رحالة على مشارف الحصن..انطباعات حول الهيبة

block-2 مجلة مدارات ونقوش – العدد 9

 1,452 عدد المشاهدات

الكاتب: محمد بابا 

 


يكاد يجمع المؤرخون والرحّالة على تميُّز وفرادة بناء قصر الحصن، وتكاد تكون الهيبة هي الكلمة الجامعة التي تتردَّد على ألسنتهم حين يتعلّق الأمر بوصفه، وقد كانت المنطقة قبلة للكثير من الرحّالة الأجانب، بعضهم مغامرون قدِموا لاستكشاف تجارة اللؤلؤ، وفيما بعد النفط، فيما عبر بعضهم في رحلة استكشاف للنطاقات الجغرافية في طريق المستعمرات الهندية.  

والرحّالة الذين زاروا أبوظبي، وبالطبع زاروا قصر الحصن قدّموا شهادات، وبعضهم التقط صوراً وثّقت تلك المراحل التاريخية المبكرة. يقول بكنغهام، وهو من أقدم الرحّالة الغربيين الذين كتبوا عن أبوظبي، في وصفها سنة 1816: إنها جزيرة بها مدينة تحمل هذا الاسم، تقع في أعلى الجزيرة، ميناؤها عامر نسبياً بالتجارة، ويرد بكنغهام هذا الرواج الاقتصادي في أبوظبي إلى الصداقة التي تجمع بين حاكمها والسلطان في مسقط. 
وقام “هـ هـ وايتلكوك” في عام 1824م برحلة استطلاع عن الجزيرة، وقد تنبّأ بمستقبلها وموقعها الاستراتيجي قائلاً: إنَّ الجزيرة، رغم فقرها وعدم أهميتها آنداك، سوف تكون لها أهمية كبرى بسبب المرسى الذي تتمتّع به قرب الشاطئ والأخوار الواقعة على الجانبين، كما دوّن الضابط البريطاني صامويل هاميل في «سجلات حكومات بومبي» مجموعة من المعلومات عن أبوظبي وحصنها بعد زيارته لها عام 1831.
وقد وقع بعضهم في مغالطات حوله، حيث كتب المقيم السياسي البريطاني في عام 1835 عن «قصر الحصن» إنه حصن مربع لا تبدو عليه القوة ويمكن تدميره بقليل من قذائف المدفعية والصاروخية، وتمَّ نفي ذلك في تقارير أخرى سنة 1868 وصفت المدافع أمام بوابة الحصن، وذكرت أنَّ عددها ثمانية مدافع من الحديد والنحاس الأصفر، ما يشير إلى تمتُّع المشيخة بالسلطة العليا السياسية والعسكرية على ساحل الخليج.


الحصن المهيب
وفي بداية القرن العشرين أمّ المنطقة بعض الرحالة الأجانب، وكانوا يقومون بجولات عديدة على طول الساحل، فخلفوا وراءهم قصصاً مثيرة، ومن أشهرهم  المبشّر الأمريكي صمويل م زويمر في عام 1901، الذي استضافه الشيخ زايد بن خليفة «زايد الأول» في قصر الحصن، وكتب في هذه الرحلة: إنَّ أكثر ما لفت نظره الحصن المهيب الخاص بالشيخ، ويعدُّ أوّل من التقط صورة فوتوغرافية بطريقة مناسبة لقصر الحصن، وباستثناء الحصن والاثني عشر منزلاً، فقد وجد أنَّ كلَّ بيوت المدينة بُنِيَت من سعف النخيل، وتمتدُّ على شاطئ البحر مسافة ميلين تقريباً، وقال إنَّ عدد سكانها لا يزيد على عشرة آلاف نسمة، وجميع سكانها من العرب والزنوج، وبعض الهندوس أتوا من بلاد السند للتجارة، والتقط بعض الصور ولم تكن عالية الجودة.
ومن أهم زوّار قصر الحصن من الرحّالة السير برسي كوكس، الذي كانت تربطه علاقة بحاكم مسقط، لأنه كان معتمداً سياسياً فيها، وقدم برفقته لنقاش أمور تتعلّق بالسياسات القبلية، ووصف كوكس شيخ أبوظبي بقوله: إنه رجل مسن مهيب، عمره وقتها يربو على الثمانين، واعتمد كوكس على أصدقائه من رجال الشيخ زايد الأول في تأمين نصف مراحل الرحلة.
ولدى وصولهما إلى أبوظبي استقبلهما الحاكم استقبالاً حاراً، وأقام السلطان مع الشيخ، وتمَّ وضع بيت الضيافة العربي تحت تصرُّف كوكس، وفي صباح اليوم التالي أقام شيخ أبوظبي عرضاً خاصاً للفروسية في حفل رياضي على الرمال الممتدة خلف الحصن.
وقد سجّلت هذه المناسبة في صور فوتوغرافية، وهي الصور الخالدة والوحيدة التي التقطها كوكس في أبوظبي، ويظهر فيها الشيخ زايد وأولاده وهم يعتلون ظهور الخيل.




وتجوّل كوكس في سوق أبوظبي، وقال إنه يحتوي وبطريقة متواضعة على كلِّ شيء يحتاج إليه الناس، وفي وصف عادات الشيخ زايد الأول تطرَّق كوكس لقصر الحصن، فقال: إنَّ من عادة الشيخ في فصل الصيف أن يجلس في الصباح الباكر خارج القصر في الهواء الطلق، ويؤدي عمله الإداري الخاص بإمارته، كما يلتقي بالناس ويحلُّ مشاكلهم كما يقدّم لهم المشورة.
وبني قصر الحصن مقابلاً لشاطئ البحر بمسافة مأمونة، كما وصفت وثيقة من أوائل الوثائق البريطانية جاء فيها: «مدينة ساحلية يسكنها ستة آلاف فرد، فيها حصن وبيوت معظمها من سعف النخيل وبعضها الآخر حجري، وهناك سوق صغيرة ومرسى بسيط». بينما سجّل الرائد كلارينس: «قصر الحصن كبير مهيب يقع بين صف من النخيل والجزء الخلفي للمدينة، وهو على الأغلب أكبر وأعلى بناء في مدينة أبوظبي، ويتضمّن داخل أسواره الحصن القديم الذي كان مَعْلَماً للسفن العابرة». 

 

ملاحظات بورخارت
وقام الرحّالة الألماني بورخارت بزيارة إلى أبوظبي، على أثر رحلة اللورد كيرزون نائب الملك في الهند حول موانئ الخليج، ووصل بورخات إليها في 4 فبراير 1904 على متن سفينة شراعية، وأقام هناك ستة أيام ضيفاً على الشيخ زايد بن خليفة.
ومن ملاحظات بورخارت حول أبوظبي أنه تفاجأ بمستوى الرخاء، حيث تطوّرت مراكز تجارية مهمّة، وقد التقط هذا الرحّالة مجموعة من الصور؛ من أشهرها صورة زايد الأول وهو يعقد مجلسه في الهواء الطلق خارج الحصن، وتعدُّ هذه الصور من أقدم الصور المعروفة الباقية لزايد الأول، الذي كان يتمتّع بنفوذ واسع، إذ ورد في التقرير الإداري للساحل المهادن سنة 1905: «يعدُّ الشيخ زايد بفضل سنّه التي أضفت عليه مهابة ووقاراً، وبفضل سمعته وشهرته، عميداً لشيوخ الساحل المهادن، وهو سعيد بالاضطلاع بهذا الدور».
وصوّر بورخارت أبوظبي ووسائل النقل قديماً، وخاصة الخيول التي كانت تتمتّع بمكانة خاصة لدى أهل المنطقة، كما صوّر حصاناً أهداه شريف مكة إلى الشيخ زايد، وأغلب صوره محفوظة حالياً في أحد متاحف المانيا، وكان يتمُّ التقاطها باستخدام كاميرا ذات لوح زجاجي، وهي وسيلة مكلفة جداً.


صور كودري

وزار الرحّالة البريطاني رونالد كودري أبوظبي والتقط مجموعة من الصور للحصن، من ضمنها صور جوية سنة 1949، وكذلك سنة 1959، وقد استقرّ كودري في الإمارات منذ نهاية الأربعينيات ضمن إطار عمله في شركات تبحث امتيازات التنقيب في المنطقة.
وصوّر كودري الحصن والبنايات القليلة المبنيّة من المرجان حوله، والتي يعود معظمها إلى تجّار اللؤلؤ الأثرياء، ووصفها بقوله: “يبدو أنها لم تتلقَّ صيانة منذ فترة”، في  إشارة إلى انهيار تجارة اللؤلؤ في الأربعينيات، وقال إنَّ الأبنية المقامة من سعف النخيل هي الغالبة.
وقال كودري: على الرغم من أنَّ أسواق أبوظبي صغيرة، إلى أنها لعبت دوراً بالغ الأهمية، وخاصة لمن كانوا يستفيدون منها، بمن فيهم البدو، ومن أبرز ما كان يتمُّ تداوله في السوق السلع الغذائية الرئيسة، فضلاً عن سلع أخرى مستوردة، وأسهم السوق في تزويد السكان المحليين بأشياء، مثل الفحم والخضار والفواكه والمواشي، التي كانت تُنْقَل على ظهور الجمال من المناطق الداخلية.

كما زار قصر الحصن سياسيون وإعلاميون، منهم ستيفن لونغريج، الذي زاره عام 1939 لإنهاء مفاوضات اتفاقية الامتيازات الخاصة بالنفط، وقد تمَّ توقيع الاتفاقية من قِبَل الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان. والسير هيو باوستد، الذي جاء إلى أبوظبي كأول معتمد بريطاني عام 1952، وبعد تقاعده عاد إلى مدينة العين، وعاش في بيت خصّصه له المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، حتى وفاته. وسوزان هيليارد، التي عرفها أهل أبوظبي باسم «أم ديبورا»، التي جاءت مع زوجها، وكان يعمل مديراً تنفيذياً في مجال النفط، ولها ولابنتها ديبورا صور داخل الحصن، وكذلك الصحافية واندا جابلونسكي، التي زارت أبوظبي عام 1957.
إضافة إلى دونالد هولي، الذي عمل في الفترة من 1958 إلى 1961 معتمداً بريطانياً في دبي، وذكر في مذكراته كيف كانت أبوظبي في القرن الـ19 مركز الثقل السياسي على الساحل وعاصمة مزدهرة تجارياً وسياسياً، ومارغيرت لويس، زوجة سير وليام لويس حاكم عدن 1965-1960، والمقيم البريطاني في الخليج 1961-1966، وتركت لويس مذكرات كتبت فيها أنها جاءت في أول زيارة إلى أبوظبي عام 1964.
وكان هؤلاء الرحّالة والضيوف يجدون اهتماماً ورعاية خاصة من قِبَل الحاكم، وكانوا يقيمون في خيمة أو عريش بجوار قصر الحصن، إلى أن قام الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، ببناء جناح خاص في الحصن لاستقبالهم، بعد توليه الحكم في أبوظبي عام 1966. كما استمرت زيارات الرحّالة والموفدين الأجانب إليه حتى عام 1971، حين نقل مقر الحكم عن قصر الحصن، ليتسنّى ترميمه كموقع تاريخي مهم من مواقع الذاكرة الإماراتية، يعكس طبيعة التطوّر المعماري وتاريخ حكم آل نهيان، وأوجه الدفاع عن الأرض عبر الحقب.