2,729 عدد المشاهدات
الكاتب: بلال البدور – كاتب إماراتي
الكيتوب هو من يقوم بالكتابة حسب اللهجة المحلية في الإمارات، وهي صيغة مبالغة للكاتب تعني الشخص المجيد للكتابة. ويطلق كذلك على من يقوم بالكتابة لقب الكراني، وهو الشخص الذي يقوم بالكتابة والحساب أيضاً، وهي مفردة غير عربية، وقد تكون متحولة من كلمة «كَرْ» وهو العدد الحسابي الذي يساوي عشرة آلاف. فكأن من يجيد الحساب والعد إلى هذا المبلغ قد بلغ مرتبة عليا، كما أنهم كانوا يطلقون كلمة «لَك» على العدد مئة ألف. وكان الحكّام ورجال المال يتخذون بعض أولئك كتبة لديهم.
وبالعودة إلى تاريخ مهنة الكتابة عند العرب، نجد أنها تعود إلى مرحلة متقدمة من تاريخهم، فهي ترجع كما هو مدوّن إلى المراحل الأولى للدولة الإسلامية.
ففي صدر الإسلام اتخذ الرسول- صلى الله عليه وسلم- جماعة من الصحابة لكتابة الوحي. ويذكر ابن أبي شيبة أنَّ أول من كتب الوحي هو أبي بن كعب، ثمَّ زيد بن ثابت، وعلي بن أبي طالب وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم. وبعد ذلك كان خالد بن الوليد ومعاوية بن أبي سفيان، والزبير بن العوام، وقد عدَّ الرواة عدد كتّاب الوحي ثلاثة عشر كاتباً، وذهب البعض إلى أنهم أكثر من ذلك.
ومن الصحابة ممَّن كلَّفهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- بكتابة المعاهدات، مثل علي بن أبي طالب الذي كلّفه بكتابة وثيقة صلح الحديبية، ومنهم من كتب رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والقياصرة الذين عرض عليهم دعوة الإسلام.
وفي عهد الخلافة الراشدة أمر الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإنشاء نظام الدواوين المعمول به في الحضارتين المجاورتين الفرس والروم؛ فكان ديوان العطاء وديوان الجند وديوان الخراج، وأمر كلاً من عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطغم بكتابة الناس وقيدهم في الديوان.
ثمَّ تطوَّر نظام الدواوين ليشمل بيت المال، الخراج، الخاتم، الجند، النفقات والمظالم وغيرها. وبعد بناء بغداد على يد الخليفة المنصور، تمَّ إنشاء ديوان الرسائل وديوان السر. ويعدُّ ديوان الرسائل أهمَّ الدواوين؛ فهو الهيئة المشرفة على مراسلات الخليفة، وسجل الأوامر، كما يعدُّ كاتبُ الرسائل أهمَّ الكتّاب والشخصيات في الدولة؛ لأنه يطلع على أسرار الدولة ويكون المؤتمن عليها. ولما تطوَّرت الدولة واستحدث نظام الوزراء الذين يقدمون المشورة للخليفة، في العهد الأموي أطلق لقب الكاتب أو المشير على الوزير.
ديوان الرسائل
ولعلَّ أوَّل بروز لديوان الرسائل هو عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان، للإشراف على مراسلات الخليفة مع الولاة وكبار الجيش والموظفين والمسؤولين، ومراسلات الخليفة مع ملوك وأمراء الدل المجاورة، إضافة إلى كتابة الأوامر الإدارية.
وكان يشترط فيمن يكلّف بذلك أن يكون عالماً بفنون الكتابة والإنشاء والإملاء، وأن يكون حسن الخط. وممَّن اشتهروا بالكتابة، الوزير الشاعر محمد بن عبدالملك الزيات الذي كان في جملة الكتّاب لدى المعتصم، ثمَّ صار وزيراً لديه.
واستمرَّ هذا التقليد آخذاً في التطوُّر بتطوُّر الأنظمة الإدارية، وفي العصر الحديث نجد الرؤساء والحكّام يُعَيِّنون من بين كبار كوادر الإدارة عندهم من يتولّى كتابة الخطب التي يلقونها في المناسبات. وبعضهم يختار أكثر من كاتب؛ كل في مجاله وتخصُّصه. ويكاد المتابعون والعارفون يستطيعون معرفة الكاتب من أسلوبه ومفرداته.
ودولة الإمارات من جملة هذه الدول التي اعتمد فيها حكّام الإمارات قبل قيام الاتحاد، نظام الكتّاب، حيث استعمل كلُّ حاكم منهم من يثق به من خاصته ليتولى الكتابة، وكان يطلق عليهم لقب الكيتوب أو الكراني كما أسلفنا في مقدمة المقال.
ورغم أنَّ فرص التعليم بالإمارات قديماً كانت محدودة، فقد مرَّ التعليم بمراحل مختلفة؛ بداية بالكتاتيب التي كان يتعلّم فيها التلاميذ أحرف الأبجدية وفق القاعدة البغدادية وشيئاً من قصار السور في جزء عمّ، وقد استمرَّ حتى منتصف القرن العشرين، ثمَّ التعليم التقليدي، حيث كان التلاميذ يتحلقون حول معلمهم الذي كان يعطيهم دروساً في القراءة والكتابة، وللبالغين منهم دروساً في كتب اللغة والفقه والتفسير، ثمَّ التعليم شبه النظامي الذي بدأ مع بدايات القرن العشرين، لكن بفرص محدودة، إلى أن جاء التعليم النظامي في نهاية النصف الأول من القرن والعشرين حيث دخلت فيه العلوم الحديثة، والنظام الإداري الحديث، وكذلك النظام التعليمي من حيث الترقي وصدور الشهادات.
كتّاب الإمارات
إلا أنَّ المدارس، وفي جميع هذه المراحل، نجدها قد حرصت على تعليم مادتي الإملاء والخط العربي؛ فقد أولتهما عناية خاصة في مناهجها. لذا فإنَّ معظم متنوري تلك المراحل كانوا يمتازون بحسن الخط وجماله، فاتخذ الحكّام منهم كتّاباً لديهم يقومون بكتابة المراسلات وقيد السجلات، فكان السيد سالم بن عبدالله الكراني كاتباً عند الشيخ زايد بن خليفة آل نهيان، ثمَّ لدى ابنه الشيخ سلطان بن زايد بن خليفة، وبعد أن انتقل للكتابة لدى الشيخ سعيد بن مكتوم بدبي خلفه في أبوظبي السيد عبدالله بن أحمد الهاشمي، وكان سالم بن عبدالله الكراني يذيل كتابته بقوله حرره عن أمره سالم بن عبدالله، وفي رأس الخيمة كان يوسف بن محمد الشريف كاتباً لدى حكّامها.
وفي سنة 1338 هـ، انتقل للكتابة لدى حاكم رأس الخيمة الشيخ سلطان بن سالم القاسمي السيد علي بن راشد بن سلطان الكيتوب، حيث يقول في مخطوطته (بيان معرفة التاريخ): «تاريخ جلوسنا في الكتابة عند الشيخ سلطان بن سالم في 25 رمضان سنة 1338هـ». وفي أم القيوين كان حميد بن سلطان الشامسي، صاحب كتاب “نقل الأخبار في وفيات المشايخ وحوادث هذه الديار”، وكان السيد أحمد بن عباس كاتباً لدى الشيخ حشر بن مكتوم في دبي.
وبعض أولئك الكتَّاب عملوا لدى بعض تجار اللؤلؤ لقيد معاملاتهم، ومنهم السيد سلطان بن عبدالكريم الذي كان كاتباً لدى الوجيه المر بن حريز، ومارس بعضهم تدريس الخط في منازلهم أو في بعض المدارس أو الإدارات؛ فتتلمذ عليهم نفر ليس بالقليل، ومن هؤلاء في دبي المرحوم سالم بن كنيد الذي يعلّم الخط لمن يريد، وبعضهم اتخذ مواقع في الأسواق لكتابة الرسائل والعرائض لمن يريد.
أمّا في الشارقة، فقد برز عدد من هؤلاء الكتّاب يشهد لهم بحسن الخط ودقته، ويحدثنا المؤرخ عبدالله بن صالح المطوع في معرض حديثه عند شرحه لقصيدة (نونية مفاخر القواسم) التي نظّمها الأديب إبراهيم بن محمد بن عبدالله المدفع، فعند تناوله لسيرته يقول: «أمّا الناظم إبراهيم بن محمد بن عبدالله بن حسن المدفع، فقد ولد في اليوم السابع والعشرين من رمضان سنة 1327هـ، ونشأ في أحضان والده وجده، رحمهما الله. وكان على جانب عظيم من الذكاء والفطنة، وسرعة الانتباه إلى ما يلقى إليه. ويوم عُهِد إليَّ بتعليم الأمراء؛ الشيخ سلطان بن صقر وإخوانه أبناء المرحوم الشيخ صقر بن خالد القاسمي سنة 1332هـ، نقلت الكتاب الذي ورثته عن أبي وجدي ويحق لي أن أسميه كتاب الأمراء والأعيان إلى شبه مدرسة عصرية سميّت (المدرسة القاسمية) فدخلها معهم، وصار زميلاً للشيخ سلطان بن صقر القاسمي (رحمه الله) وصديقاً حميماً له، وختما القرآن في مدة قصيرة، وتعلّما مبادئ التوحيد والعلوم الدينية عند الشيخ عبدالكريم البكري النجدي (رحمه الله)، والخط عن ابن مقلة زمانه أحمد بن عبدالرحمن الهرمسي المعروف بـ (أبو سنيدة) فأتقناه وصار حظهما أشبه بخطه».
ويهمنا من هذا النص إشارة الكاتب إلى الأستاذ الهرمسي وأنه حسن الخط، حيث لقّبه (ابن مقلة زمانه) لروعة خطه وجماله مقارنة بخطوط معاصريه، وحسب معطيات عصره. فالهرمسي من أبناء الشارقة، تُوُفِّيَ فيها عام 1920م، وقد جلس للكتابة لعدد من حكّامها الذين عاصرهم، وأشهرهم الشيخ صقر بن خالد القاسمي، الذي تولّى الكتابة لديه بعد وفاة الشيخ سالم بن سلطان بن صقر عام 1913م.
وثائق
ولقد وقفت على وثيقة سلّمني إيّاها المهندس عبدالله بن إبراهيم المدفع كانت ضمن وثائق والده، وهي تمثّل صك هبة تمّ في الشارقة بين رجلين وهب أحدهما الآخر بموجبه نخلاً في أرض الفلي من أعمال الشارقة، وهذا الصك بخط الهرمسي كما جاء في ذيله حيث وردت عبارة «شهد به كاتبه أحمد بن عبدالرحمن الهرمسي»، وحيث إنَّ فنَّ الخط له أصوله وضوابطه ومصطلحاته، وله تاريخ طويل من الإبداع والتجديد والتطوير، كما يذهب إلى ذلك الدكتور إدهام حنش في كتابه «الخط العربي وحدود المصطلح الفني»، فإننا لا يمكن أن نجزم ببراعة الهرمسي من خلال نص لا يتعدّى الأسطر العشرة، وثمة نص آخر يمثّل صك بيع وتملُّك حرَّره في 25 ربيع الأول سنة 1325هـ، وكما يرى مؤلف «كتاب بو سنيده شاعر برع في صناعة الخط والكتابة ووضوح الخط، ويسر قراءته»، وهو خط نسخي حسن، ويذكر مؤلف الكتاب المذكور أنَّ الهرمسي قد استأجر دكاناً مارس فيه تعليم الأولاد، ومن يرغب كيفية إجادة الخط العربي.
غير أنَّ ما يلاحظ هو جودة الخط المنتمي إلى الرقعة، وقد تكون ثمة خطوط أخرى يمكن من خلالها إدراك حقيقة جودة الخط وتطوّره حسب زمان الكتابة. أمّا حسن خط إبراهيم المدفع، فإننا نلحظه من خلال بعض النصوص التي توضّح خطاً حسناً مقروءاً، ففي نص الخطبة التي ألقاها بحضرة المغفور له الشيخ سلطان بن صقر القاسمي في الاحتفال الذي أقيم بالشارقة بمناسبة الاعتداء الذي تعرَّض له جلالة المغفور له الملك عبدالعزيز آل سعود عام 1935م، أثناء طوافه بالبيت الحرام، حيث احتفلت الشارقة بسلامته، ويتضح من هذا النص المكتوب بخط الرقعة حسن خط المذكور. وثمة نماذج أخرى له تؤكّد جمالَ خطه، منها رسالته التي أعدها بمناسبة جمع أهالي الشارقة لتبرعات للجنة فلسطين عام 1936م، ورسالته التي قدمها للجمعية الوطنية بالشارقة مبدياً رأيه في قضية الخلاف بين الشيخ سلطان بن صقر القاسمي حاكم رأس الخيمة الأسبق مع الإنجليز بمناسبة طلبهم إنشاء مطار بالإمارة، حيث طلب من أعضاء الجمعية إبداء رأيهم.
ولقد كان إبراهيم المدفع سكرتيراً للشيخ سلطان بن صقر، وكاتم سرّه واستمر في ذلك حتى الفترة التي حكم فيها الشيخ صقر بن سلطان (1951 – 1965م) وكذلك فترة حكم الشيخ خالد بن محمد القاسمي من (1965 – 1972م).
ولقد كان لجهود الهرمسي ومن جاؤوا بعده أثرٌ بارزٌ في حسن وجمال خطوط الأجيال المتلاحقة، ويمكن أن نلاحظ ذلك في الرسالة التي بعث بها السيد عبدالعزيز بن حمد المدفع عندما كان طالباً بمدرسة الإصلاح القاسمية، والتي وجَّهها إلى أستاذه صاحب المدرسة الشيخ محمد بن علي المحمود بعد أن غادر المدرسة للعمل بالتدريس في قطر، والتي تخبره فيها عن تفوقه في الدراسة بفضل جهوده وجهود أستاذ المدرسة آنذاك المرحوم أحمد محمد بورحيمة، وينقل إليه تحيات الأسرة والزملاء، في خط حسن مستقيم على قواعد خط الرقعة.