3,490 عدد المشاهدات
الدكتور محمد المختار السعد – مؤرخ وباحث موريتاني
شكّلت مسالك القوافل عبر الصحراء جسور تلاقح حضاري عميق الأثر بين الشعوب الإفريقية شمال الصحراء وجنوبها، كما نسجت عُرىً اقتصادية واجتماعية وثقافية وثيقة على مرِّ الزمن، ربطت أيضاً المغرب بالمشرق، وكان لرحلات الحج دورها البارز في ذلك، ومن ضمن هذه الرحلات رحلة محمد يحيى الولاتي في القرن التاسع عشر.
وصاحب الرحلة هو محمد يحي بن محمد المختار بن الطالب عبد الله ولد بمدينة ولاته الصحراوية الواقعة في أقصى الشمال الشرقي الموريتاني عام 1259هـ/1843م وتوفي بها سنة 1330هـ/1912م. وقد ارتبط اسمه بتلك المدينة لشهرتها التاريخية شمال الصحراء وجنوبها كمحطة من محطات القوافل عبر الصحراء، ومنارة علم ومعرفة قبل أن يبدأ مسار انحطاطها في القرن الخامس عشر الميلادي، ويصيبها الوهن ويهجرها العديد من سكانها مع نهاية القرن الثامن عشر.
وقد تحدَّث ابن بطوطة عن هذه المدينة بوصفها مركز إشعاع ثقافي في المنطقة وبوابة أساسية في العلاقات مع بلاد السودان بالنسبة للمسلك المرتكز شمالاً على سجلماسة وجنوباً على ولاته مروراً بتغازة.
ونَوَّهَ بحضور الجاليتين؛ المغربية والمصرية في هذه المدينة وغيرها من كبريات المدن الخاضعة لمملكة مالي، وهيمنة مَسُّوفَة- أساس ساكني ولاته وقتها- على التجارة الصحراوية سواء من حيث التحكم في إنتاج الملح وتسويقه أو خِفَارَة القوافل ودلالتها (التَّكْشِيف) وتهيئة ظروف الإقامة لأصحابها في ولاته.
وواضح من رواية ابن بطوطة أن تنوع الحضور البشري بالمدينة كان مرتبطاً بازدهار الحركة التجارية بها وحسن ضيافة أهلها «وشمول الأمن في بلادهم، فلا يخاف المسافر ولا المقيم سارقاً ولا غاصباً».
غير أنَّ ذلك الوضع سيتغيّر بتغير الأوضاع السياسية والبشرية في المنطقة وما انجر عنه من تحول في مسالك القوافل عبر الصحراء وتزحزحها.
لقد ترعرع الولاتي يتيماً في كنف والدته بتلك الواحة الصحراوية العتيقة وبها تلقى تعليمه، واختار مهنة نسخ الكتب لتلاؤمها مع مهمته التحصيلية، وما إن بلغ العشرين من العمر حتى ولج باب التأليف في النحو والبيان قبل أن يهتم، ابتداءً من الخامسة والعشرين من عمره، بالتأليف في ميادين الأصول والحديث والفقه وغيرها من علوم عصره حتى قيل إنَّ مؤلفاته بلغت 110 مؤلفات.
ولم يخرج الولاتي على التقليد المألوف في الرحلات الحجازية لدى علماء المسلمين عموماً وأسلافه الشناقطة على وجه الخصوص من حيث العناية بوصف المسالك والظروف المادية والبشرية لتنقلهم من مكان إلى مكان وما استرعى انتباههم من ممارسات اجتماعية والاهتمام بالمراكز العلمية والدينية والتعرف إلى العلماء ومشايخ التربية الروحية في المناطق المزارة والاستفادة منهم وممارسة التدريس والتأليف والإفتاء وقرض الشعر وعقد المناظرات.. إلخ. وكان الولاتي من بين الحجاج الشناقطة القلائل الذين دوَّنوا أحداث رحلاتهم الحجازية وتركوا لنا آثاراً تاريخية ثمينة.
بداية الرحلة
انطلق الرجل من ولاته في 7 رجب عام 1311هـ/ 14 يناير عام 1894م لأداء فريضة الحج، وعاد إليها بعد رحلة حافلة بالأخذ والعطاء دامت ست سنوات وخمسة أشهر، دَوَّنَ أَحْدَاثَهَا المختلفة (ماعدا شهرين أمضاهما في طريق الإياب بين أروان وولاته) بأسلوب سردي ووفق تسلسل زمني دقيق، منذ خروجه من ولاته في رفقة من أولاد بَلَّه في 14 يناير عام 1894م إلى دخوله مدينة أروان في 6 من شوال عام1317هـ/8 يناير 1900م عائدًا إلى مسقط رأسه.
وقد تناول في هذه الرحلة المعروفة باسمه طرق سيره براً وبحراً، ومحطات توقفه والمسافات الفاصلة بينها زمنياً، ومدد إقامته في كل محطة، وأسماء وطبيعة المجموعات والأفراد الذين التقى بهم وما كان له معهم من شأن، ونوعية الضيافة التي حظي بها في حله وترحاله، وما قام به من نشاط علمي وديني أثناء توقفه في المراكز المزارة. وقد طغى هذا العنصر الأخير على الرحلة التي هي في الواقع تأليف موسوعي، ينم عن سعة ثقافة الرجل العربية الإسلامية، نالت فيه العقائد وعلم الكلام والفقه والتصوف الحظ الوافر.
ويكفي للتأكد من ذلك أن نعرف أنَّ رواية أحداث الرحلة نفسها لا تمثل سوى 14% من النص المطبوع (45 صفحة) الذي حذفت منه عشرة نصوص اعتبرت مؤلفات مستقلة بذاتها، في حين استحوذت الفتاوى والمقطوعات الشعرية التي كتبت أثناء الرحلة على 86% منها (338 صفحة)، وقد صدرت هذه الرحلة محقَّقة عام 1990 عن دار الغرب الإسلامي ببيروت ومعهد الدراسات الإفريقية بالرباط بتخريج الباحث محمد حجي.
ومع ذلك فإنَّ الرحلة تقدِّم معلومات تاريخية واقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية مهمة عن المناطق والحواضر العربية المزارة في المغرب والمشرق؛ فهي تلقي بعض الضوء على واقع اثنتين من أهم محطات القوافل الصحراوية التقليدية في نهاية القرن 19 (تيشيت ـ شنجيطي) وأحياء البدو في الصحراء وانتماءاتهم القبلية، والحركة العلمية والعمرانية في منطقة السوس الأقصى، وأصحاب النفوذ فيها من أمثال أسرة أهل بيروك التكنية في اكليميم، وآل الشيخ أحمد بن موسى السملالي بتازروالت، وانطباعاته عن بلاط السلطان المغربي عبد العزيز (1894-1905) وكبار رجال المخزن آنذاك، وزعماء الطرق الصوفية في كل من المغرب وتونس.
المضمون التاريخي للرحلة
كما استعرض الولاتي النشاط العلمي والثقافي المتميز بالقاهرة والإسكندرية، وازدهار حركة الطباعة والنشر في ذلك البلد آنذاك، وما كان له من صلة بالأوساط العلمية في مصر، وما أتحفوه به من كتب. أمَّا في الحجاز، الذي هو الهدف من الرحلة، فقد استحوذت على اهتمام الرجل مناسك الحج والعمرة وزيارة الروضة الشريفة والبقيع وأُحُد وغيرها من مزارات المدينة.
وقد وظّف الولاتي في هذه المواقف كلها ذاكرته القوية؛ فتتبّع في أقواله وأفعاله ما جاء في القرآن والسُّنة وإجماع السلف الصالح، ما جعل الأستاذ محمد حجي يقول: “إنَّ هذا القسم من الرحلة حري بــأن يطبع على حدة دليلاً للحج السني”.
لكن مهمة صاحبنا لم تكن ـ على ما يبدو من رحلته ـ مقصورة على تأدية فريضة الحج فقط، وإنما كانت لديه مهام أخرى.
وإذا كانت تلك المهام تبدو لنا في الأساس مهام ثقافية، فإنه يتعيّن علينا استنطاق النص لإبراز مضامينه التاريخية الكاشفة عن بعض مظاهر التواصل الثقافي عبر الصحراء في نهاية القرن الماضي.
إنَّ أول ما يلفت انتباه قارئ رحلة الولاتي هو الغياب شبه التام للمعطيات الاقتصادية والانطباعات الاجتماعية والسياسية عن المناطق المزارة، خلافاً لرحلات الفترة الوسيطة، حتى لرحلات بعض معاصريه من الشناقطة من أمثال ابن اطوير الجنة ومحمد فال بن بابه.
فقد أقام الولاتي فترات طويلة نسبياً بكبريات “الموانئ” الصحراوية جنوباً وشمالاً (تيشيت، شنجيطي، اكليميم، إيليغ، الصويرة) ولم يورد أية ملاحظة عن مصادرها الاقتصادية أو حركتها التجارية الداخلية والخارجية في وقت كانت تسترعى فيه الانتباه.
المسالك والمسافات
سلك الولاتي في ذهابه من مسقط رأسه إلى الصويرة مسلكاً مألوفاً لدى القوافل منذ الفترة الوسيطة، وهو الطريق الأوسط من المحور الغربي المعروف “بالطريق اللمتوني” الذي هيمن على المبادلات عبر الصحراء في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين بفعل عوامل أهمها تفاعلات الثورة المرابطية، ليتراجع لصالح المحور الأوسط الرابط بين النيجر وتلمسان عبر توَات فيما بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر الميلاديين، قبل أن يبدأ مسار انتعاشه (المحور الغربي) مع بداية القرن السابع عشر، ويظل صلة الوصل الأساسية عبر الصحراء بالنسبة لبلاد شنقيط حتى بداية القرن العشرين.
فقد انتقل من ولاته إلى آغْرَيْجِيت ومنها إلى تيشيت فآغريجيت وشنجيطي التي توجّه منها إلى وَادْنُون عبر “الفيافي والمفاوز الخالية من العمران” حتى وصل إلى اكليميم. ومن هذه الأخيرة توجّه إلى”الغرب”، فمرّ بقرية تكانت، فإيفران، فمجاط، فإيليغ، عاصمة تازروالت، التي أصبحت «منذ عام 1850م المكان الرئيس للمبادلات التجارية بين المنتجات الصحراوية ومنتجات السوس وتلك القادمة من أوروبا عبر ميناء الصويرة». وقد ارتحل من إيليغ إلى الصويرة لينهي الجزء الصحراوي من رحلته الذي استغرق سنة وعشرة أشهر بسبب المرض وطول الإقامة في بعض المراكز القروية المزارة، و”لكثرة المقام في البوادي”. وهنا تكمن الصعوبة في تحديد المسافات الفاصلة بين تلك المحطات، ما دام النص لا يسعفنا في معظم الأحيان بالتمييز بين فترات السير وفترات المقام. مع ذلك تمكنّا بصعوبة من تحديد المسافات بين معظم المحطات انطلاقاً من النص نفسه.
فقد استغرق السفر بين ولاته وآغريجيت 10 أيام، وبين شنجيطي واكليميم 28 يوماً، ومن اكليميم إلى إيفران يوماً ونصف اليوم، وبين إيفران وإيليغ 4 أيام، ومن إيليغ إلى الصويرة 27 يوماً. وينبغي التنبيه إلى أنَّ المسافة ما بين ولاته واكليميم قد قطعت على الجمال، في حين كان التنقل من اكليميم إلى إيليغ بالبغال، ومن هذه الأخيرة إلى الصويرة على الحمير على ما يبدو.
وابتداءً من الصويرة ينتهي الجزء الصحراوي من رحلة الذهاب، لتبدأ رحلة البحر ذات المسالك والمراكب المختلفة التي لم تثر الفضول العلمي لدى الصحراوي رغم عدم ألفته بها. وامتدت هذه الرحلة عبر مراسي وموانئ الصويرة، وآسفي، والدار البيضاء، والرباط، وطنجة، فالجزائر، وتونس، وبور سعيد، والسويس وجدة. وقد دامت هذه الرحلة حوالي 15 يوماً من السفر، حيث قضى 8 أيام بين الصويرة والرباط منها أربع وعشرون ساعة فقط في السفر، ويوماً بين الرباط وطنجة، وليلتين ويوماً بينها والجزائر، ونفس المدة بين الجزائر وتونس. ولم يحدد الرحالة مدة الرحلة بين تونس وبور سعيد، في حين قضى ليلة بين هذا الأخير والسويس، وأربع ليالٍ بين السويس وجدة حيث ستبدأ “رحلة” برية قصيرة إلى مكة نافت على أربع وعشرين ساعة. ثمَّ عاد أدراجه ليمضى ليلتين في السفر من جدة إلى ينبع، فالمدينة التي استغرق السفر إليها خمس ليالٍ.
وتبدأ رحلة العودة بحراً من ينبع إلى جدة بواسطة قارب شراعي “فلكا ذا أقلاع”، ليأتي دور الباخرة بين جدة والسويس. ومن السويس سيتوجه بالقطار (بابور البر) إلى الإسكندرية ثم إلى القاهرة حيث اندهش الولاتي هذه المرة لسرعة القطار حين قال: «… فسار بنا ثلاث ساعات ونصف ساعة قطع فيها مسافة سبع مراحل للإبل، وهي المسافة التي بين إسكندرية والقاهرة.
وعاد الولاتي أدراجه إلى الإسكندرية التي سافر منها إلى مالطة، فتونس، ومرسيليا، وطنجة، فالدار البيضاء حيث ستنتهي رحلة العودة البحرية. وقد استغرق السفر بين الإسكندرية ومالطة أربعة أيام، وبينها وتونس يومين لبطء سير القارب، وليلتين بين تونس ومرسيليا، وخمس ليال بينها وبين طنجة، ويوماً وليلة بين طنجة والدار البيضاء.
وكان السفر على البغال من الدار البيضاء إلى الرباط، فمراكش، والصويرة، وتازروالت واكليميم. وبعد مقام عام وشهرين في اكليميم، توجّه الولاتي وأسرته على الإبل عبر الطريق الشرقي من المحور الغربي إلى تيندوف التي استغرق السفر إليها 10 أيام، وأقام بها عاماً وشهراً.
ومن تيندوف توجَّه إلى ولاته عبر أَرَوَان وتنبكتو دون إعطاء معلومات تمكن من تحديد المسافة التي قطعها بين كل منهما.
وبذلك أنهى الولاتي رحلة شاقة ومكلفة لولا سمو مقاصدها وما لمسه في أثنائها من مشاعر أخوية وروح تضامن وتآزر اجتماعيين.
ولم يحدثنا الكاتب بصفة ملموسة عمَّا أَعَدَّ من زاد لهذا السفر الطويل، واكتفى بالقول، في أثناء وجوده الثاني في آغريجيت، إنه انشغل عن إتمام قصيدته في مكفرات الذنوب “لأجل مهمات السفر”. ويقول محقق ديوانه: إنه قرر تأدية فريضة الحج بوقت قصير بعد عودته من وفادة إلى أحمد بن الحاج عمر الفوتي الذي أهداه “سلسلة ذهبية تزن 100 مثقال وكماً من الملابس النفيسة والبضائع”. كما اصطحب الولاتي معه أَمَتَيْنِ في رحلة الذهاب الصحراوية لا نستبعد أن يكون قد استعان بثمنهما في السوس على أعباء ما تبقى من الطريق وكلفها المادية المتعددة. وإذا كنا لا نجزم بذلك، فإنَّ تصريحه بتركهما عند الحاج الحسين في إيفران وعدم مرور الولاتي به في طريق العودة، حيث توجّه من الصويرة إلى إيليغ فاكليميم مباشرة، يحمل على الاعتقاد بذلك.
كما تناول الولاتي تكاليف النقل البري والبحري وقتها بين بعض المحطات، وأنواع العملات الموجودة في السوس وتيندوف وأزواد في نهاية ذلك القرن. فقد كانت كلفة نقله وابنه محمد الحسن بين طنجة وجدة 25 ريالاً حسنية، في حين كلفهما النقل بين مراكش والصويرة عشرة ريالات، ونقل عشرة أحمال بين تازروالت واكليميم 20 ريالاً.
ومما يسترعي الانتباه أنَّ الولاتي لم يشعر بأية غربة اجتماعية أو ثقافية في أثناء رحلته الطويلة في مختلف المناطق العربية المزارة ولاسيما في المناطق الحافة للصحراء التي قام في العديد منها مددا طويلة نسبيا وشارك أهلها منازلهم وأرزاقهم ووسائل اتصالهم وهمومهم المعرفية ومشاغلهم الفكرية.
المعطيات الثقافية في الرحلة
لقد شغل الجانب الثقافي الحيّز الأكبر في رحلة الولاتي الحجازية حتى كاد يستحوذ عليها، نظراً لنزعة الرجل المعرفية ومنزلته العلمية وسعة يده في الكتب وكثرة الاستشكالات التي وجهت إليه. وإذا كان المقام لا يتسع للتفصيل في نشاطه الثقافي أثناء الرحلة، فإننا سنحاول إبراز أهم معالمه مركزين على ما قام به في منطقة المغرب أكثر من غيرها لتنوع نشاطه فيها وثرائه وطول فترات المقام.
وشغلت الفتاوى حيزاً كبيراً من رحلة الولاتي نظراً لكثرة الأسئلة التي وجِّهت إليه أثناءها، والتي أجاب عنها باستفاضة تنم عن سعة معارفه وطول نفسه في الكتابة، حيث كان العديد من تلك الإجابات قابلاً لأن يكون كتاباً مستقلاً. فقد أصدر الولاتي خلال الرحلة إحدى وثلاثين فتوى في مجالات متعددة كالفقه، والتصوف، وعلم الكلام، والأصول، واللغة والتفسير. وقد تصدر الفقه تلك القائمة باستحواذه على 13 فتوى، يليه التصوف(8 فتاوى)، فعلم الكلام (4 فتاوى)، وأصول الفقه واللغة والتفسير (فتويان في كل منها). أما من حيث التوزيع الجغرافي فإنَّ منطقة المغرب قد نالت الحظ الأوفر منها (24 فتوى) في حين أصدر فتويين في مصر وأربعاً في الحجاز.
فقد أفتى علماء تونس ببطلان إثبات رؤية الهلال بالتيلغراف، وبشأن حكم القيام عند تلاوة الورد، في حين تناولت فتاواه لأهل تيندوف حكم التفاضل بين سكك الفضة في المبادلات وقضاء الدين، وزواج العبد بأربع نسوة، وصدقة من أحاط الدين بماله، وتعريف علم الكلام وعلوم الفلسفة.
وتناولت فتاواه الـ 17 في المغرب الأقصى قضايا مثل صلاة الجمعة في مسجدي اكليميم القديم والجديد التي سبق أن شغلت باله في مدينة ولاته، والتفسير، واللغة، وعلم الكلام والتصوف.
ولم يقتصر عطاء الولاتي على إصدار الفتاوى، بل مارس التدريس أثناء الرحلة في أكثر من مكان، حيث حرص على أن يفيد من معارفه الواسعة، فمارس التدريس في خمس من محطات توقفه هي “آغريجيت” و”مجاط” و”الرباط” و”المدينة المنورة” و”مراكش”.
وقد وظّف الولاتي إلى حد كبير رحلته في الاتصال بمراكز الإشعاع الثقافي بالمناطق المزارة، والتعرف إلى صفوة علمائها ومحاورتهم وتبادل الأشعار والمؤلفات معهم وتلقي الهدايا الجزيلة كتباً ومالاً.
فقد زار المراكز العلمية والتقى بــ 28 من العلماء حدَّدهم بأسمائهم في كل من القاهرة والإسكندرية، واستفاد منهم وأفادهم، وزودوه بثلاثين من أمهات الكتب في شتى المعارف العربية الإسلامية، فضلاً عمَّا اقتناه عن طريق الشراء.
كما لقي عناية خاصة من لدن علماء وقضاة وفقهاء تونس الذين التقى بما يربو على الثلاثين منهم وأتحفوه بوافر الكتب النفيسة وأمدوه بالمال.
وصرح بلقاء 9 من فقهاء وقضاة المغرب الأقصى في ذهابه وإيابه وما كان له معهم من مذاكرات علمية وتبادل للشعر والكتب.
ولا شك في أن الحظوة الكبيرة التي نالها لدى السلطان عبد العزيز ووزيره الفقيه أحمد بن موسى وقواده المختلفين وما ناله من جمِّ عطائهم جميعاً، قد مكَّنته من اقتناء مزيد من الكتب حتى اصطحب معه إلى الصحراء ثلاثة أحمال من الكتب، وسبعة من البضائع المختلفة التى اقتناها من الصويرة.
ومارس الولاتي التأليف نظماً ونثراً خلال رحلته، وقد شكّلت هذه التآليف، نثرية كانت أو نظمية، رافداً من روافد التواصل الثقافي بين المشرق والمغرب.