4,252 عدد المشاهدات
الكاتب : محمد التداوي – كاتب وباحث مصري
ذهبت من أجل الخيل، فوجدتني في متحف يمثل ربما أهم جزء من تاريخ الخيول العربية عامة، والمصرية تحديداً. عزيزي القارئ أودُّ أن أقدم لك توضيحاً مهماً لما هو قادم في هذا المقال، وهو أنني حتماً سأبخس حقَّ ما هو موجود في محطة الزهراء لتربية الخيل العربي، ليس الخيل فحسب؛ بل هنا سيأخذك في جولة نسمات من تاريخ مهم ترك لنا نتاج ما فعل من خير، أهمّه الحفاظ على نقاء السلالات الشهيرة للخيول العربية في بوتقة مستمرة منذ أكثر من قرن من الزمان تأسيساً لهذا المكان، وعقوداً متتالية في إنتاج سلالات ناجحة رسَّخت لشهرة المكان وشهرة الخيل المصري، في الأسواق العالمية.
اجتزت كتلاً أسمنتية تراكمت كأستار تحجب الموقع والمكان الذي اختير منذ أكثر من ثمانين عاماً لأنه صحراء، والمنطقة المحيطة غير ذلك الآن، حيث تحوَّلت إلى تجمعات عمرانية. والصحراء طبيعة تلائم وتناسب الخيل وحياتها، فهي طليقة تحبُّ الحرية، وطليقة التي أعنيها تختلف في المعنى عن طلائق الخيل التي لها معنى آخر، وهي فحول الخيل المجهزة للتزاوج.
بوابة كبيرة عليها رمز أساسه شكل فرس مصري أصيل بلون أزرق يتوسط إعلاناً عن مسابقة سنوية تنظِّمها محطة الزهراء لتربية الخيل العربي الأصيل، يكون لأفراسها وفحولها نصيب الأسد من تسليط الضوء عليها وعلى ذرياتها وقبلها أنساب المشاهير من الخيل. وزيارتي لمحطة الزهراء استدعت لمخيلتي زيارة قمت بها منذ عامين تقريباً لصديق من روسيا، وكان يؤسِّس لمركز متكامل لتربية وتدريب الخيل خاصة التي من أصول عربية، وبدأ في سرد قصة ارتباطه هو شخصياً بالخيل وحبه للخيل العربي حين كان في صحبة أبيه لزيارة الحصان «أسوان» المهدى من الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر للرئيس الروسي عام 1963م، شكراً وتقديراً للمساعدات الروسية في بناء السد العالي في ستينيات القرن الماضي، وأهداهم حصاناً آخر اسمه «النيل»، له من الشهرة والأحفاد ما يجعل مكانته عالية في عالم أنساب الخيول.
والحصان «أسوان» اسمه الأصلي «رأفت»، وأمه «يسرية» بنت «شيخ البلد» و«هند»، واسمه غيِّر بسبب الحدث السياسي وقتها، وهو بناء السد جنوب مدينة أسوان المصرية، والحصان «أسوان»، سابقاً «رأفت»، هو ابن لواحد من أهم وأشهر الفحول في تاريخ الخيل العربي، وهو الفحل «نظير» مواليد محطة الزهراء التاسع من شهر أغسطس عام 1934م، الذي أنجب أكبر عدد من الفحول القوية، والتي أصبحت أعلاماً في عالم الخيل، تنسب إليها خيول أصبحت شهيرة عالمياً، وهي ستة غير أسوان:
1.«ابن حليمة»، آخر الفحول ولادة، وربما أشهرها، خاصة في الولايات المتحدة، حيث اشتراه السيد دون فوربس، الذي كان بدايته لإنتاج فحول وأفراس تنتمي إلى العرق العربي. جعل من محطتهم التي أسموها «أنساتا» قبلة لمربي الخيل العربي في أمريكا الشمالية، ولا ينكر دور السيدة جوديث زوجته في ذلك المجال، وربما هي من أكثر الناس إنتاجاً للكتب التي تتعلَّق بقصصها مع الخيول العربية.
2.«أنساتا حليم شاه»، هو ابن «أنساتا» ابن «حليمة» وهو سليل «نظير» دون شك، وقد وُلِد في العام 1980م، ومات في 1994م، ويكفي ذكر اسمه في شهادة نسب لأي من الفحول والأفراس ليقتنع مربو الخيل ومشتروه بأنَّ الصفقة رابحة، هل يكفيك أنَّ «الشقب» من نسله و«أنساتا حجازي»، التي اتخذت من الكويت موطناً.
3.«علاء الدين»، مواليد عام 1965م، وأمه هي الفرس الشهيرة «قطيفة»، وعاش حياته كلها في مصر، ولم يترك من ذريته فحولاً شهيرة، إنما ترك أفراساً عديدة ربما كانت أهم الأفراس بعد ذلك.
4.«مرافق»، واحد من الفحول المهمة وإن كان ابنه «شيخ البادية» حمل عنه تلك المهمة وأصبح نسب أي خيل لـ«شيخ البداية» دليلاً على قوة ونقاء السلالة، ناهيك عن انه ابن مباشر لمرافق. ولا ننسى أنَّ ابن «شيخ البادية» وحفيد «مرافق» هو «روميناجا علي» الفحل الشهير، وقد كان «مرافق» أحد الخيول التي انتهت بها الأقدار في الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً تحديداً مزرعة «جلينلوش».
5.«غزال» ابن «نظير»، من أشهر وأجمل الأفراس، وبكري، والتي أنجبته هنا أيضاً وصدِّر إلى ألمانيا في عام 1955م، ولم يكن عليه إقبال كبير من قبل المربين العالميين بسبب شكله غير المتناسق من وجهة نظرهم؛ فإذا به يبهرهم في وفرة إنتاجه من الفحول القوية. ويجب ألا ننسى الجينات القوية التي تأثر بها من أمه في جعله الأكثر إنتاجاً، وإن كان اختلاف الأفراس التي أنجبت منه أثَّرت بشكل سلبي في نقاء السلالة.
6.«هدبان إنزاحي»، مواليد محطة الزهراء الخامس عشر من شهر أغسطس عام 1952م، وقد بِيعَ وأُرْسِلَ إلى ألمانيا، حيث عاش في محطة مرباخ منذ العام 1955م، ومات بعد عشرين عاماً بضربة شمس في الثاني والعشرين من شهر يوليو عام 1975م. والفحل نظير له حالياً أكثر من 11 ألف حفيد في العالم.
كان صديقي الروسي يحكي لي عن «أسوان» كأنما يتحدث عن أحد أفراد عائلته، وكيف أن تأسيسه لمركز مثل هذا ما هو إلا نتاج ذلك الحب والتعلُّق بالخيل وعالمه الجميل.
قال: كيف ينظر «أسوان» إلى عينيك ولا تقع في حبه؟
استرجعت كلمته حين نظرت لأول مرة في عين فرس اسمه «جاسر» هو سليل «جاسر الأول» كما أحبُّ أن أسميه في السلالات المصرية، وهو منحدر من سلالة «بنت بحرين»، و«بنت بحرين» فرس شهيرة ولدت في البحرين في العام 1898م في البحرين، وأهداها الشيخ عيسى بن علي آل خليفة لعباس حلمي الثاني خديوي مصر سنة 1903م.
قصة أصالة
يا الله! أبدأ بحكاية لأتفرَّع لعشرات الحكايات والقصص. تذكروا قلت إنني سوف أبخس المكان حقه، فاسمحوا لي أن أعطيكم فكرة سريعة عن المكان وقصة تأسيسه، التي أخذتها من مديرة المحطة الدكتورة نجلاء رضوان، التي تحدثت عن الخيل وقصتها مع المحطة وقصة المكان نفسه بمعلومات مغلفة برواية المحب للمكان وسكانه وقصصهم، وهو حظٌّ لو تعلمون عظيم كما قالت لي، لولا روتين العمل الذي يقيّد حتماً أحلاماً وطموحات لتطوير المكان وإنزاله منزلته التي يستحقها ومعروف بها في أوساط عالم الخيل العالمية.
الشخصية المهمة في الخطوات التي أدت لإنشاء مكان لتربية واستيلاد السلالات النقية هو عباس باشا حاكم مصر من عام 1848م، وحتى عام 1854م، والحقيقة أنه كان محباً للخيل العربي وعلاقته الجيدة بالشيوخ والأمراء العرب في منطقة الخليج كانت المحفز لاستجلابه أصول السلالات وتجميعها في مزرعة مصرية للحفاظ على تاريخ طويل ربط بين مصر والخيل، ما زالت آثاره مصورة على جدران معابد ومقابر الأقصر، فيما يخص الدولة الحديثة تحديداً الرعامسة.
تاريخ طويل من علاقة مصر بالخيل، خاصة المسماة الأصيلة منها، والتي تعارف العرب على نسبها لخمسة أراسن، وهي «الصقلاوي» ومنه في مصر «صقلان الجدراني» و«الدهمان» ومنها في مصر «دهمان الشهواني»، و«هدبان»، و«العبيان» ومنه «أم جريس»، و«الكحيلان الرودان». ولكل منها قصة طويلة أتمنى أن أتمها في مقالات قادمة.
الشخصية الثانية في الترتيب هو علي باشا شريف، الذي يرجع إليه الفضل في المحافظة على جياد عباس باشا، التي باع ابنه إلهامي منها 200 من أجود الخيول، اشترى أغلبها علي باشا شريف. وأسس إسطبله قرب شارع عبد العزيز الحالي، ووصل عدد خيوله لنحو أربعمائة. ولكن أغلبها مات في طاعون تفشى فيها عام 1879م، ليأتي دور الليدي التي استحوذت على أفضل خيول علي باشا، ليكتب حبها للخيل في صفحات التاريخ تحت اسم الليدي آن بلانت.
سلالات عربية
ثم حافظ عليها اهتمام طبقة الأمراء والأثرياء في المجتمع المصري في نهايات القرن الثامن عشر وحتى تأسَّست مزرعة الزهراء، إن جاز لي تبسيط المسمّى، لاقتناء واستيلاد السلالات العربية المجلوبة منذ عهد عباس باشا، ابن محمد علي، ثمَّ عاد حب الخيل لأحفاده، الأمير أحمد باشا كمال، والأمير كمال الدين حسين، والأمير محمد علي ولي العهد، والخديوي عباس باشا حلمي الثاني، وشريف باشا، ومعهم أعضاء الحكومة الذين فطنوا لأهمية الخيل في الجيوش الحديثة قبل أن يحيلها المحرك للمعاش.
وفي أوائل القرن العشرين رأى قومسيون تربية الخيول الذي كان تابعاً للحكومة وتحت إشراف الأمير عمر طوسون، اختيار الجياد التي تناسب العمل العسكري والشرطي، وبالتالي تربيتها وانتخاب الأصيلة منها، ونُظِّمَت مسابقات عديدة في كل القطر المصري، وفازت خيول عديدة كانت مملوكة لأثرياء وإقطاعيين رفضوا التخلي عن خيولهم للحكومة، مما صرف نظر رجال القومسيون إلى الخيول الإنجليزية التي لم تثبت جدارة لا في الانضمام إلى قطيع الخيول العاملة بمصر، ولا حتى للتزاوج مع خيول عربية أصيلة، أنتجت خيولاً شرسة صعبة الانقياد وغريبة الأطوار. واستمرَّ عمل القومسيون حتى قرّر تأسيس قسم تربية الحيوان بالجمعية الزراعية الملكية، الذي ستكون مهمته إضافة لأعمال القومسيون، تربية السلالات العربية الأصيلة، في مزرعة في بهتيم.
آخر استجلاب للخيول من خارج محطة الزهور في مقرها القديم في بهتيم، كان ثمانية عشر رأساً في عام 1919م، اشترتها الجمعية من إسطبلات الليدي ونتورث ابنة الليدي بلانت، وفي عام 1928م، صدر الأمر الملكي بإنشاء محطة الزهراء لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الخيول وعدم استيرادها وزيادة النتاج.
تغيرات سياسية مؤثرة
مرَّت عقود طويلة، وتغيرت تبعية المكان والخيول لعدد من الجهات بعد ثورة الضباط الأحرار، التي أهملت المحطة في زمانهم باعتبار أنَّ الخيل من رموز العصر الملكي، وأنَّ الزمن زمن المركبات لا المركوبات مثل الخيل والبغال والحمير، ثمَّ مرَّت مصر بفترات حروب وتغيرات سياسية مهمة، أدت في النهاية إلى اكتشاف مثل هذا الموقع الذي لم يكن يوماً منسياً من محبي الخيول العربية حول العالم، وكيف أن نسب أهم الفروع الموجودة في العالم الآن يعود لهذا المكان ولمن سكنه من آباء وأجداد السلالات الأصيلة، كما أسلفنا بنموذج الفحل نظير في مقدمة المقال.
محطة الزهراء استعادت جانباً كبيراً من نشاطها وازدهارها في العام الأخير، حيث أخذت الدكتورة نجلاء رضوان خطوات مهمة وجادّة لتطوير المكان واستعادة موقعه المستحق على المستوى الإعلامي الدولي، وهي التي تحتلُّ مكاناً مهماً في تاريخ الخيول العربية. وتشتمل محطة الزهراء على:
- مركز تدريب الفروسية.
- مساحة خضراء؛ لعرض الخيول في مهرجانات سنوية.
- معمل بيطري؛ لتشخيص الحمل بالسونار وأمراض الخيول.
- وحدة حاسب آلي؛ لتسجيل الخيول المتصلة بمنظمة (whow).
- عيادة بيطرية؛ لعلاج خيول المحطة، وتقديم خدمات علاجية للخيول التي تحت إشرافها.
- وحدة فيديو؛ لتصوير الخيول والمهرجانات، علاوة على مكتبة فيديو.
- مكتبة تضمُّ كتباً عن الخيول العربية بعدة لغات.
- إدارة تسجيل؛ لختم جميع الخيول الخاصة بالمزرعة والخاضعة لإشرافها.
- مشروع اقتصادي لتوفير أدوية علاج الخيول الخاصة الخاضعة لإشراف المحطة.
- مكتب تجهيز أوراق تصدير الخيول للخارج.
فكرت كثيراً عن أي من الأقسام التي زرتها هنا أحدثكم فيما تبقى من المقال؛ كي لا يكون مروراً سريعاً دونما أن تعايشوا معي تجربتي في محطة الزهراء، وعن عشرات القصص التي سمعتها من مديرة المحطة، ومن مربي الخيول والعمال، أو عن صهيل ضعيف يحاول به مهر صغير أن يحاكي صهيل أمه، فيجذبك لتلتقط له صورة هو أجمل منها بمراحل، اقتربت منه فقال لي المربي إنه ولد حديثاً، وإنهم يعولون عليه كثيراً في إعادة مجد آبائه وأجداده الذين سطرت أسماؤهم في شهادات النسب حول العالم.
هكذا «باللون» البني الغامق قليلاً. قال لي المربي: لا، هذا اللون سوف يذهب، سيكون أبيض مثل الثلج، عد بعد أربعة أعوام وسأريك كيف سيتغير لونه. إذاً سأنتظر أعواماً ليغيِّر أول المهور التي سأرتبط بقصتها من الآن، لون شعره، ربما سيكون مثل «شافع» أهم وأشهر الفحول الآن وهو ابن «تجويد» المصنف عالمياً كفحل منتج للسلالات الأصيلة، ولربما كنت فألاً حسناً في قصة هذا المهر، أو كان هو كذلك بالنسبة إليَّ.
أما عن المزاد الأخير فكانت المهرة «العبيان دولامة» بنت «وصاف»، سليلة أفضل الفحول والأفراس، وأعلى مهرات المزاد ثمناً، حيث بيعت بمبلغ 819 ألف جنيه مصري، ما يزيد على الخمسين ألف دولار أمريكي، وهي مواليد الثاني من يناير عام 2017م، ابنة الفرس «دليلة»، ولا شك أنه سيكون لها شأن كبير في قادم الأيام.