الثقافة والتراث في فكر زايد جذوة الماضي التي تضيء المستقبل

Business مجلة مدارات ونقوش – العدد 10

 2,156 عدد المشاهدات

مدارات ونقوش – خاص

المتأمل في المقاربة الثقافية والتراثية للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، يجدها مقاربة شاملة ومتكاملة، نقلت ماضيها التليد إلى المستقبل المشرق، دون انبتات عن الجذور ولا الموروث؛ فالرؤية الفكرية لزايد معتزّة بماضيها ومنبتها وأرومتها العربية والإسلامية، وتتطلَّع إلى المتغيرات بروح متوثّبة وواثقة معتزّة بهويتها، وقد أكّد الشيخ زايد في أقواله وأفعاله هذه الرؤية، وما تعيشه الإمارات اليوم ما هو إلا حصاد لذلك الزرع الطيب بالأمس.
ونحن نعدّ هذا الملف كان من حسن الحظ تزامنه مع إقامة ندوتين فكريتين مهمتين في دبي، عن زايد والثقافة، الأولى نظّمتها ندوة الثقافة والعلوم، من خلال مؤتمرها السنوي الذي ناقش النهضة الثقافية في عهد زايد، والثانية نظّمتها مؤسَّسة سلطان بن علي العويس تحت عنوان زايد والبُعد الثقافي، وناقشت كلتاهما إرث زايد الثقافي، الذي بقي حاضراً لا يغيب في الوجدان والذاكرة، ويشعُّ على مر الزمن، وتتقد جذوته كلما خطت الإمارات خطوة في سباق الحضارة.

زايد والثقافة
فالثقافة كانت دائماً في صلب اهتمام زايد، وربطها بالمستقبل لأهميتها في بلورة الأجيال والحفاظ على الموروث، وعن ذلك قال معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، وزير التسامح، خلال كلمة له في افتتاح ملتقى العويس، إنَّ رؤية زايد الثقافية سبّاقة، وأكّد: «إنَّ الشيخ زايد أثبت، بما لا يدع مجالاً للشك، أنَّ القيادة الحكيمة والمستنيرة قادرة تماماً على تشكيل المجتمع، فقد كان يمتلك رؤية واضحة لمستقبل الإمارات»، مضيفاً أنَّ زايد كثيراً ما يردِّد: «يجب أن ندرك أنَّ الثقافة في الإمارات تجمع بين الثبات والمرونة، فهي ثابتة أمام كل ما يتصل بالعقيدة والعبادات والأخلاق، وهي مرنة من خلال انفتاحها على الثقافات الأخرى، إذ كان يؤكّد دائماً أهمية تأكيد الهوية الوطنية، وتنمية الاعتزاز بالنفس لدى جميع أبناء وبنات الإمارات، وتأكيد دورهم في نشر مبادئ التعايش والسلام، بل وكذلك دورهم في تأكيد مكانة الثقافة في تحقيق الوحدة في المجتمع».
ولفت معالي الدكتور أنور محمد قرقاش، وزير الدولة للشؤون الخارجية، رئيس مجلس أمناء مؤسَّسة سلطان بن علي العويس الثقافية، إلى أهمية دور الثقافة في تعميق الحسّ بالمسؤولية الوطنية، سيراً على إرث المغفور له الشيخ زايد بن سلطان، الذي أحبَّ الثقافة والشعر، وأهمية ذلك في ربط الأجيال بالموروث.
لذلك فالمنجز الحضاري الذي تشهده الإمارات في شتى المجالات، ما هو إلا لبنة أساس وضعها الوالد المؤسس، أرست الفعل الثقافي الذي أبرز الشارقة عاصمة ثقافية وعاصمة للثقافة الإسلامية وعاصمة للسياحة، ودبي بمبادراتها الرائدة من مشروع تحدي القراءة، إلى مكتبة محمد بن راشد، التي ستكون أكبر مكتبة على مستوى الوطن العربي، ومتحف اللوفر في أبوظبي وجزيرة السعديات، وغيرها من المشروعات الثقافية في مختلف أنحاء الدولة، كما قال أيضاً بلال البدور في كلمته الافتتاحية، لمؤتمر ندوة الثقافة والعلوم.
واستعرض معالي الفريق ضاحي خلفان تميم، نائب رئيس الشرطة والأمن العام في دبي، في الجلسة الأولى لملتقى زايد والبعد الثقافي، كيف كان الكتاب المعين الأول الذي نهل منه الشيخ زايد، بينما كان القرآن الكريم أول زاده العلمي، إذ بدأ رحلة التعليم في سن الخامسة على يد «المطاوعة». وتطرّق إلى أبعاد عدة في شخصية زايد الثقافية، إذ كان قائداً يملك ثقافة واسعة، ويقرأ مستجدات الأحداث، ويطلع على ما يوسع مداركه، وهو بذلك تمكن من التأثير في الآخرين من خلال ثقافته المتنوّعة والشمولية، مشيراً إلى رؤيته الاستراتيجية، ومن ذلك اهتمامه المبكر بعلوم الفضاء، واستضافته لفريق «أبوللو» سنة 1976 ليشرحوا له رحلتهم إلى الفضاء آنذاك.
بينما تحدَّث المؤرخ والأديب جمال بن حويرب عن «زايد الإنسان والشاعر»، في الجلسة الأولى بمؤتمر ندوة الثقافة والعلوم، قائلاً: إنَّ زايد اهتمَّ بالثقافة، وأصدر عام 1968 مرسوماً لجمع الوثائق والمعلومات لحفظها للاستفادة منها. وجاء على ذكر الشعر الذي أولاه اهتماماً خاصاً، حيث اهتمَّ بقراءة قصائد المتنبي، واهتمَّ بالشعر النبطي وكتبه.

زايد والتعليم
كما اهتمَّ زايد بالتعليم في مقاربته الثقافية الشاملة، ففتح المدارس والجامعات، وأوفد الطلبة والمبتعثين لتحصيل العلم، وعقد الشراكات القوية في هذا المجال لنقل الدولة إلى مستويات متقدمة في النهضة الثقافية. وقال بلال البدور في ورقة بعنوان «زايد والتعليم»، في ملتقى العويس: إن شخصية زايد محبة للتعليم، وشجع طالبي العلم، كما أرسل، منذ كان حاكماً للعين، رسائل إلى بعض قادة الدول العربية لمده بمدرّسين، ما يدلُّ على وعيه المبكر بأهمية انتشال شعبه من براثن الأمية، وتمكينهم من التعليم.
وكانت المدرسة النهيانية من أوليات المدارس في أبوظبي، ومع نشوء الدولة، تكفّل بالإنفاق على الطلبة، وتشجعيهم على التعليم بصرف رواتب ومنح، وبناء المدارس والمعاهد، فكان من أهمها جامعة الإمارات العربية المتحدة وجامعة زايد وكليات التقنية العليا، إضافة إلى العديد من الجامعات والكليات الأخرى في كافة إمارات الدولة، والتي تفوق اليوم أكثر من 70 مؤسَّسة للتعليم العالي، لتتحقَّق مقولة المغفور له بإذن الله، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيَّب الله ثراه: «إنَّ تعليم الناس وتثقيفهم في حدِّ ذاته ثروة كبيرة نعتزُّ بها، فالعلم ثروة، ونحن نبني المستقبل على أساس علمي».
وكما ازدهرت المؤسَّسات التعليمية ازدهرت المؤسَّسات الثقافية النظيرة، حيث قال سعيد حمدان، في مؤتمر ندوة الثقافة: إنَّ زايد اهتمَّ ببناء الإنسان بوصفه قاعدة لنهوض الدولة، فكانت الحركة الثقافية التي تأسّست فترة السبعينيات، وشهدت زخماً ملحوظاً في فترة الثمانينيات، نواة لبروز العديد من المؤسَّسات التي شجَّعت الإنتاج الفني والإبداعي، مثل وزارة التربية والتعليم، ووزارة الإعلام والثقافة، والأندية الرياضية، والمجمعات الثقافية، وجمعيات النفع العام، التي خدمت الفنون الشعبية والمسرح والتشكيل ومختلف ألوان الثقافة.

زايد والتاريخ
الدكتورة فاطمة الصايغ، في ورقة بعنوان «زايد والتاريخ» في ملتقى العويس، طافت على محطّات من حياة الشيخ زايد وعلاقته بالتاريخ، فقالت: إنَّ زايد كان بارقة أمل لشعب الإمارات ولشعوبنا العربية عامة، وكما اهتمَّ زايد بالتاريخ اهتمَّ التاريخ به، لأنه مثّل الرمز العربي القومي، والقيادة الشعبية التي تتماهى مع احتياجات الناس، وتلبي طموحاتهم وتطلعاتهم، وبالتالي، لا يمثّل زايد زعامة عربية، بل قامة من القامات العالمية، والرموز التاريخية المهمّة التي يفخر بها شعب الإمارات والشعوب العربية.
وتساءلت: هل كان زايد مدركاً للإرث الذي سوف يتركه، وأنَّ ما يقوم به سوف يسجله التاريخ ويحكم عليه؟ أم أنه عمل لشعبه دون أن يعير اهتماماً لما سوف يكتب عنه لاحقاً؟ إذ ترك لنا إرثاً لا يمكن نسيانه بسهولة؛ إرثاً سياسياً محلياً وعربياً تفخر به الإمارات، جيلاً بعد جيل، كما ترك إرثاً اجتماعياً وثقافياً وفكرياً، سطّر اسمه في قائمة الرموز العالمية، وفي سجل التاريخ الإنساني.

زايد والتراث
أمّا الدكتور فالح حنظل، فأشار في ذات الملتقى إلى أنَّ الشيخ زايد أعطى من وقته الكثير لتوثيق الأمكنة والاهتمام بها لتكون مفخرة للأجيال. وأشار الخبير التراثي ناصر حسين العبودي، إلى علاقة الشيخ زايد بالتراث، في ملتقى العويس، حيث قال: إنَّ زايد اهتمَّ بالتراث الحضاري للدولة، وأمر بجلب كلّ الوثائق التي تتناول تاريخ أبوظبي والإمارات بشكل عام، كما رمّم الآثار الإماراتية، وأرسل للتنسيق مع البعثات الأثرية، لدراسة كلّ المناطق الأثرية والتاريخية في الدولة، وكان على دراية واسعة بأهمية هذه المستحاثات والحفرية التاريخية، ويتابعها باهتمام بالغ.

زايد والإعلام

وعن الإعلام، كجزء من المقاربة الثقافية في فكر زايد، تحدّث الإعلامي علي عبيد الهاملي، في الندوتين الفكريتين في دبي، فقدّم بحثاً عن «زايد والإعلام»، تذكّر من خلاله مواقف للمغفور له الشيخ زايد مع الإعلام والإعلاميين، وضرب أمثلة أكّدت تقدير باني نهضة الإمارات للإعلام، باعتباره أداة قوية تحرّك المجتمع، وتنقله من حال إلى حال، وتوجيهه الدائم للإعلام بالتمسّك بالهوية الوطنية والعربية الإسلامية، ما يوضّح إدراكه لأهمية الرسالة الإعلامية في تشكيل الوعي الثقافي والنهضة الحضارية.

لذلك يمكننا القول إنَّ الثقافة بمختلف تجسداتها الإبداعية والمؤسَّسية كانت ركيزة أساسية من ركائز العمل الثقافي عن زايد، ومن ثوابت فكره ورؤيته، ومن تتبَّع المشروع الثقافي الإماراتي يرى كيف بزغت تجارب وتطوّرت، لتشكّل حراكاً ثقافياً عربياً وعالمياً شمل جميع أوجه الحياة الثقافية المتعارف عليها في معظم دول العالم، وهو مُنجز عالمي تفخر به الإمارات اليوم، وهي تضع الثقافة على أولويات وسائلها في تواصلها العالمي من خلال الدبلوماسية الناعمة.