أصواتُ المتزمّتين ودعواتُ المحبين..صراع الفصيح العامي

مقالات متنوعة

 934 عدد المشاهدات

الكاتب: جمال بن حويرب
إذا استمع إلى مدحي للعامية أحدُ المتزمّتين المتعصبين للفصحى وحقّ له- فإنه لا محالة سينظر لي بعينِ مقتٍ، ولن يتردد في الردّ على مدحي بعباراتٍ لطيفةٍ في أذني، وإن كانت شديدةً في معانيها لتقديري حرصهُ وحبه للعربية اللغة التي نحن نعيش كلنا تحت ظلها ولولاها لكنا شراذم لا أصل لنا ولا هوية، ومن يقول: إنّ المبنى اللغوي سيبقى ولو زالت اللغة الفصحى، فسأقول له:
 انظر إلى “مالطا” فإنّ لغة أهلها العربية المحرفة ولكنها أبعد ما تكون عن العروبة وقوميتها بعكس الدول العربية التي حافظت على اللغة الأم لغة القرآن الكريم فإنها لا تزال مترابطةً وإنْ تعدّدت الجوازات ووضعت الحدود بينها، والأمر كذلك لا يستدعي من إخوتنا المتزمتين للعربية -التزمت يعني الوقار في الفصحى- أن يظنوا أني أدعو إلى العامية وأني أحذو حذو السابقين في مطلع القرن الماضي وهم يعلمون حق العلم بأني من عشاقها غذيت بلبانها منذ بدايتي العلمية ومن أشد المدافعين عنها وعن حماها وما دعوتي لدراسة اللهجة إلا لأنها جزء منها وسوف تعيننا كثيراً على فهمها والغوص في أعماقها.

من باب الصراع بين الفصيح والعامي هناك أبياتٌ  للبهاء زهير* (581-656 هـ) -وهو شاعر حجازي المولد مصري المنشأ جميلةٌ في كلمة “ست” التي تعني المرأة ويقال إنها محرفة من سيدتي وبكثرة الاستخدام صارت ستي ولا أستبعد هذا ومن فسرها بأنها تعني :يا ست جهاتي فهذا معنى بعيد ولهذا يأبى أكثر أهل العربية بأن تكون فصيحة وقد استظرف البهاء زهير التفسير بالجهات الست فقال:
بروحي منْ اسميها بسـتي
    فينظر لي النحاةُ بعينِ مقتِ
يــرون بأنّني قد قلـــتُ لحناً

   و كيــــفَ وإنّـني لزهيرُ وقـتـي
و لكنْ غادةٌ ملكتْ جهـاتي

    فـــلا لحـنٌ إذا مـــا قلتُ سـتّي
اللهجة المحلية والاهتمام بها كان فطرياً عند أجدادنا قديماً فهم يعلّمون الصبيان المنطق الصحيح للهجة، وإذا أخطؤوا فيها فإنهم يصححون لهم. بل كان بعضهم يضرب قليلا عليها لكي لا يقع الصبيّ في خطأ اللهجة، وهذا يفعله كل الناس في العالم لتلقين أبنائهم اللغة الصحيحة.

وقد تغيرت الأوضاع الآن وأصبح الوالد يرطن مع أبنائه وبناته والأخوات يرطنّ مع إخوتهن بل لو دخلت على المواقع الاجتماعية على الإنترنت من فيس بوك وتويتر فسوف تصدم من كثرة العرب وقلة الناطقين بالعربية. فلن تجد الجيل الجديد يتحدث إلا بالرطانة وكأن العربية فصيحها وشعبيها قد أصبحت لغة المتخلفين والعياذ بالله.
إذا علمنا أن مباني اللهجة العامية هي نفس الفصحى لأنها من ذريتها التي لا تنفصل عنها فكيف نستطيع أن نعرف الفصيح القديم من المولد المستحدث ونميز العامي الفصيح القديم ومن العامي المستحدث أيضا كما ذكرت أمس ونفرق بينه وبين العامية التي لا تمت بصلة إلى العربية؟
هذا ممكن باستخدام ما نسميه السبر والتقسيم فإننا إذا قمنا بسبر مفردات اللهجة العامية وأساليبها الصحيحة وعرضت على الفصحى بطريقة علمية لغوية صحيحة ويقوم العلماء المتخصصون في اللسانيات وعلوم اللغة العربية بأنواعها ويكونون من أهل هذه اللهجة وليسوا من أتباع لهجة أخرى، إذ لن يستطيع عراقي ولا أردني ولا مصري أن يصل إلى معاني لهجتنا ولا طريقة نطقها، وكذلك لن يقوم إمارتي بدراسة اللهجة العراقية والسورية فإنّ ذلك من المستحيل ولو استطاع دراسة المفردة فلن يصل إلى معرفة أساليب اللهجة وخفاياها إلا من كان من أبنائها وكذلك الحضري لا يعرف مصطلحات البدوي إلا قليلا.

 
نشر في البيان بتاريخ: 16 يناير 2012