3,049 عدد المشاهدات
بقلم: قاسم بن خلف الرويس – مؤرخ سعودي
للأسطورة في الأدب الشعبي في الجزيرة العربية عموماً وفي الشعر النبطي خصوصاً حضور كبير، ولكن ما يلفت النظر أنَّ كثيراً من الأساطير المتداولة في عصور العامية لها جذور راسخة في الأدب العربي القديم وهو ما يؤكَّد أنَّ البيئة الواحدة تستنسخ أساطيرها مهما طال البعد الزمني؛ فالأدب الشعبي بطبيعته هو استلهام للتاريخ واستعادة للذاكرة الجمعية من كواليس النسيان، وفي البيتين الذين صدرنا بهما هذا الموضوع لغز محبوك عن أسطورة تتناقلها الأجيال في الجزيرة العربية، وتظهر فيها محاولة أنسنة الجمادات وتشكيلها في قوالب بشرية عجيبة ذات أحاسيس ومشاعر رقيقة تقع في شبك العشق والغرام وتشعر بالغيرة والحسد وتقوم بالزواج والطلاق! ومن المستبعد أن يتوصَّل إلى الحل الصحيح أيُّ إنسان يجهل هذه الأسطورة وحكايتها الخيالية.
في حين أنَّ هذا اللغز الذي صاغه فكر الشاعر النبطي وأورده مع حله العبودي في معجم بلاد القصيم (ج5/2075) كان محوراً للتحدي بين شاعرين ينتميان إلى قبيلة واحدة وبيئة واحدة ولذا تمكَّن الشاعر الآخر من التوصُّل لحل اللغز بسهولة حيث قال:
هذي (طمية) عن مكانه ما تغور
في سد ضلعانٍ تمدي من وراه
مغيبينه في حفيظات الصدور
واللي يرد القاف نلعب له علاه
فما حكاية طمية هذه؟! وما حكاية عشقها؟ وكيف رسخت هذه الحكاية في الذاكرة الشعبية وتداولتها الأجيال جيلاً بعد جيل؟!
يشير الراوي والشاعر ناصر المسيميري إلى هذه الأسطورة باختصار في كتابه (أبيات وأماكن)، فيذكر أنَّ هناك رواية قديمة أشبه بالخرافة وهي أنَّ (طمية) كانت من جبال المدينة فلما لمع البرق رأت (قطن) وهو جبل أحمر يقع قريباً من (عقلة الصقور)، فهامت بحبِّه وجاءت لتتزوَّج به فوجدت جبل (عكّاش) وهو جبل أسود صغير قريب من موقعها الآن، فتزوجت به، ثمَّ ولدت جبلاً صغيراً أسودَ يقال له (ديم) لا يزال بهذا الاسم، وبعد ذلك ركب (قطن) هضبة حمراء اسمها (البكرة)، وجاء وتزوج (طمية) بعد أن انفصلت عن (عكّاش).
و(طِمِيَّة) كما ذكر العبودي في (معجم بلاد القصيم) بكسر الطاء فميم مكسورة فياء مشددة مفتوحة فهاء: جبل مشهور في القديم والحديث في أعلاه حجارة صفراء وعر الأعلى، ولذا تعيش فيه الصقور ويقع في أقصى غرب منطقة القصيم على بعد نحو 230 كم من (بريدة) وعن (عقلة الصقور) 32كم، وتراه وأنت على الخط الأسفلتي الذي يربط القصيم بالمدينة المنورة وهي على طريق حاج البصرة قديماً إلى المدينة المنورة، ولكونه يُرى على البعد قالت العامة في أمثالها: (كل جبل تمسّيه المطية، إلا ساق وطمية).
أما (عَكّاش): بفتح العين أوله وتشديد الكاف بعدها فألف ثمَّ شين جبل أسود قريب من طمية شرقاً عنها بنحو 15 كم، وقد اقترن اسم طمية باسمه في القديم والحديث لقربه منها ومناوحته لها ولذا ربطت الأسطورة بينهما.
أما (قِطَن) فيذكر العبودي أنَّ العامة تنطقه بكسر القاف وفتح الطاء ثمَّ نون، وإلا فإنَّ قافه قديماً مفتوحة وهو جبل أحمر شديد الحمرة حتى إنَّ بعض الأعراب يسمونه الجبل الجديد؛ لأنه يبدو للناظر أحمرَ كأنما خرج من معمل أو تشبيهاً بالثوب الجديد الأحمر، ويقع في غرب القصيم على بعد 170كم من (بريدة) يراه المسافر من القصيم إلى المدينة المنورة على يمينه قبل وصوله (عقلة الصقور)، وبـ(قطن) وقع يوم من أيام العرب في الجاهلية في حرب داحس والغبراء. ويفصله عن (طمية) التي تقع غربه نحو 60 كم.
وقد فصّل العبودي هذه الحكاية الأسطورية في معجم بلاد القصيم فذكر أنَّ (طمية) كانت تسكن الحرّة قرب خيبر، فلما أضاء البرق مرة رأت جبل (قطن) على البعد فعشقته وجاءت إليه لتتزوجه، غير أنها رأت (عكاشاً) في مكانه هذا من الطريق فهويته وتزوَّجت به واستبدلت قطناً به، فأثمر زواجهما ولداً هو الجبل الصغير المسمّى (ديم) الواقع إلى الشمال منهما.
ولكن الحكاية لا تقف عند هذا الحد، حيث تستمر الأسطورة بشكل درامي مُسَلٍّ لأنَّ قلب طمية غير ثابت الود، فقد تحوّل بعد ذلك عن حب عكاش إلى حب قطن ذلك الجبل الأحمر الجميل فاستجاب قطن لندائها العاطفي وركب بكرته وتزوجها وهجرت عكاشاً ذلك الجبل الشديد السمرة.
ويضيف العبودي في رسم قطن تفاصيلَ أخرى حول الأسطورة، حيث يذكر أنَّ طمية كانت قد تزوجت عكاش الجبل الأسود الذي يقيم بجانبها، غير أنَّ لونه الأسود لم يعجبها فكانت ترى قطناً أحمر اللون مشرق الطلعة، لاسيما إذا رأت البرق ينعكس على صفحة وجهه فهجرت زوجها عكاشاً المسكين ونادت بقلبها قطناً، فاستجاب لندائها العاطفي وتناول (الرحيل) وهو جبيل صغير بقربه ووضعه على (البكرة ) وهي إحدى هضاب قطن سميت بهذا الاسم بعد الحادثة حسب زعمهم، وسار إليها فقضى كل منهما من صاحبه وطراً ، إلا أنه لم يذكر أنَّ هذا العشق والهيام أثمرَ أولاداً ، في حين أثمر زواج طمية بعكاش ولدين صغيرين هما اللذان يسميان (ديمات) بالجمع بمعنى ديمين بالتثنية أو (ديم) بالإفراد. أما عكاش زوج طمية فإنه وهو ينظر إلى حليلته تتبادل العبارات التي يستحيا منها مع غريم له أكثر شباباً، فإنه كاد يتقطع من الغيظ، وقد ازداد وجهه الأسود لهذا السبب سواداً على سواد!! على أنَّ هناك خرافة للأعراب تقول إنَّ الدافع لقطن أن يذهب إلى طمية ليس تلبية النداء الغرامي لطمية، وإنما هو بدافع النخوة والحمية بناء على استغاثة طمية به وذلك عندما ركب عكاش بسحنته التي لا تحبها طمية جبلاً أسودَ في المنطقة اسمه (الحبلى) اتخذه مطية لهذا الغرض، فصاحت طمية:”قطن يا رجّالي، عكّاش عقر جمالي” وكانت استجابة قطن لهذه الاستغاثة سريعة إذ ركب هضبة البكرة وأنقذها من عكاش!!
ونجد في المصادر شواهد عديدة تؤكِّد تداول هذه الأسطورة والتسليم بها في نجد والحجاز إلى وقت قريب، بل إنَّ هناك من لا يزال يصدّق هذه الأسطورة ويسلّم بها إلى اليوم، ومن الشواهد الشعرية على ذلك قول الشاعر: عبد الهادي بن ثعلي:
الود قسمي منه والله ما أخليه
ما زال راسي يعتصب بالعمامة
عاني (طمية) قدمنا طقها التيه
خذت مع الحزم الرقاق انهزامة
شافت (قطن) واختارته من مشاهيه
والصبح (مقلعها) تراطن حمامه
حيث يشير عبدالله بن رداس في كتابه (شاعرات من البادية) في شرحه للأبيات إلى أنَّ الشاعر يتحدَّث عن حكاية متداولة تذكر أنَّ (طمية) كانت زوجة لجبل اسمه (عكاش) أسود صغير، وحصل تنافس على هذه الزوجة بين زوجها عكاش وجبل آخر اسمه (قطن) وتطوَّرت إلى أن أصبحت عداوة فحمل (قطن) الرمح وضرب به (عكاش) فجعله نصفين وعندما ذهب (قطن) لحقت به (طمية)، حيث عشقته لجماله وشجاعته، وبقي أثرها في مكانها الأصلي حفرة يفرخ فيها الحمام.
هنا يتضح أنَّ مكان طمية الأصلي أو مقلعها من الأرض معروف ومحدَّد في الذاكرة الشعبية، حيث إنه تحوَّل إلى حفرة عظيمة يفرّخ فيها الحمام ويأوي إليها. إذاً أصبح لدينا موضع يرتبط بهذه الأسطورة وقد يكون سبباً لتصنيفها ضمن الأساطير التعليلية أو التفسيرية؛ لأنَّ رؤية الإنسان بينما يتأمل بيئته ويتعرَّف إليها لهذا الموضع الغريب الذي أدهشه وشدَّ انتباهه وبعث التعجُّب في نفسه في ظل عدم قدرته الذهنية أو خزينته المعرفية على التفسير العلمي الصحيح لتشكل المكان أو عدم استيعابه للأسباب الكونية أو الجيولوجية المولدة لبعض التضاريس الطبيعية، هذا الموضع هو (فوهة الوعبة) أو كما يسمّونه (مقلع طمية) وهو حفرة عميقة في الأرض بقطر دائري يبلغ 3 كيلومترات وبعمق 380 متراً. تقع على بعد 6 كيلومترات من شمال بلدة )حفر كشب(، كما تقع على بعد 30 كيلومتراً شمال بلدة )أم الدوم) في محافظة الطائف في حرة تسمّى (حرة كشب) التي تقع في أعالي نجد غربها (وادي العقيق) وشرقها (الدفينة) وجنوبها (سهل ركبة) وشمالها (هضب القليب)، والحرار في الغالب هي حجارة بركانية فيرجّح أنَّ هذه الفوهة (الوعبة) التي تسمّى (مقلع طمية) هي فوهة بركان خامد عجزت الذاكرة الشعبية عن تفسيره فلجأت إلى نسج الأساطير الخيالية لتفسيره، حيث ربطت بين شكل هذا المقلع، بزعمهم، وشكل جبل طمية البعيد كل البعد عنها، كما ربطت بين لون الحجارة في الموضعين وشريط الحجارة المتناثر في منطقة الحرة الذين يزعمون أنه تساقط من جبل طمية أثناء عبورها في الفضاء للاتجاه إلى قطن وعكاش!!
ومن الشواهد الأخرى التي جعلت قصة عشق طمية وقطن رمزاً للعشّاق يؤكِّد القدرة الخارقة للحب والغرام وتأثيرها العجيب حتى في الجمادات، حيث إنها استطاعت نقل الأطواد الرواسي من أماكنها بل اقتلعتها اقتلاعاً، فكيف نلوم البشر على ما يفعله بهم الهوى:
الهوى من قدمنا شدّد طمية
ضلعة من كشب شدت يم أبانِ
وهذا ما يؤكِّد أنَّ الذاكرة الشعبية سجَّلت وجود طمية سابقاً في حرة (كشب) وليس في حرة (خيبر) كما ذكر العبودي، ثمَّ انتقلت منه إلى المنطقة التي تقع بين القصيم والمدينة المنورة غير بعيد عن جبلي أبان في حين أنَّ مقلعها في كشب ما زال مفتوحاً ومشاهداً، حيث أصبح موئلاً للحمام تفرخ في رفافه بأمان كما سبق الإشارة إلى ذلك في أبيات ابن ثعلي.
وأخيراً فلا يتصوَّر القارئ أنَّ هذه الأسطورة مع ما فيها من إبداع خيالي محلّق وحبكة درامية عجيبة من اختراع الفكر الشعبي في الجزيرة العربية في عصور العامية، بل إنَّ للأسطورة جذوراً في التاريخ والأدب العربي القديم تؤكِّد أنَّ التراث العربي ينطلق من قاعدة واحدة تتناقلها الأجيال ويورثها الأجداد للأحفاد في ظل تشابه الظروف البيئية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الجزيرة العربية على مدى قرون طويلة، والتي لم تتغيَّر على مدى التاريخ كما تغيرت بعد اكتشاف البترول في أوائل القرن العشرين الميلادي، فقد ذكر ياقوت الحموي (ت622هـ) في كتابه الشهير (معجم البلدان) في رسم طمية نقلاً عن ابن الكلبي أنَّ جبل طمية سمي بطمية بنت جام بن جُمي من بني عمليق، ونقل عن السكوني قوله: إذا خرجت من الحاجر تقصد مكة تنظر إلى طمية وهو جبل بنجد شرقي الطريق وإلى عُكَّاش وهو جبل تقول العرب إنه زوج طمية سمكهما واحد وهما يتناوَحان. وفيهما قيل:
تزوجَ عُكَاش طمية بعد ما
تأيمَ عُـكَـاش وكــاد يشـــيب
وقال ياقوت أيضاً في رسم عكاش: “قالوا: وعُكاش، جبل يناوح طمية ومن خُرافاتهم أن عكاش زوجُ طمية”. وقال الفيروز آبادي (ت817هـ) في (القاموس المحيط): “ومن خُرافاتهم: عُكَّاشٌ زَوْجُ طَمِيَّةَ”، ونقل الزبيدي (1205هـ) في (تاج العروس) قول الصّاغَانِيّ: “ومِنْ خُرافَاتِهِمْ: عُكَّاشٌ زَوْجُ طَمِيَّةَ، قال الرّاعِي:
وكُنّا بِعُكَّـاش كـجَـارَىْ جَـنَـابَةِ
كَرِيمَيْنِ حُمَّا بَعْدَ قُرْبٍ تَنَائِيَا
قال العبودي: وأما عشقها لقطن فإنني لم أرَ من ذكره عن المتقدمين، ولعلَّه من الأشياء التي لم يسجِّلها العلماء ولكن المحدثين سجَّلوها في أشعارهم وأسمارهم حتى اتخذ بعضهم من ذلك لغزاً!!