الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخير

الخيول العربية مجلة مدارات ونقوش – العدد 12 هالات

 4,620 عدد المشاهدات

الكاتب : جمال بن حويرب

ليست الفروسية عند العرب إلا تراثاً خالداً توارثوه عن أجدادهم منذ فترة طويلة جداً، لم يستطعْ أحدٌ من المؤرخين أن يحدِّدَ تاريخَ بدايتها، وإن جاءت بعضُ الأخبار بأنَّ جدَّ العربِ نبيَّ الله إسماعيل هو أوَّلُ من ركب الخيل العربية، بعد أن كانت وحشاً أوابدَ ولم تكن تقترب من البشر؛ فأخذها وأنست به، ولهذا تسمّى “الخيل العِراب”، واسمها في جميع لغات العالم اليوم “الخيول العربية“، وصفاتها خالدة لا تتغيَّر؛ لأنها أخذت من أرض الجزيرة قوَّتها وتحمُّلها، وأخذت من العرب أصالتهم وعزَّتهم حتى طُبعت أخلاقهم في أخلاقها وسماتهم في سماتها سبحان الله! ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة”، وهناك أقوال أخرى، الله أعلم بصحتها، رواها الكلبيُّ النسّابة وغيره، وزعموا أنَّ الخيل كانت في بلاد اليمن، ثمَّ دخل بعضها في الجزيرة العربية بعد خراب مملكة سبأ، وإن كان ما قاله الكلبيُّ صحيحاً فلم يذهب رأيه بعيداً، بل هو قريب النَّجْعة؛ لأنَّ اليمن والجزيرة العربية كالجسم الواحد.

سباق الأخيال

جاء في فضل الخيول أحاديثُ صحيحةٌ، وروى الرواة اعتناء الرسول صلى الله عليه وسلم بها، وليس بمستغربٍ على الرسول الكريم حفيد النبي الكريم إسماعيل أن يكون كذلك، وكان العرب قبل الإسلام ومنذ القدم، يعتنون بها غاية الاعتناء، ويتسابقون على ظهورها، ويجعلون للفائزين جوائز ويسمّون الفائز الأول “المجّلي”، وهكذا حتى المتسابق الأخير فيسمّونه “السُّكيت”، وبلغ من حبّهم لها أنهم كانوا يعدّونها علقاً نفيساً؛ كما قال أحدهم عندما سُئِل أن يبيعَ فرسه “سكابِ” لأحد الملوك؛ فقال له في قصيدة مشهورة:

أبيتَ اللعنَ إنَّ سكابِ علقٌ

                     نفيسٌ لا يباعُ ولا يُعارُ

أمّا عن جواز السباق بالخيل، فقد أقرَّه الإسلام وحضَّ عليه، وروى الشيخان (البخاري ومسلم) عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي ضُمّرت وكان أمدُها (مسافتها) من “الحفياء” إلى “ثنيّة الوداع” (تقريباً 11 كم)، وسابق بين الخيل التي لم تضمّر من “الثنيّة” إلى مسجد بني زريق (تقريباً أقل من 2 كم)، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فيمن أجرى (سابق). وروى الذهبيُّ رحمه الله، بإسناده إلى أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحضر الملائكة من اللهو شيئاً إلا ثلاثة: لهو الرجل مع امرأته، وإجراء الخيل (سباقها)، والنضال (بالسهم)».

الاختيار المناسب

توارث العرب عن أجدادهم أيضاً مهارة اختيار الخيل؛ فهم يعرفونها كما يعرفون أسماءَهم، وقد سألت مرّةً سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رعاه الله، عن كيفية اختياره لخيله؛ لأنه لا يختار إلا الأفضل منها، فإذا دخلت مضمار السباقات العالمية لا يُشَقُّ لها نقعٌ، فقال: «هذا علم أخذته عن والدي الشيخ راشد، رحمه الله، وقد زدت فيه دراسة وخبرة مع مرور الأيام». قلتُ: التجارب ومعرفة الخيل التي انتقلت عبر القرون وتوارثها العرب منذ الأزمنة القديمة، هي نفسها التي وصلت إلى المغفور له الشيخ راشد، وعلَّمها نجله الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم.

مصدر الخير

 هذا ولا تجد عربياً أصيلاً إلا وهو يحبُّ الخيل، وإن اختلفت الأهواء؛ لأنَّ منهم من يحبُّ ركوبها ويجد راحته فيها، ومنهم من يقتنيها لجمالها وبركتها ويباهي بها الخلق، ومنهم من أولع بالسباق بها في الميادين المحلية والإقليمية، وقد تكون مصدر الخير له، وفألاً حسناً يتبعه في مسيرة حياته، ومنهم من تعجبه مشاهدته لها فيجد في صورتها راحةً نفسيةً وشعوراً بالعزة والأنفة والكرامة والرحمة في آنٍ واحد؛ فكلُّ من يقف أمامها ينْجَبذُ إليها شنشنةً وطبيعةً، فكيف إذا كان عربياً ووقف أمام الخيل العِراب، التي في صفاته وصفاتها من التشابه ما فيها! سيكون الأمر عجيباً، وسوف تتحرّك (جينات) آلاف السنين عند تلك اللحظة، وهذا حقاً ما أشعر به عندما أراها، وإن لم أكن فارساً أو مالك أخيالٍ، ولكنه الشعور الذي ينتابني كلّما تقع عيناي في عينيها.

وقد ورث سيّدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، رعاه الله، حبّ الخيل كابراً عن كابرٍ من أجداده لأبيه آل مكتوم، وأجداده لأمه من آل نهيان، ومن تتبّع سيرة الأسرتين الكريمتين فسيجد لديهما شغفاً عجيباً وولعاً منقطع النظير باقتناء أفضل الخيول؛ فهم يربّون أنجالهم عليها منذ قديم الزمن، ولا تعجبوا إذا وجدتم من يمدحهم يذكر ذلك ويخصّهم به كمثل قول الشاعر العماني الكبير أبي مسلم ناصر بن عديّم الرواحي (1911-1857م) في مدحهم ومدح قبيلتهم:

قومٌ على صهَواتِ الخيلِ طفلهمُ

                      يربو له من دمِ الأبطالِ ألبانُ

فالشاعر مدحهم على ما عُرِفوا في ذلك الزمن، وهو لم يكن بينهم ليطلب رفدهم وصلاتهم وإنما ذكرهم ضمن قصيدة طويلة ذكر فيها كثيراً من القبائل، ولكنه خصَّ قبيلة بني ياس بأبيات جليلة وأوصاف بليغة وكان من أمدحها ذكره حبّهم للخيل.

ولهذا الأمر جاء جواب الشيخ محمد بن راشد عفوياً عندما سُئِل عن الفروسية من قِبَل مجلّة “الرجل” اللندنية في سنة 2000 فقال: «حبُّ الخيل في دمي، ولا تنسَ أنَّ الخيل العربية وُجدت مع القبائل العربية وكانت أداةً مهمةً في الصيد وفي الحرب، وهي تمثّل تاريخ العرب؛ الفروسية ليست مجرَد ركوبٍ للخيل، بل هي أصالةٌ وسلوكٌ، لقد ولدت على حبِّ الخيل، والوالد (الشيخ راشد) عرَّفني منذ صغري على الخيل وعلَّمني ركوبها وشاركت، وما زلت أشارك، في سباقات القدرة والسرعة سواء كانت محلياً أو إقليمياً».

دعوة

في هذا العدد من مجلتكم مدارات ونقوش خصَّصنا مجموعةً من المقالات والأبحاث عن الخيول العربية الأصيلة، جرياً على عادتنا في تخصيص موضوع لكل عدد، ويشرفني أنَّ مركزكم ومجلتكم من هذا العدد ستضيف قسماً لدراسات الخيول العربية، ومن يُرِدْ أن يشاركنا هذا العمل الحضاري الذي نحفظ به تاريخ خيولنا العربية في دولة الإمارات والجزيرة العربية، فإنه مرحَّبٌ به في أي وقت.