اللغة العربية في فكر محمد بن راشد

مجلة مدارات ونقوش - العدد 1 مقالات متنوعة

 2,880 عدد المشاهدات

إعداد: جمال بن حويرب

منذ عرفته وأنا أراه محباً للقراءة، حافظاً للأشعار الفصيحة والشعبية، من عصر الجاهلية حتى العهود المتأخرة، يسألك عن قصيدة، فما أن تبدأ بقراءتها على أسماعه حتى يكملها لك! ويسألك عن معنى بيت جاهلي أو إسامي، فيقول لك: أحسنت، أو يصحِّح لك المعنى بصورة تذهلك، ولو كنت البارع الضليع في العربية وفنونها، ثمَّ تعود وتسأل نفسك: لماذا يسألني عن قصيدة وهي من محفوظاته؟! ولم يسأل عن معنى هو من معلوماته؟! سؤالٌ لم أجد له جواباً إلا أنه يمثِّل عشقه للعربية وحرصه عليها، فهو يحب محاورة الأدباء، واختبار الشعراء، ومجالسة الأدباء والعلماء، هذا هو سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حفظه الله تعالى.

منذ سنوات وفي إحدى الليالي وأنا خارج من مكتبي في “برج المدينة“، الذي كان مركزاً لموقع سموه على الإنترنت آنذاك، شرفني الشيخ محمد باتصاله، وقال: هل قرأت الجريدة اليوم؟ قلت: نعم، فقال: راجع الصفحة الأولى، ثم ارجع واتصل بي. فرجعت إلى مكتبي فوراً، وأخذت الصحيفة وبدأت أتأملها، فوقعت عيني على فعل مجزوم لم يحذف حرف علته سهواً، وهو خطأ كان من حقِّه ألا يمر على جماعة التصحيح في الجريدة، فاتصلت بسموه وأخبرته بما وجدت، فقال، وهذا تشريف لي: الحمد لله الذي لم يخيِّب ظني فيك، أحسنت يا جمال. لما أقفل الخط، ذهلت لدقائق وأنا أفكِّر، وقلت شخصية في مكانة محمد بن راشد، لديه كلُّ هذه الأعمال والمهمات العظيمة يهتمُّ لأمر صغير في اللغة العربية، وهو حذف حرف العلة، إنه أمر لا يمكن أن يتخيله عقل! وكيف رآه ووجده في الصفحة الأولى من جريدة بها الكثير من الكلام؟ ونحن كم نجد الأخطاء ولا نلقي لها بالًا، ونمرُّ عليها مرور الكرام، فا نصحِّح ولا نسأل عنها، وليس ثمة من واجب، إلا أنَّ الأمر مختلف عند الشيخ، الذي يظهر لنا حبه وولعه بالفصحى وغيرته عليها منذ صغره، وهو الدافع وراء هذا كله.

قد لا يعلم الكثير من القرَّاء الأعزَّاء، أنَّ الشيخ محمد بن راشد بدأ كتابة الشعر الفصيح في صباه، ثم انشغل بعد ذلك بالشعر الشعبي، وقد أخبرني عن سبب انتقاله إليه، وهو أنه عندما وجد نفسه بين شعراء الفصحى الكبار، علم أنه لا يستطيع منافستهم، فمن يجاري مثاً امرؤ القيس؟! أو المتنبي؟! وهؤلاء لن يصل إليهم أحد ممن جاء من بعدهم؛ لأنَّ العربية الفصحى كانت لغتهم التي يتحدثون بها، وقد رضعوا بلاغتها، وعرفوا خصائصها بالفطرة، ولهذا انتقل الشيخ إلى الشعر الشعبي؛ لأنه من لهجته المحلية، ويستطيع بسهولة منافسة كبار شعرائه؛ قديمهم وحديثهم، وهذا قرار اتخذه في صباه، وقد فعل حتى بلغ فيه القمة بشهادة كبار النقاد، فأبهر الناس، وأدخل فناً جديداً لن يصل إليه فيه أحد، وهو اللغز الشعبي الذي اخترعه على شكل رواية كاملة، تتوزع فيه المفاتيح، فمن وجدها من الشعراء وجد حل اللغز، ولغزه السنوي هذا يعد ظاهرة شعرية لا نظير لها، يشارك فيها معظم الشعراء الشعبيين كبارهم وصغارهم.

عشق من الصغر

ومع هذا الاهتمام الكبير بالشعر الشعبي، لم يتوقف الشيخ عن كتابة الشعر الفصيح، بل استمر في إنشاده، وله قصائد رائعة فيه؛ لأنه يعشق الفصحى من صغره، ويحفظ ما لا يعد من أشعارها، وإني لأعلم أنه لا يستطيع أحد أن يجاريه في المطارحة الشعرية؛ فقد أعجز كثيراً من المتمرسين فيها، لكثرة محفوظاته وسرعة بديهته. قلت: من كان عشقه العربية الفصحى، فهل تظنون أنه يغفل عنها لحظة أو يهملها أو يتركها تهزم أمام سيول التغريب التي تجتاح بلادنا وباد العرب كافة في كل مكان؟! الجواب: يقوله الشيخ محمد في قصيدته العصماء “اللغة الخالدة“:

وتوّج الفضل بالقرآن نزَّله 

      على نبيٍّ كثيرِ المكرمات نقي

لساُنه عربيٌّ وهو حافظُه 

      إلى القيامة من كيد العداة وقي

حتى إذا حان وعد البعث واندثرت

      فرائضُ الدين واستعلى ذوو النزقِ

فسوف يمحوه من صحفٍ ومن فكرٍ

       وسوف يرفعه عن كافرٍ وشقي

فكيف تخشى على ما الله حافظه

       كفى به حافظاً في كلِّ منزلقِ

إنه كثير الحب أيضاً أن يختبر الثقافة اللغوية لدى من يحدثه، فهو يجيد الاختيار المناسب ووقته، فيأتيك سؤاله من حيث لا تدري، وعن معنى بعيد جداً عن تفكيرك، وأنت وحظك في الإجابة التي يعرفها جيداً، وسوف يكون مقياس معرفة اللغة لديك دلياً على ثقافتك وعلوّ كعبك في العلم. كم شاهدت الموقف يتكرَّر أمامي وعليَّ، أنا كاتب هذه المقالة، فسيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حفظه الله، بهذه الأسئلة الدقيقة للحاضرين يختبر ويعلم ويؤكد حرصه وعشقه للغتنا الخالدة، اللغة العربية.

منذ أكثر من عشر سنوات، بدأ أحد مديري الجامعات المحلية بالحضور إلى مجلس الشيخ محمد بن راشد، وكان من أمره أن يظلَّ صامتاً، ومن عادة الشيخ وسمو أخلاقه أنه بطريقة لبقة يزيل رهبة الزائر الجديد بالحديث معه أو بسؤاله، ولأنَّ هذا الزائر يدير إحدى الجامعات، سأله سؤالًا في اللغة وقال له: هل تعرف معنى اسم “ميثاء“؟ ففوجئ المدير بهذا السؤال، وما كان منه إلا أن يلتفت يمنة و يسر ة ، لعله يجد أحداً يساعده، فلم يجد بداً من البدء بمحاورة الشيخ والحديث معه، بعد أن كان يطيل الصمت، ثمَّ قال: أرجو المعذرة لم أعرف المعنى، فابتسم الشيخ له وقال: لا بأس عليك، ثم بدأ الشيخ يشرح معنى اسم «ميثاء »، بشرح تصويري، لن تجده في أيِّ معجم من معاجم اللغة، فقد أجاب بما هو موجود في الشروح، وأضاف إليه خبرته في نوعية تربة الأراضي وكيف تكون. وهذا الأمر لو فكرتم فيه أيها السَّادة، لا يتأتى إلا لمن جمع المعرفة اللغوية والخبرة، برؤية ما ذكرته المعاجم في آنٍ واحدٍ، بعكس من قرأ وسمع فقط من أمثالي.

أسئلة شاملة

لا تقتصر أسئلة الشيخ على اللغة، ولكنها متنوعة في السياسة والاقتصاد والتاريخ والطب والزراعة، وغيرها، وكل في تخصصه وما عرف به المسؤول، ولكن اللغة العربية بسبب ولعه بها تحظى بالمكانة العظمى في قلبه، ولا يرضى بالخطأ فيما يعلمه، وإن نسيت، لا أنسى تلك الليلة التي قدمت له بعضاً من الكلمات المسموعة، والتي قمت بتفريغها وجعلتها على شكل مجلد وأرسلتها إليه، فما كان منه إلا أن أعاد لي المجلد وعليه ورقة مكتوب فيها: راجع التصحيح في الحواشي، فقمت بمراجعته صفحة صفحة، وكم كانت صدمتي كبيرة عندما وجدته يعلِّق ويصحِّح الأخطاء بقلمه الأخضر وبخطِّه الذي أعرفه. فقد تأسفت كثيراً على تقديمي المجلد من غير قراءته؛ لأني اعتمدت على أحد المصححين عندي، ولم أراجع الكلمات بعد تصحيحه، واعتبرت ذلك خطأً كبيراً وقعت فيه، وعاهدت الله أن لا أكتفي بتصحيح أحد بعد هذه الحادثة. قد تتفاجأ أيها العزيز بما تقرأ الآن ولكنها الحقيقة، وإني لا أزال أحتفظ بهذا المجلد وعلى غلافه رسالته وفيها جميع تصحيحاته باللون الأخضر، الذي يحبُّه، ولو تدبرت الأمر قلياً، لعلمت أنَّ الشيخ من أشدِّ الناس حرصاً على لغتنا، ولن تجد أحرص منه عليها، وعندي كثير من القصص والأدلة التي لا تسعها هذه المقالة.

وبعد هذا كله يكفينا فخراً كتابة سموه قصيدته العصماء “اللغة الخالدة“ وهي من عيون الشعر العربي، وقد أمرني بنشرها في الصفحة الأخيرة من جريدة “البيان“، وشرفني أيضاً بأن أمرني بشرح مفرداتها وجعلها في آخرها لتكون مفهومة للجميع، وكان ذلك في يوم إعلانه عن مبادراته العظيمة للحفاظ على اللغة العربية في “قصر البحر “التي اشتملت:

– ميثاقاً للغة العربية.
– لجنة خبراء عربية دولية تهدف إلى إعادة إحياء اللغة العربية كلغة للعلم والمعرفة.
– تكليف شخصيات رائدة في التعليم لتقدم مقترحات لتطوير تعلم اللغة العربية.
– مسابقات مدرسية في المدارس الحكومية والخاصة تهدف إلى إبراز المبدعين والمتميزين في اللغة العربية من الطلبة ورعايتهم.
– معهداً لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها عن طريق جامعة زايد.
– كلية للترجمة ضمن كلية محمد بن راشد للإعلام في الجامعة الأميركية بدبي.

قلت: من تدبَّر في هذه المبادرات، يعلم علم اليقين أنَّ محمد بن راشد شخصية استثنائية للغتنا، ومن أوفى العرب لها، وهو يبذل الغالي والنفيس لرفعتها والحفاظ عليها؛ لأنها عشقه الخالد. وأنا كلي ثقة بأنَّ مبادراته من إلزام الوزارات والدوائر باستخدام اللغة العربية في وثائقهم ومراسلاتهم، إلى إعلان قصر البحر في 23 / 04 / 2016 م، سوف تتبعها مبادرات أخرى عظيمة، حفظه الله ورعاه، وسدد خطاه، آمين.