرية الهائلة للربع الخالي. لكن في البداية، كان علينا تجاوز السبخة الساحلية حيث غرق حطام سيارات وشاحنات مهجورة. ثم اجتزنا المنحدرات الشاهقة وكنا نسير على طول مسارات ممزقة. وقد احتوت الواحة على سبع من القرى؛ أربعة منها يحكمها الشيخ زايد. وثلاثة تحكمها سلطنتا مسقط وعمان».
وتابع: «قمنا بزيارة قصر ضيافة الشيخ زايد الواقع في قرية في أقصى جنوب العين، وكان يبرز من بعيد، فهو أحد الحصون التي كانت قد بنيت لأغراض دفاعية بحتة، شامخاً في أعلى ربوة. كان القصر مكوناً من ثلاثة طوابق عالية، وقد احتوى الطابق العلوي على النوافذ. وكان القصر مزوداً بفتحات للبنادق وله مدخل ضيق واحد. وعلى الباب وجد عدد من الحراس والخدم. رحب بنا الشيخ زايد عند دخولنا قاعة الضيوف وكان برفقته عدد من رجاله. لقد بدا الشيخ زايد أكثر طولاً من قبل عندما قابلناه في أم النار، وكان رداؤه البني وعقاله الأسود يظهر الأصالة البدوية. وجلسنا على الوسائد بجانب الشيخ زايد وتحدثنا لمدة نصف ساعة معه عن نتائجنا في أم النار، وحول التاريخ المبكر للجزيرة العربية، وقدمت لنا مائدة فاخرة تزخر بالأطباق المتنوعة من الطعام».
كل عام كنا نحفر في وقت واحد في موقعين في البحرين واثنان في الكويت. وفي أبو ظبي كان لدينا موقعان يمتدان لأكثر من 100 ميل. كانت تلال البريمي غير مستكشفة من قبل وكانت مشكلات الإمداد أكبر بكثير مما واجهناه في أي مكان آخر فقد كان يتوجب علينا نقل الجزء الأكبر من إمداداتنا عبر الطريق الصعب من الساحل.
كان هدفنا الرئيس هو الحفر على سفوح جبل حفيت الشمالية، وخلال عامين قمنا بالتنقيب عن سبعة وعشرين مدفناً. ووجدنا أواني أثرية وأطباقاً برونزية وسيفاً برونزياً وطبقاً مزخرفاً من الحجر. كانت قرى الواحة تحتوي على عدد من المنازل الحجرية وتميزت مجتمعاتها بالإنتاج. فكان الرجال يخرجون للصيد في كل يوم وعملت النساء بالنسيج وصنع الفخار والتطريز وكان الأطفال يرعون الماشية.