2,041 عدد المشاهدات
الكاتب: علي عبيد الهاملي
كان مجيء المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيَّب الله ثراه، في مرحلة ظهرت فيها قيادات عربية علت خطاباتها الكلامية، وكثرت فيها الوعود التي رفعت سقف توقُّعات الجماهير العربية، وجعلتها تعيش حلماً كبيراً، سرعان ما تحطَّم على صخور الانتكاسات التي منيت بها الأمة العربية. فقد قامت وحدات بين أقطار عربية لم تستمر طويلاً، وكان مآلها إلى الانفصال والتفكُّك، كما دخلت الدول العربية معارك حربية مع العدو الإسرائيلي كانت نتيجتها هزائم ساحقة، تسببت في احتلال أراضي عددٍ من الدول العربية الكبرى، ودخول الأمة العربية في متاهة من الصعب الخروج منها. في هذه الظروف أتى زايد عليه رحمة الله، وبالتحديد في عام 1966 ميلادية، حاكماً لإمارة أبوظبي، حاملاً معه حلماً كبيراً، لم يكن أحد في تلك الفترة وتلك الظروف يتصور أن بالإمكان تحقيقه، لكن عزيمة زايد، عليه رحمة الله، وقوة إرادته، جعلت تحقيق هذا الحلم ممكناً، رغم تشكُّك البعض، واعتقادهم أنَّ ذلك صعب إلى درجة الاستحالة.
يروي هذه القصة على لسان المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيَّب الله ثراه، الصحفي الهندي «كرانجيا»، مالك ورئيس تحرير جريدة «بليتز» الهندية، في حديث أجراه مع الشيخ زايد ونشره في 4 يونيو 1970 ميلادية، يقول زايد، عليه رحمة الله:
«في أحد الأيام، عندما كنت حاكماً للعين في المنطقة الشرقية، كنت أتمشى في طرقات العين، وكان معي في هذه الجولة أحد الأصدقاء، وهو ضابط إنجليزي كبير، وأحسست وأنا أرى الناس والبيوت والجبال والوديان، أنَّ حضارة هذا البلد تكاد تصرخ فيّ، وتدفعني دفعاً إلى بناء دولة عصرية حديثة.
هنا أخذت أشير وكأنني في حلم روحي عذب؛ هنا سيقوم مركز زراعي ضخم، وهنا منطقة صناعية، وهنا محطة كبيرة لتوليد الكهرباء، وهناك في أبوظبي سننشئ ميناء في هذه المنطقة بالتحديد، أمَّا المطار فسيكون في تلك النقطة، وهنا جامعة، وهنا المستشفى، وهنا قوة الدفاع، وهكذا.. وهكذا. وضحك صاحبي وقال لي: دعك من أحلام اليقظة.
ومرت الأيَّام، ونسيت الحديث كلَّه، حتى جاء في يوم الصديق نفسه بعد أكثر من عشرين سنة ليزورني بعد أن اعتزل الخدمة في بلاده، وكان مندهشاً للقريتين اللتين رآهما في ذلك الوقت كيف أصبحتا الآن، وقال لي: هل تذكر ذلك الحديث الغريب؟ إنَّ كل شيء عيَّنته بُنِيَ في المكان ذاته الذي حدَّدته؛ المصانع والكهرباء والمستشفى، حتى الدفاع، كل هذا تحقَّق ولم تكن أحلام يقظة».
ويعلق “كرانجيا” قائلاً: «إنَّ هذه القصة حدثت قبل أن يحلم أحد أنَّ هناك بترولاً سيتدفق في هذه المنطقة، أو أنَّ الشيخ زايد سيكون حاكماً لتلك البلاد. إنَّ مثل هذه الحالات لا تحدث إلا للزعماء الملهمين، وزايد فيه الكثير من صفات الزعيم الملهم».
إنَّ المتأمل لشخصية الشيخ زايد، رحمه الله، من خلال الأحاديث التي أدلى بها في بداية توليه مقاليد الحكم في إمارة أبوظبي، يجد أمامه نموذجاً فريداً للقيادة، قلَّما يتكرر عبر التاريخ، فهو قائد يستلهم الماضي، ويقرأ الحاضر، ويستشرف المستقبل. تتجلَّى ملامح شخصيته في نقاط عدة؛ أبرزها أنه كان صريحاً ومباشراً، لا يستخدم الألفاظ المنمقة والبراقة، ولا يزيف الواقع، ولا يتلاعب بالكلمات، ما يقوله داخل الغرف المغلقة هو نفسه الذي يقوله خارجها، لا يحب المناورات السياسية، فالسياسة عنده تطبيق للمبدأ الذي ينادي به، وأي انفصال بين الأقوال والأفعال عنده، ليس سوى خداع وكذب ونفاق.
قال زايد، طيَّب الله ثراه، في حديث لمجلة «آخر ساعة» المصرية نشرته في 21 أغسطس 1968: «أنا مؤمن بأنَّ قوة الإمارات تكمن في اتحادها وتعاونها بإخلاص، وهذا الإيمان نفسه تلمسه بنفسك عند جميع أفراد شعوبها وتتأكد من انعقاد رغبتهم عليه». ونفَّذ زايد، رحمه الله، ما قاله فوحَّد الإمارات، وصنع منها دولة ناجحة، أصبحت اليوم مضرب المثل، ليس في النهضة والتقدم فقط، وإنما في التفاف شعبها حول قيادته، وتماسك نسيجها الاجتماعي، وقوة لحمتها الوطنية.
قال زايد، طيَّب الله ثراه، في حديث إلى وفد تجاري كويتي زائر في 14 فبراير 1970: «لقد رأيتم ولمستم مقدار ما وصلت إليه بلادنا من نهضة شاملة في فترة قصيرة من الزمن، فقد أنشأنا المستشفيات والمدارس والشوارع والمباني والجسور. كل هذا من أجل الشعب، وإلا فما قيمة المال إذا لم يسخَّر لخدمة الشعب؟». وأثبت زايد، رحمه الله، بالفعل أنه لا يرى قيمة حقيقية للمال إذا لم يسخّره لخدمة شعبه، حتى أصبح شعب دولة الإمارات اليوم، أسعد شعوب العالم.
قال زايد، طيب الله ثراه، في حديث لبعثة التلفزيون البريطاني في 29 ديسمبر 1971: «تعلمنا من هذه الثروة أن نبني بلدنا بالعلم والثقافة، وتربية جيل جديد متعلم. إنَّ تعليم الناس وتثقيفهم في حدّ ذاته ثروة كبيرة نعتز بها، فالعلم كالثروة، ونحن نبني المستقبل على أساس علمي». وأثبت زايد، رحمه الله، أنَّ أفضل استثمار هو الاستثمار في الإنسان، فعمل على بناء الإنسان الإماراتي الذي أصبح اليوم أكبر إنجازات زايد.
قال زايد، طيَّب الله ثراه، في حديث لمجلة «المصور» المصرية نشرته في 2 ديسمبر 1971: «هوايتي الشخصية شيء واحد، هو أن أغرسَ وأبنيَ، وأجنيَ الثمار». وغرس زايد، رحمه الله، وبنى، ثمَّ جنى.
كتبٌ كثيرةٌ أُلِّفَت عن الشيخ زايد، طيب الله ثراه، لكن الكتاب الأهم عنه لم يصدر بعد، وهو كتاب «عبقرية زايد». هذا البدوي القادم من عمق الصحراء الذي استطاع أن يبهر العالم بأقواله وأفعاله، ويسجل اسمه في صدارة قائمة القادة العظماء.
رحم الله زايد، وأجزل له العطاء، فقد كانت أفعالُه تسبق أقوالَه وتصدّقها، وقليل هم القادة الذين تسبق أفعالُهم أقوالَهم وتصدّقها.