16,963 عدد المشاهدات
إعداد: سعيد محمد بن كراز المهيري
لقد كان للعرب فيما يعشقون مَذاهبُ؛ وما آثروا فيما أحبّوا غيرَ الخيل مهوى أفئدتهم، ورمز عنفوانهم وكبريائهم، ومربط فخرهم وعزهم، وعُرِفَ عنهم منذ القدم الحفاظُ على أنسابها، وحرصوا على عدم الخلط بين سلالاتها، وخلدوا ذكرها في أجمل أشعارهم، وعندما جاء الإسلام حثَّ على العناية والاهتمام بها، وجاء ذِكر «الخيل المُسوّمة» في أطيب ما يطمح إليه الناس بالفطرة، فكان البيان الإلهي لا أبهى ولا أجلَّ من قوله تعالى: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْث». (سورة النساء آية: 14).
وترجع عناية العرب بالخيل إلى فجر العروبة، أي منذ اتخذوها عوناً لهم على أعدائهم، فشاركتهم الأمجاد والانتصارات، ومن أجل ذلك أوصى الرسول، صلى الله عليه وسلم، باقتناء الخيل ورعايتها، ومعاملتها برفقٍ وأدبٍ جم، ومودةٍ حميمةٍ فقال صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقودٌ بنواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأهلُها معانون عليها، فامسحوا نواصيها، وادعُوا لها بالبركة».
وبالتالي ليس من شك في أنَّ القبائل العربية المنتشرة في بلاد عُمَان، وجلّهم من القحطانيين من الأزد، ومن طَيِّءٍ ومن قبائل أخرى، لهم من العناية بشؤون الخيل، وارتباط عِتَاقِها ما لغيرهم من قبائل الجزيرة. وما شيوخ آل نهيان إلا من تلك القبائل العربية الأصيلة التي كانت الفروسية بعضَ خصالهم، والخيل عُدَّتُهم في كلِّ حالٍ، فهي تجري بهم فرساناً؛ فيُسمَعُ صوتُ أنفاسها، وينطلق الشرر من حوافرها التي تقدح كالزناد، وتثير الغبار في وجه العدو، وهذا يجسِّد ما قاله الشيخ سلطان بن زايد في إحدى قصائده التي سيأتي ذكرها لاحقاً:
يا ما عطينا غاليات اثمان
عجلات في رد السند
لي قينها يرقع على الصمان
يبطي عجاجه ما ركد
الخيل الرُّبدُ لغة وتسمية:
الخيلُ الرُّبدُ من أصايل الخيل المشهورة عند العرب، والرُّبدُ جمع (رَبدَاء) والذكر (أربد) مأخوذة من (الرُّبدَة) ألوان الغبرة، وقيل لون إلى الغبرة أي مائل إلى الغبرة، وقيل الربدة والربد في النعام سواد مختلط، والرُّبدَاءُ من أوصاف النعامة، يقال: نعام رَبدَاء، أي (اختلاط لون السواد مع الرماد). وسُمِّيت الخيل بهذا الاسم لِلحَاقِها نَعَامَةً، ويقال: إنَّ صاحبها الأول أدرك عليها نَعَامَةً. ولكون الرُّبدَة من الأوصاف كثرت أنواع الخيل الموصوفة بهذا اللون. ومن الصفات التي تميّز الخيل الرُّبُد سرعتها الفائقة، وحوافرها الصغيرة، وقوائمها القوية والخفيفة التي تشبه النعام، إضافة إلى أنَّ خفة حركتها تزيد من مهارة من يمتطيها.
سلالة الخيل الرُّبد:
والخيل الرُّبدُ هي من سلالة الكُحَيلات، ومفردها الكُحَيلَة وهي من أقدم خيل العرب، وأعرقها في الأصالة والعتق، وأكرمها لديهم، ويتناقل العامة فيما بينهم: أنَّ نبي الله سليمان عليه السلام لما (طَفِقَ مسحاً بالسُّوقِ والأَعنَاق) خبأت عجوزٌ فرساً تسمّى الكُحَيلَة من جياد الخيل الأصايل، فنسلت من هذه الفرس سلالة سميت كُحَيلَة العجوز. وقيل إنَّ الكُحَيلَة سُميت الدَّهماء، لكونها غامقة اللون، مُكحلة العيون، ويعدونها من الكُحَيلات الخمس المعروفة باسم خيل الصحابة.
التسلسل التاريخي لانتشار الخيل الرُّبد في شبه الجزيرة العربية:
في رواية جاءت في الأصول أنَّ فرساً من الربد مشهورة كانت عند رجل اسمه نزهان من قبيلة الدُّوشان، ويقال إنَّ محمد بن خليفة – صاحب البحرين – كان قد طلبها منه فباعها عليه الرجل على أن يكون مولودها الأول له، فأتت عند ابن خليفة بشقراء أبوها حصان من الكحيلات.
ويذكر أنَّ السلطان سعيد بن سلطان – سلطان مسقط – كان قد أهدى حصاناً من أصل (الرُّبد) إلى عباس باشا الأول في عام 1260هـ/ 1844م (الذي تولى حكم مصر بعد حكم عمه إبراهيم باشا عام 1264هـ/1847م)، وذكر الشيخ محمد بن خليفة أنَّ خيل سعيد بن سلطان صاحب عُمَان انتقلت إليه من خيل آل خليفة التي أخذوها في وقعة قطر من ابن طريف.
الخيل الرُّبدُ عند الشيخ زايد بن خليفة:
احتلت الخيول لدى شيوخ أبوظبي قديماً وحديثاً مكانة بارزة، فقد كان معظمهم يرغبون في امتلاكها؛ لأنَّ النفوس تنشرح لجَمالها، وزينةٌ مُحببةٌ تهواها القلوب؛ فتطرب الأرواح لزهوها وصهيلها. وكانوا يعدون الجواد الأصيل دائماً هدية قيمة للتبادل فيما بينهم وبين حكّام وأعيان زمانهم، ولهذا فإننا نجد من خلال تحليل العديد من المراجع التاريخية وكتب الرحالة والمراسلات الرسمية وغير الرسمية المتبادلة بين حكّام أبوظبي ومعاصريهم من الحكّام والأعيان، الحرص الشديد الذي كان يُبديه شيوخ أبوظبي، وبصفة خاصة الشيخ زايد بن خليفة على تربية الخيول العربية الأصيلة، وإقامة المرابط الخاصة بها في مختلف أنحاء إمارة أبوظبي، والإنفاق الجزيل عليها، حيث اهتمَّ بأصولها، وأكرمها، واستخدمها في مصالحه المختلفة. فقد أورد المستشرق لوريمر في كتابه دليل الخليج وخاصة في الفصل الذي تحدّث فيه عن إمارة أبوظبي في عهد الشيخ زايد بن خليفة: «تشاهد الخيول عند الشيوخ فقط… والمعروف أنَّ في قرى الواحة (البريمي) على وجه الإجمال حوالي 50 حصاناً … وإلى جانب ذلك يوجد عدد من الخيل يقال إنه يبلغ مئة فرس كلها لشيخ أبوظبي»، ويذكر في مكان آخر من كتابه حول خيل الشيخ زايد بن خليفة «… والعلف الذي تقدمه بعض القبائل لمئة من الخيول يحتفظ بها الشيخ في واحة البريمي».
وقد ذكر المستشرق الألماني هرمان بوركهارت الذي زار أبوظبي عام 1904م والتقى الشيخ زايد بن خليفة، في مذكراته اليومية بتاريخ 7 فبراير عام 1904م: «في عصر هذا اليوم قمتُ بتصوير الشيخ في المجلس، وكذلك قمت بتصوير أجمل فرس لديه». وهي الفرس التي أهداها شريف مكة (الشريف عون الرفيق بن محمد بن عون 1878 – 1904م) لحاكم أبوظبي الشيخ زايد بن خليفة، وربما قدمها مع السرج الرائع الزخرفة والرَّشمة المفضضة على رأسها. ولعلَّ لهذه الفرس عقباً معروفاً مدوناً في سلالات (أحواج) الخيل المولودة في أبوظبي، ومن الممكن أن تكون معروفة بالاسم.
هدية ثمينة
ولعلَّ الدلالة المعنوية بالنسبة إلى “أجمل فرس” عند الشيخ زايد بن خليفة، حاكم أبوظبي تشير إلى اتساع علاقاته السياسية والاجتماعية، ولم يكن بمقدور بورخارت ذكر هذه الحادثة وتصوير الفرس لو لم يؤكد له الشيخ زايد بن خليفة وأولاده أنها هدية ثمينة يفتخر بها من سلالة الخيول الأصيلة التي كانت معروفة لدى أشراف مكة، فضلاً عن أنها مؤشر قوي على الصلات السياسية المتميزة التي باتت تربط أشراف مكة بآل نهيان. فقد عُني الأشراف باقتناء الخيل، وأنشؤوا المرابط الخاصة بخيولهم كمربط كحيلة الشنينة، ومربط الصويتية وهو من أقدم المرابط التي كان يمتلكها الأشراف. ويبدو أنه كان في مرابط خيلهم في مكة سلالة من خيل الربد، ومن مرابطهم انتقلت خيل الربد إلى قبيلة آل ظفير في نجد ومنها إلى أنحاء الجزيرة العربية.
يذكر كذلك أنَّ الأشراف من بني زيد في مكة وجدوا في مرابط الشريف زيد بن محسن شريف الذي توفي سنة 1076هـ/ 1665م، فرساً مشهورة من سلالة كحيلة العجوز، ومن سلالتها انتقلت خيول إلى أمراء ومشايخ الخليج العربي.
ويقال إنَّ الشريف محمد بن عون (توفي سنة 1274هـ/ 1857م) قدَّم لعباس باشا خيلاً منها: عُبية الأصل، وورد أيضاً أنَّ الشريف سلطان بن شرف أمير تُربة عام 1270هـ/ 1853 كان يتعلق بالخيل (الدُّهم) ما يدلُ على العناية الخاصة بها. بل ذكر أنه كان لدى الأشراف مربط معروف يدعى (ربدان الخُشيبي). وقد جاء أنَّ للخيل الحجازية، أي خيل الأشراف، صفات مميزة منها “أحداقُها حسنةٌ سودٌ رقيقة الجحافل، طويلة الآذان، صلبة الحوافر، أرساغها جيدة”.
ويعتقد أنَّ الفرس التي أهداها الشريف عون الرفيق بن محمد بن عون (1878 – 1904م) إلى الشيخ زايد بن خليفة، ربما تكون من سلالة الصقلاويات التي هي نوع من عِتَاق الخيل (الأصايل) القديمة من كُحيلة العجوز، وهي التي ينسبها العرب إلى خيل الخمس التي تمَّ تأنيسها.
أمّا أصل التسمية، ففي كتب اللغة: الصَّقِلُ من الخيل القليل اللحم، وصِقَال الفرس صَنعَتُهُ وصيانتُهُ، يقال جعل فلانٌ فَرسَهُ في الصَّقال، أي القيام عليه بالجلال والعلف. ويقال أيضاً سُميت (صقلاوية) لصفاء شعرها.
وقد تكون سُميت بذلك، لكونها تحمي ظهورها من ركوب من لم تأنس به بِرمحِهِ برجلها، إذ العامة في نجد يقولون: صَقَلَتهُ الفرس، إذا ضربته برجلها، وفرس صقول إذا كان يرمح برجله من يقرب منه، ممّن لا يعرفه.
وممّا يدلُّ على المكانة الرفيعة للخيل الصقلاوية ما ذكرته (الليدي آن بلنت) من أنها شاهدت في إصطبل الأمير محمد بن رشيد فرسا صقلاوية من خيل نجد، وقالت في وصفها: «غبراء في غاية البساطة، كما تبدو لأول وهلة واهنة الأطراف، ذات رأس يثير الإعجاب بأية حال، إلا أنها ذات كتفين رفيعين، وهذه الصقلاوية ذات سمعة كبيرة هنا، وتولى اهتماماً خاصاً لأنها آخر من بقي من فصيلتها، والخلف الوحيد للفرس الشهيرة التي اشتراها عباس باشا الذي أرسل عربة تجرها الثيران من مصر إلى نجد لأخذها، لأنها كانت عجوزاً وغير قادرة على السفر سيراً، وأنَّ مهرة ابن رشيد هذه هي الممثلة الوحيدة للسلالة الباقية في جزيرة العرب». فهذه الصقلاوية الأصيلة هي الأم العليا للأصل الصقلاوي بمصر. ومن ابنتها وأحفادها وحفيداتها ولدت الأفراس الصقلاوية التي صارت مفخرة مرابط أمراء الأسرة الخديوية. وما كان من ملك أو أمير يزور مصر إلا ويزور مرابط الأمراء لمشاهدة الصقلاويات الجميلات.
وللتحقُّق من أصول الفرس المهداة من قبل الشريف قمت بعرض الصورة على السيد المصطفى مفوضي مسؤول الإصطبلات ومشرف التدريب بنادي تراث الإمارات، والمتخصص في تربية وتحسين سلالات الخيل، حيث أوضح أنها من سلالات الدهماء إذا لاحظنا الشكل العام للفرس، وكذلك القوائم نقطة الذيل العليا في المؤخرة من جهة، ومن جهة أخرى شكل وحجم الأذنين وتناسق العنق والرأس مع باقي الجسم، فهذا يعدُّ من ميزات الخيل العربي. أمّا شكل الرأس فلا يمكن تمييزه إلا بمعرفة نسب الفرس من جهة الأم التي تأخذ منها نحو 75%، ونسب الأب تأخذ منه 25% من المواصفات.
اهتمام وعناية
وجاء في الرسائل التي تمَّ تحقيقها والموسومة بـ”رسائل من عصر زايد بن خليفة 1836 – 1909م” اهتمام وعناية الشيخ زايد بن خليفة بالخيل وترسيخ قيم الفروسية؛ لأنها من المآثر العربية التي تسري في النفوس الأبيّة عروبةً نقيَّةً في عزة وأنفة. وعليه فقد ورد في الرسالة الموجهة من زايد بن خليفة إلى خليفة بن زايد في واحة العين والمؤرخة في 25 سبتمبر سنة 1901م: «… وصلنا راجعين الوطن بحال الصحة والسلامة ثم الواصلة إليكم ثلاثين ريال أخرى للخيل الذي في الجاهلي…»
ونستدلُّ من خلال هذا النص الوارد في الرسالة على أنَّ الشيخ زايد بن خليفة كان شديد الحرص على الاحتفاظ بالخيل في قلعة الجاهلي والعناية بها، لتكون على أهبة الاستعداد لمواجهة أي طارئ أو هجوم قد تتعرَّض له الواحة. ويبدو كذلك أنه قد خصَّص لخيله مرابط خاصة وعطاءً مجزياً للعناية بالخيل التي تقيم في قلعة الجاهلي، وكذلك خصَّص أناساً من العرب والعجم للعناية بها وخدمتها، لإنتاج سلالات جديدة من أصايل التي كان يمتلكها.
وجاء في الرسالة الموجهة من الشيخ زايد بن خليفة إلى الشيخ أحمد بن هلال الظاهري والمؤرخة في 5 إبريل سنة 1901م: «… عرفة من طرف الفرس الكحيلة إنها وصلت وأنجبت مهرة مباركة إن شاء الله، وقد حصلتو لها منيحه بتذمرونهن بالوصول إلينا أحسنتم».
ونستدل من خلال هذا النص على أنَّ الشيخ زايد بن خليفة كانت له عنايته الفائقة بأصول الخيل وأنواعها، ومنها نوع الفرس الواردة في هذا النص وهي من نوع الكحيلات، ويبدو أنَّ تقديم حليب النوق للمهر الصغير دليل على الاهتمام الواضح بإطعام الخيل لتبقى بصحة وعافية.
ومن أهم الوثائق التاريخية التي تحدثت صراحة عن سلالة الأربد الخاصة بالشيخ زايد بن خليفة، تلك الرسالة الموجهة من سعيد بن محمد بن عامر المحرمي الحارثي إلى الشيخ أحمد بن هلال الظاهري والمؤرخة في 20 إبريل سنة 1905م، والتي جاء فيها: «… وتخبيرك أننا قد سيرنا الفلوة بنت الأربد لحضرة جناب زايد بن خليفة بعدما أشار إلينا يطلب أمهّا، وأمها غير لائق القود بها حالاً؛ لأنها أولاً كانت باطي مدني وقد أفلت ليلة عاشر بحصان ولذلك لم تستطع القود؛ لأنه لا شك القود لها مضر، وأحببنا تصدير ابنتها لحُسن ظننا فيها؛ لأنها ربداء نص من أمها وأبيها وأما هي بعدها صغيرة سن تكمل السنتين 29 شهر الحالي، وحببنا تقديمها لئلا نتمادى بإشارة شيخنا الوالد زايد، وسيّرناها له على بركة الله تعالى فعساها تكن رمكة مبروكة، وأرسلناها على أيدي رسلنا سالم بن سعيد راعي روعه الحارثي، وسبيع بن هاشل الهشيلي الوهيبي، وأمها إن شاء الله سوف تصله بعد حين إذ حيث أنه لا فرق بيننا وإياه في المال والحال».
يتحدث هذا النص عن الفرس والحصان الأربد الذي أوكل الشيخ زايد بن خليفة مهمة القيام والعناية بهما إلى سعيد بن محمد بن عامر المحرمي الحارثي في صحار من سلطنة عُمَان، وتفيدنا هذه الرسالة أنَّ سعيد الحارثي قد أرسل مهرة ربداء عمرها أقل من سنتين إلى الشيخ زايد بن خليفة وهي تحمل أوصافاً مناصفة من أمها وأبيها الحصان الأربد. ونستدل من هذا النص أيضاً على أنَّ سلالة الحصان الأربد متوافرة لدى الشيخ زايد بن خليفة مع الحسب والنسب، وعمل جاهداً للاحتفاظ بسلالة الخيل الأربد العربية الأصيلة، كما استخدم خيل الأربد لتحسين سلالات الخيل الأخرى. وفي ذلك دلالة قاطعة في إثبات ما قاله الشيخ محمد بن خليفة – صاحب البحرين – على أنَّ الأربد من سلالة الخيول التي وصلت إلى سعيد بن سلطان صاحب عُمَان، والذي تربطه بشيوخ آل نهيان علاقات وطيدة، بحكم الجغرافيا والتاريخ المشترك منذ قيام حكم آل بوسعيد في عُمَان عام 1744م. وهذا ما أكّده حديث عبدالرزاق بن سليمان آل خليفة، عندما سئل عن الحصان الذي ذُكِرَ أنه أُرسل إلى عباس باشا في مصر من السيد سعيد بن سلطان، سلطان مسقط، من أيّ الرُّبدِ هو فأفاد عبدالرزاق أنه رَبدَان أصفر، ابن فرس الدويش، وهو درج من محمد بن خليفة عطاءً، إلى اليد سعيد، سلطان مسقط. وفي موقع آخر يؤكد عبدالرزاق في حديثه عن سلالة خيل الربد، أنَّ ربدان هو حصان سلطان مسقط.
ومن النصوص التاريخية المهمّة التي تحدثت عن الخيول الأصيلة التي كانت تعدُّ هدايا قيمة للتبادل فيما بين الشيخ زايد بن خليفة وبين حكام وأعيان زمانه، منها الرسالة الموجهة من يوسف بن سعيد الهاجري إلى الشيخ أحمد بن هلال الظاهري والمؤرخة في 12 أغسطس سنة 1902م: «… ونعرفك شيخنا المطاع زايد بن خليفة عَرّف للوالي في الحصان الذي مَرسول له من علي بن أحمد من البحرين. والحقيقة الوالي قال دلّو زايد معرف في الولد مظفر لا يعز عليه والحصان واصل عند الطارش».
وهنا إشارة واضحة إلى أنَّ الشيخ زايد بن خليفة قد حصل على هدية قيمة من الخيل تمثّلت في الحصان الذي أُرسل إليه من علي بن أحمد من البحرين عام 1905م. وهنا نوضِّح أنَّ الشيخ زايد بن خليفة كان يهُدى ويهدي من الخيول الأصيلة التي كانت في مرابطه، فورد في كتاب رسائل السركال؛ الرسالة المؤرخة في 2 أكتوبر 1887م، جاء فيها أنَّ: «… الحاج أحمد خان (المبعوث الفارسي الذي وصل أبوظبي في النصف الثاني من عام 1887م) حصل من حاكم أبوظبي على فرس وحصان، وبعد وصوله إلى لنجة أرسل خمسين جونيه شعير إلى حاكم أبوظبي، وقد أرسل إلى ولد الشيخ زايد (خليفة بن زايد) فلواً عمره سنة ونصف».
وفي هذا النص إشارة واضحة إلى أنَّ الشيخ زايد بن خليفة كان يمتلك عدداً كبيراً من الخيول متعددة الأنساب والأصول، وأنه كان حريصاً على تقديمها كهدايا قيمة لضيوفه لتوثيق عُرى التواصل معهم، كما يستنتج من هذه الوثيقة حرصه أيضاً على استمرار تناسل السلالات ذات الأصول العريقة من هذه الخيول.
ربدان في القصائد الشعرية
إضافة إلى ما سبق كان لربدان حضور مميز في النصوص الشعرية مما يعطي دلالة قاطعة على مكانته الرفيعة لدى الشيخ زايد بن خليفة وأبنائه، فهناك قصيدة للشاعر علي بن مصبح بو نعاس الرميثي يمتدح فيها جناب الشيخ زايد بن خليفة؛ لأنه أهداه حصاناً من هذه السلالة العريقة فيقول:
هــذي عطيتنــا مــن ابن نهيــان
جزل العطايا لي شبوره طويله
ياما عطا لمصبح نصب الأذان
يا زين مصراعه وومية شليلة
يتحدَّث الشاعر في هذين البيتين عن الحصان الذي أهدي إليه من الشيخ زايد بن خليفة الذي عرف بكرمه وسخائه وعطاءاته الكثيرة، ثمَّ يتناول صفات هذا الحصان ومنها القوة وسرعة الحركة، ويستطرد في تناول هذه الصفات قائلاً:
يا زين مصراعه يلي لبس الأعنان
شروات ظبي فاسخ من مجيله
منسـوب مـا بين الكحيلــة وربدان
يـاخد من العــوده بمـد ومثيلـه
ان أتعبوهن واضربوهن بالارسال
عطية شيوخ والعطايـا جزيلـة
أي ما أجمل حركته عندما يوضع عليه اللجام، فهو كالظبي الذي قفز فجأة من قيلولته، وليس غريباً عليه ذلك فهو من سلالة أصيلة؛ فأبوه ربدان وأمه الكحيلة ومنهما يأخذ صفاته، وهذه السلالة الأصيلة إذا ما شاركت في السباق أو الغزو شرفت أصحابها؛ لأنها من عطايا الشيوخ الكثيرة.
بعد وفاة الشيخ زايد بن خليفة، طلب الشيخ راشد بن أحمد بن عبد الله المعلا، حاكم أم القيوين، حصانه فأعطي له، رغم المكانة التي كان يحظى بها الحصان عند الشيخ زايد بن خليفة وأبنائه، فلم يكن باستطاعة أبنائه أن يردوا هذا الطلب؛ لما عرف عنهم من كرم وجود، والطلب كما هو معروف غير الهدية… وهم بهذا أعطوا الحصان كمركوب، لكن سلالته بقيت متوارثة لدى العائلة، كما غيرها من سلالات الخيول الأخرى، التي تحرص العائلة على المحافظة عليها. وفي الأبيات التالية موقف للشاعر الشيخ بطي بن سهيل آل مكتوم حاكم دبي (1906-1912) من هذا العطاء:
نـــركـــــــب عـلى الّلـــيْ قـذّالـهـا مــــــــــا لان
ولا تعــثـــور فـــــي الـــنــــــــكــــــــد
أخـطـــيـت ياللي مـــعـــطـــي لـــحـــصــــــان
وتـــريــــد مـــن غـــيــــره ســــــنـــــــد
مــــركـــــوب شــــيـــخ مـــــطـــوع السحــلان
شــــــيـخ يـــهــابــــه كــــــل حــــــد
لــــيـت الـــمــــنـايــا مـا عـــــدت ربــــــــــدان
مــــا دام زايـــــــــــد فـي الـلــــحـــــد
في هذه الأبيات نرى أنَّ الشيخ بطي يعترض على إعطاء (ربدان) لحاكم أم القيوين؛ لأنه حصان قائد عظيم، لكن هذا الاعتراض في غير محله؛ لأنَّ من عاداتنا وتقاليدنا أن لا نردَّ من يطلبنا بحاجة، فكيف إذا كان الطالب حاكم والمطلوب منهم أولاد زايد بيت الجود والكرم، ولو تعرَّض ابن سهيل لهذا الموقف لفعل كما فعلوا، وهنا يأتي الرد على القصيدة السابقة على لسان الشيخ سلطان بن زايد بن خليفة في الأبيات التالية:
يا شيخ تكفى الهم والأحـزان
ما مـات من خـلف ولـد
ياما عطيـنا غـالــيات اثمــان
عجلات في رد السند
لي قينها يرقع على الصــمان
يبطي عجاجه ما ركد
خيل مغذيات وسط عمان
مطلاقهن شروى الرعد
عادات هلنا من سنين ازمان
يكرمون اللي شهد
ما اهبلك يا منكر عطا الحصان
كم غالي قبله نفد
كــله لــعينا لابــس الســبـهان
بو مضحك كنه برد
يأتي الرد من الشيخ سلطان بن زايد بن خليفة على ابن سهيل غنياً بالمعاني العميقة، والحقائق التي لا لبس فيها؛ أولاها أنَّ الموت لا يغيب الأشخاص الذين لهم ذرية من بعدهم، وهذا هو حال والده، الذي أنجب ذرية تحفظ اسمه وتاريخه، وهذا حال حصانه (ربدان) الذي إن رحل وأعطي لغير صاحبه، فهو موجود لأنَّ سلالاته تجدد حضوره في كل حين، ونحن أهل الكرم والعطاء جدنا بالغالي والنفيس، وسلالة الأربد سترد العطاء بأكثر منه، إذ لدينا من سلالته خيول في عُمان (مدينة العين) معتنى بها، خيول لم يركد بعد غبار وقع أقدامها، وهنا نجد دلالة واضحة على الرعاية التي تحظى بها الخيول في قلعة الجاهلي وغيرها من الأماكن.
إضافة إلى ذلك فقد وردت قصيدة رائعة في مخطوطة محفوظة في أرشيف أكاديمية الشعر بهيئة أبوظبي للثقافة والتراث، تشير إلى أنَّ الشيخ زايد بن خليفة تلقى حصاناً اسمه (شويمان) كهدية من الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة الذي كان ولياً لعهد البحرين، والذي أصبح بعد ذلك حاكماً للبحرين بين 1932 و1942م. كما أرسل مع الحصان قصيدةً تدل على عمق العلاقات الأخوية بين البلدين يقول فيها:
الغوج مبذولٍ إلى عاد تبغيه
يا شيخ يا حامي حدود التوالي
يلّى إلى من ضيّع السمت تشريه
زايد إلى عدّت علوم الرجالي
الغوج ما طاري لنا دوم نجزيه
إلاّ لشخصك يا حميد الفعالي
هاذاك لك واللى غلا منه نفديه
الحال مبذولٍ فكيف الحلالي
ورد عليه الشيخ زايد بن خليفة مرحباً بالقصيدة وبالحصان فقال:
حي الكتاب اللى لفاني وهاديه
به مرحباً وأهلاً بردّ السؤالي
اعداد ما برقٍ مزونٍ تشابيه
واعداد ما نسنس هبوب الشمالي
فكّيت برشامه وأحطنا معانيه
في الغوج لى كامل جميع الخصالي
ساعة لفى شويمان غزر النظر فيه
مقبول من شيخٍ جزاه وهدى لي
هاذي عوايد من حمد والسخا فيه
يا الله تكفا له صروف الليالي
حالك جميل وفضل جودك يكفّيه
والفرق معدومٍ إلى أتلى التوالي
ولا بدَّ لنا من الإشارة إلى أنَّ سلالة شويمان قد ورد ذكرها في بعض المؤلفات، فقد قالت (الليدي آن بلنت) في وصف ما شاهدته من خيل ابن رشيد: «أحسن حصان بين الجياد الثمانية: شويمان سباح: ذو قوة كبيرة، ورأس كبير وممتاز… وهو من نتاج نجد».
ويذكر أيضاً أنَّ الأمير عبدالله بن رشيد أول حكّام إمارة آل رشيد في حائل 1251هـ/ 1834م، جاء في زيارة إلى نجد وقدَّم خلالها فرساً هدية إلى الشريف ابن عون اسمها (عبية الشريف)، ويذكر أنَّ أبوها شويمان.
المصادر والمراجع:
- القرآن الكريم.
- ابن منظور: لسان العرب، المجلد السادس، بيروت 2004م.
- حمد الجاسر: أصول الخيل العربية الحديثة، دار اليمامة، الرياض 1415هـ
- ج، ج لوريمر: دليل الخليج – القسم الجغرافي، ترجمة مكتب الترجمة بديوان حاكم قطر.
- سعيد محمد بن كراز المهيري بـ «رسائل من عصر زايد بن خليفة 1836 – 1909م»، أبوظبي 2009م.
- سعيد بن خلفان الخليلي: تمهيد قواعد الإيمان وتقييد شوارد ومسائل الأحكام والأديان، تحقيق حارث البطاشي، ط1، مكتبة الشيخ محمد البطاشي للنشر والتوزيع، دار الهلال العالمية، القاهرة – بيروت 2010م.
- نور الدين عبد الله بن حميد السالمي: تحفة الأعيان بسيرة أهل عُمان، السيب 2000م .
- سلطان العميمي: ديوان «خمسون شاعراً من الإمارات»، ط 2 ، إصدارات أكاديمية الشعر، أبوظبي 2009.
- صورة عن مخطوطة في أرشيف أكاديمية الشعر عن طريق الباحث مبارك العماري (من دون تاريخ).
- عبد العزيز عبد الغني إبراهيم: أبوظبي توحيد الإمارة وقيام الاتحاد، ط 1، مركز الوثائق والبحوث، أبوظبي 2004م.
- فاطمة الصايغ، فالح حنظل: رسائل السركال (تاريخ الإمارات العربية المتحدة المستخلص من رسائل الوكيل الوطني في الشارقة 1852 – 1935م)، أبوظبي 1999م.
- هرمان بور خارت (آنيغريت نييا، بيتر هربسترويت): رحلة عبر الخليج العربي من البصرة إلى مسقط، ترجمة وتعليق أحمد ابيش، أبوظبي 2009م.