1,973 عدد المشاهدات
الكاتب : جمال بن حويرب
لا يمكنُ الحديثُ عن المستقبلِ بمعزلٍ عن الحاضر، كما لا يصحُّ الحديثُ عن حاضرٍ ناجحٍ مزدهرٍ بمعزلٍ عن الماضي؛ فالزَّمنُ سلسلةٌ متَّصلةُ الحلقات بعضها ببعض، وأيُّ انفصالٍ أو انقطاعٍ في إحدى حلقاتها سيؤدي إلى شرخٍ في الذاكرة، وهذا سيعطي لوحةً مشوَّهةً للزمن، لا تُعبِّرُ عن التكامل الذي يُعدُّ من السُّنَنِ الكونيَّةِ التي خَلَقَ اللهُ عليها هذا الكون، وجعلها مرتكزاً أصيلاً في كينونةِ البشرِ على هذه الأرض. يكفي التاريخَ شرفاً والعالِمَ به فخراً، أنه يكتسبُ منه العِبَرَ والعِظاتِ التي تُعدُّ شعلةً يستضيءُ بها في قادمِ أيامه، فالخبراتُ التي يجنيها العالِمُ بالتاريخ لا توجَدُ عند الإنسان العادي الذي تغاضى عن الماضي وما تسرده الأزمنة الخالية من أحداث. من هنا يقول شيشرون: «التاريخُ شاهدُ الأزمنة، ونورُ الحقيقة، وحياةُ الذاكرة، ومعلِّم الحياة، ورسولُ القدم». وما أجمل التسمية التي أطلقها ابن خلدون على تاريخه، التي تحمل في طياتها هذه المعاني، إذ سمّى كتابه: «العِبَر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومَن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر».
لا أعيدُ خطأ جَدّيإن َّالدعوى لا تُعتَمَدُ إلا ببيِّنة تشهدُ لها بالصِّحة، وهنا أسردُ قصةً تدلُّ على الأهمية التي يحملها العلمُ بالتاريخ. ففي عام 1902 دخل الملك عبد العزيز آل سعود الرياض، وبدأ يكوِّن الدَّولة السعودية الثالثة، أراد حاكم نجد والرياض وحائل سابقاً عبد العزيز المتعب الرشيد أن يغزوَ الرياض، فقال عبد العزيز آل سعود لأهله، وهو صغير السِّن آنذاك، لكنه حافظ للتاريخ: اخرجوا من الرياض، لا أعيدُ خطأَ جَدّي عندما حوصِر في الدرعية، طلبوا منه أن يخرجَ من الدرعية عندما حاصرته جيوش إبراهيم باشا، ولم يخرج، قال سأتحصَّن في الدرعية، فما الذي حصل؟ دمَّروا الدرعية، وأُخِذَ هو وأهله وأخواله وجميع من كان في الدرعية أسرى؛ قُتِل مَن قُتِل، ونُفِي مَن نُفِي.. وانتهت الدولة السعودية الأولى.بين عامي 1902-1903 استفاد الشاب عبد العزيز آل سعود من عبرة التاريخ، فقال: نخرج إلى الصحراء، وخرج، فماذا سيحارب الرشيد في الصحراء؟ رجع الرشيد ولم يستطع التَّغلُّبَ على عبد العزيز.
التعلُّم بالقدوة
التاريخُ إذاً بشكله، شاهدُ الأزمنة التي مرَّت، ونورُ للحقائق، تَعْرِفُ به عدوَّك مِن صديقك. وهو حياةٌ للذاكرة، ويعلِّمُ الإنسان، ويعلِّمُ المؤسَّسات، ويعلِّمُ الشركات، ويعلِّمُ كذلك الحكومات والشيوخ والملوك، وهو رسولُ القدم؛ لأنه الباقي من الزمن البعيد. التاريخُ فيه استفادةٌ من تجارب الأولين، تأهُّب واستعداد لتقلبات الزمن، واستشراف للمستقبل. إنه يدفعنا للنظر والاقتداء والمقارنات التي تُعدُّ ذات أهمية كبرى في بناء الإنسان والأمم؛ فالتعلُّم بالقدوة من أرقى أساليب الارتقاء بالذات، والانقطاعُ عن التاريخ يؤدي بنا إلى فصم الواقع عن الماضي، وإبعاد الأجيال عن ماضي أجدادهم، وهم بذلك يفقدون اكتساب العِبر من أحداث مرَّت للاستنارة بها والقياس عليها في حاضرهم ومستقبلهم؛ إذ القياس من أرقى طرق الاستنباط والاعتبار. كل ذلك يجنى من فوائد علم التاريخ، ولن تتحقَّقَ تلك المنافع إلا باستدعاء جميع الطاقات لخدمة تاريخ دولتنا، بشتّى الطرق؛ بالتأليف، والبحث العلمي، والإنتاج الإعلامي بكلِّ أشكاله؛ إذ لو بقينا دون إنتاج مسلسلات تاريخية، ولا أفلام وثائقية، ولا فيديوهات في اليوتيوب، ولا مجلات محكَّمة، ولا كتب تاريخيَّة، فكيف لتاريخنا أن يبقى في المستقبل؟
الماجدي بن ظاهر
شاهدنا مسلسل الماجدي بن ظاهر، وهو أهمُّ شخصية شعرية في دولة الإمارات، لكن للأسف، فإنَّ هذا المسلسلَ لم يوفِّ هذه القامة حقَّها؛ فلا الأسلوب صحيح، ولا اللغة صحيحة، ولا قراءة الشعر صحيحة، ولا حتى اللهجة صحيحة. أضف إلى ذلك أنَّ تصرُّفَ الممثلين مع الإبل لا يمت للبداوة بشيء، فليس ركوبُ المرأة للمطية كركوب الرجل، وليس تعامُل الممثلين مع المطايا تعاملاً صحيحاً كتعامُل البدوي مع ناقته ومطيَّته، ولا طريقة حملهم للعصا صحيحة، ولا مسك الخطام، ولا إناخة المطايا؛ ولا حتى الشداد. كما أنهم أخطؤوا في اختيار الزي واللباس، بل إنَّ إلقاء القصيد ركيك. وبناء بيوت الشعر وبيوت السَّعَف لا يمت للواقع التاريخي بصلة. لم يراعِ المسلسلُ خصوصياتِ تراثنا؛ فالبدويُّ الإماراتيُّ لا يبني بيتاً مفتوحاً من الأمام. إنَّ قنواتِنا التلفزيونيَّةَ تحتاجُ إلى مَن يعينها، وكذلك كُتّابنا وأرشيفاتنا تحتاجُ إلى من يعينها. فمن غير تضافر الجهود والعمل الجماعي الاحترافي لا يمكن أن نخدمَ تاريخنا وتراثنا بالشكل الذي يليقُ بدولتنا التي سابقت الأمم، وارتقت عنانَ السَّماء.