4,630 عدد المشاهدات
رامي ربيع عبد الجواد راشد – مدرس عمارة وفنون المغرب والأندلس
بلغت دولة الإسلام على مرّ عصورها التاريخية مكانة مرموقة من التمدّن والرقيّ في مختلف المجالات الحضارية، كما كان لها قصب السبق في إرساء دعائم كثير من المنجزات العمرانية التي لم تُعرَف من قبل في الحضارات الأخرى السابقة، إيماناً من حمَلة هذا الدين الحنيف بشرف رسالته، وسمُوّ دولته، وعالمية دعوته.
بلغ الطب في الحضارة الإسلامية مكانة مرموقة بنيت على المعرفة والتجارب
وقد حثَّ رسول الإسلام، نبينا محمد، عليه الصلاة والسلام، في كثير من الأخبار والآثار، على البر والإحسان، وإيصال الخير للكافة، كما في قوله، صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة» ([1]). وانطلاقاً من تلك التوجيهات النبوية السامية، كانت «البيمارستانات» ضمن قائمة المشروعات الإحسانية التي حرص على تشييدها خلفاء وحكّام المسلمين، طلباً للأجر والمثوبة من الله تعالى في الدنيا والآخرة، وفي الوقت ذاته تخليداً لذكراهم وآثارهم، كأحد المؤشرات الدالة على مدى ما حققته دولة الإسلام من حضرية ومدنية.
دار المرضى
البيمارستانات، جمع «بيمارسْتان»، وهي كلمة فارسية معرّبة، من مقطعين، «بيمار»، أي: مريض، و«ستان»، بمعنى مأوى أو دار، فهي إذاً «دار المرضى»، ثمَّ اختصرت في الاستعمال عند التعريب، فصارت «مارستان»([2]). وفي التاريخ الإسلامي نجد أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان أول من وضع حجر الأساس لتلك المنشأة الإحسانية في صورتها الأولى، حسب ما ورد في صحيح البخاري، أنه لمّا أصيب سعد بن معاذ، رضي الله عنه، يوم الخندق، فضرب له النبي، صلى الله عليه وسلم، خيمة في المسجد ليعوده من قريب([3]).
البيمارستان شاهد ناطق بنهضة عربية عز لها نظير
عرفت البيمارستانات انتشاراً كبيراً بالجناح الشرقي من دولة الإسلام وفي مصر، بيد أنه لم يُكتب لها ذلك في بلاد المغرب والأندلس، ورغم هذا، وفي ضوء الإفادات المصدرية، تتضح تلك المكانة والأهمية الكبرى التي حازتها هذه البيمارستانات هنالك.
فيما يتعلق بالمغرب، يقتصر الحديث معنا عن البيمارستان الذي بناه الخليفة الموحدي أبو يوسف يعقوب، بحاضرة مراكش، وعنه يفيد صاحب «المعجب»،
ضمن حديثه عن سيرة العاهل المذكور بقوله: «وبنى بمدينة مراكش بيمارستاناً ما أظن أن في الدنيا مثله، وذلك أنه تخيّر مساحة فسيحة بأعدل موضع في البلد، وأمر البنائين بإتقانه على أحسن الوجوه، فأتقنوا فيه من النقوش البديعة والزخاريف [كذا] المُحكمة ما زاد على الاقتراح، وأمر أن يُغرس فيه مع ذلك من جميع الأشجار المشمومات والمأكولات، وأجرى فيه مياهاً كثيرة تدور على جميع البيوت، زيادة على أربع بِرك في وسطه، إحداها رخام أبيض، ثمَّ أمر له من الفُرُش النفيسة من أنواع الصوف والكتان والحرير والأديم وغيره، بما يزيد على الوصف، ويأتي فوق النعت، وأجرى له ثلاثين ديناراً في كل يوم برسم الطعام وما يُنفَق عليه خاصة، خارجاً عما جَلب إليه من الأدوية، وأقام فيه من الصيادلة لعمل الأشربة والأدهان والأكحال، وأعدّ فيه للمرضى ثياب ليل ونهار للنوم، من جهاز الصيف والشتاء، فإذا نَقَه المريض، فإن كان فقيراً أمر له عند خروجه بمال يعيش به ريثما يستقل، وإن كان غنياً دُفع إليه ماله وتُرك وسببه، ولم يقصره على الفقراء دون الأغنياء، بل كل من مرض بمراكش من غريب حُمل إليه وعولج إلى أن يستريح أو يموت، وكان في كل جمعة بعد صلاته يركب ويدخله، يعود المرضى ويسأل عن أهل بيت أهل بيت [كذا]، يقول: كيف حالكم؟ وكيف القَوَمَة عليكم؟ إلى غير ذلك من السؤال، ثم يخرج، لم يزل مستمراً على هذا إلى أن مات، رحمه الله»([4]).
مظهر حضاري
يكشف لنا هذا النص المصدري عن عديد من الجوانب المهمة المتعلقة بتلك المنشأة الخيرية، يقصر المقام عن ذكرها، سواء فيما يتعلق بعمارتها، أو أحوال المرضى بها، أو تلك الأدوية، والأطباء والصيادلة المشرفين عليها، والقائمين للخدمة فيها، فضلاً عن اهتمام الخليفة بزيارتها، وتعاهد مرضاها بالسؤال، بما يعكس في نهاية الأمر أحد أوجه ومظاهر الحضارة والرقيّ بالجناح الغربي من دولة الإسلام.
البيمارستان العجيب
في الأندلس تحدثنا المصادر التاريخية كذلك عن ذلك البيمارستان العجيب، الذي أنشأه السلطان محمد الخامس الغني بالله (755 – 794هـ/ 1354 – 1391م)، إذ يفيد وزيره لسان الدين بن الخطيب – أشهر كُتاب وخدّام البيت النصري بغَرناطة – ضمن حديثه هو الآخر عن سيرة العاهل المذكور بقوله: «ومن مواقف الصدق والإحسان من خارق جهاد النفس، بناء المارستان الأعظم، حسنة هذه التخوم القصوى، ومُزية المدينة الفضلى، لم يهتدِ إليه غيره من الفتح الأول، مع توافر الضرورة، وظهور الحاجة، فأغرى به همّة الدين، ونفس التقوى، فأبرزه موقف الأخدان، ورحلة الأندلس [كذا]، وفذلكة الحسنات، فخامة بيت، وتعدد مساكن، ورحْب ساحة، ودرور مياه، وصحة هواء، وتعدُّد خزاين ومتوضآت، وانطلاق جراية، وحسن ترتيب، أبَرّ على مارستان مصر، بالساحة العريضة، والأهوية الطيبة، وتدفق المياه، من فوّارات المرمل [كذا]، وأُسُود الصخر، وتموّج البحر، وانسدال الأشجار»([5]).
تأكيداً لصحة تلك الإشارة المصدرية وثقة بها، فلا يزال ثمة أحد الشواهد الأثرية الدالة على ذلك، ممثلاً في النقش التسجيلي لهذا البيمارستان، والمحفوظ في الوقت الحاضر بمتحف قصر الحمراء بغرناطة، لوحة (1)، وفيه نقرأ([6]) بالخط الثلث الأندلسي([7]) ما نصه: (الحمد لله/ أمر ببناء هذا المارستان رحمة/ واسعة لضعفاء مرضى المسلمين وقربة/ نافعة إن شاء الله لرب العالمين وخلّد حسنته/ ناطقة باللسان المبين وأجرى صدقته على مر الأعوام/ وتوالي السنين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير/ الوارثين المولى الإمام السلطان الهمام الكبير الشهير الطاهر/ الظاهر أسعد قومه دولة وأمضاهم في سبيل الله صولة صاحب/ الفتوح والصُنع الممنوح والصدر المشروح المؤيد بالملايكة والروح/ ناصر السُنة كهف الملّة أمير المسلمين الغني بالله أبو عبد الله محمد/ ابن المولى الكبير الشهير السلطان الجليل الرفيع المجاهد العادل/ الحافل السعيد الشهيد المقدس أمير المسلمين أبي الحجاج ابن/ المولى السلطان الجليل الشهير الكبير المعظم المنصور/ هازم المشركين وقامع الكفرة المعتدين/ السعيد الشهيد أبي الوليد بن نصر الأنصاري/ الخزرجي أنجح الله في مرضاته أعماله/ وبلّغه من فضله العميم وثوابه الجسيم/ آماله فاخترع به حسنة لم يُسبق إليها من لدن دخل الإسلام/ هذه البلاد واختُص بها طراز فخر على عاتق حُلة الجهاد وقَصَد/ وجه الله بابتغاء الأجر والله ذو الفضل العظيم وقَدّم نوراً/ يسعى بين يديه ومن خلفه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى/ الله بقلب سليم فكان ابتدا بنائه في العشر الوسط من شهر المحرم/ من عام سبعة وستين وسبعمائة وتم ما قصد إليه ووقف/ الأوقاف عليه في العشر الوسط من شوال من عام ثمانية وستين/ وسبعمائة والله لا يضيع أجر العاملين ولا يخيب سعي المحسنين/ وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وآله وأصحابه أجمعين).
تصميم يراعي سعادة المرضى
من خلال إشارة المراكشي حول بيمارستان حاضرة مراكش، وإفادة ابن الخطيب عن بيمارستان حاضرة غرناطة، يمكن إعطاء تصور تقريبي له – ببلاد المغرب والأندلس – من الناحية المعمارية، والقول إن هذه المنشأة الخيرية، كانت أشبه ما تكون بدار واسعة، فسيحة الأرجاء، يتوسطها صحن (فناء)، مركزي سماوي (مكشوف)، كبير المساحة في الطول والعرض، به من البِرك المائية، والخَصّات (الفوّارات) المرمرية، تَحُفّ بها تماثيل الأُسُود والسباع الحجرية، التي تمجّ المياه الجارية من أفواهها عذباً رقراقاً، وحول تلك البِرك والفوارات تتناثر الأشجار والأزهار، والورود العطرة الزكية الرائحة، التي تبعث في نفوس المرضى الانشراح والسعادة، والراحة والطمأنينة، وحول هذا الصحن المركزي الفسيح يدور بالجهات الأربع رواق مُقَنْطر، قائم على أسوارٍ رخامية رشيقة، يفتح على مداخل وأبواب عدة، كل منها تفضي بدورها إلى ملاحق ومرافق مختلفة للأطباء والصيادلة، والأطعمة والأشربة، فضلاً عن بيوت سكنى المرضى، وما يلزمهم من حمامات وميضآت.
ختاماً،
فهذه لمحة عابرة حول تلك المؤسسات الإحسانية بالمغرب والأندلس، تعكس – بلا
شك – إحدى الصور المشرقة للحضارة الإسلامية التي عمّت الأرجاء، فسعِد في
كنفها العباد، وتلألأت بأنوارها البلاد.
([1]) ابن حجر العسقلاني: فتح الباري، دار الريان للتراث، 1407هـ/ 1986م، ج2، كتاب «المزارعة»، حديث رقم (2195).
([2]) ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، د.ت، ج6، ص217. الزبيدي: تاج العروس، المطبعة الخيرية، مصر، 1888م، ج4، ص246.
([3]) ابن حجر: فتح الباري. ج1، حديث رقم (451). وانظر أيضاً: محمد عبد الستار عثمان: المدينة الإسلامية. سلسلة (عالم المعرفة)، يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت، رقم (128)، ذو الحجة 1408هـ – أغسطس/ آب 1988م، ص60.
([4]) عبد الواحد بن علي المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب. اعتنى به: د. صلاح الدين الهواري، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص209-210.
([5]) لسان الدين بن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة. تحقيق: محمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط1، 1397هـ/ 1977م، ج2، ص50-51.
([6]) قام المستشرق ليفي بروفنسال بقراءة هذا النقش في إحدى دراساته مع بعض الأخطاء الطفيفة، التي أمكن تصحيحها بالنص أعلاه.
Provençal (Lévi): Inscriptions Arabes ď Espagne. Paris, 1931, PP. 164-165.
([7]) التزمت كتابة النص بألفاظه كما هو بالنقش، الأمر الذي ربما يوحي ببعض الأخطاء الإملائية والحال ليست كذلك.