926 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
من يقرأ التاريخ في أحقابه المختلفة، فسيعرف كيف تكونت الدول الماضية وكيف ضعفت ثم انهارت وقامت على أنقاضها دولٌ أخرى، وكذلك سيعرف منشأ الحروب والدمار أو العمران والاستقرار.
وإذا تعمق فيها وانتقل من القراءة إلى الدراسة بتأمل وتدبر مثل العلامة ابن خلدون (732-808 هـ) فسوف يخرج بعلمٍ خالصٍ مفيدٍ يستطيع بأسبابه أن يستنبط منه مقدمةً كمقدمة كتاب التاريخ لابن خلدون التونسي، التي لم يترك فيها شاردة ولا واردة إلا استقصاها، وكأنك عندما تقرأها أمام أكاديمية علمية من الدرجة الأولى فهماً وخبرةً واستنتاجات، مما يؤهلك أن تقيس ما مضى بما هو قادم حسب الطبيعة البشرية المتأصلة فيهم في القديم والجديد من خير وطيبة أو شر وخديعة.
من بين الممالك العربية القديمة المشهورة «مملكة سبأ»، وكان لها تاريخ عريق وتجارة رائجة ونفوذ في المنطقة وقد ذكرهم الله عز وجل في محكم تنزيله، وأخبر عما كانوا عليه من النعمة والخير العميم، فكفروا بهذه النعمة وظلموا أنفسهم ودعوا الله أن يشق عليهم في حياتهم، ويباعد في أسفارهم بعد أن كانوا يقيلون في قرية ويبيتون في أخرى من تسهيل الله عليهم وكانت الجنات تحيط بهم وفيها كل ما يشتهون من الخيرات قال تعالى:
(لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيل * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).
في كتب التفاسير شرح مفصل لهذه الآيات الكريمة، وقد اخترت لكم شرح العلامة ابن كثير وهو من أهم كتب التفسير فيقول: ذكر تعالى ما كانوا فيه من النعمة والغبطة والعيش الهني الرغيد، والبلاد الرخية، والأماكن الآمنة والقرى المتواصلة المتقاربة بعضها من بعض، مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها، بحيث إنّ مسافرهم لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء، بل حيث نزل وجد ماء وثمراً، ويقبل في قرية ويبيت في أخرى بمقدار ما يحتاجون إليه في سيرهم، «فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم»وذلك أنهم بطروا هذه النعمة، وأحبوا الصحاري والمفاوز، التي يحتاجون في قطعها إلى الزاد والرواحل والسير في المخاوف، فجعلهم الله حديثاً للناس، وسمراً يتحدثون به من خبرهم، وكيف مكر اللّه بهم وفرق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء تفرقوا في البلاد ههنا وههنا، ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا: تفرقوا أيدي سبأ، وأيادي سبأ. قال الشعبي: أما غسان فلحقوا بالشام، وأما (الأوس والخزرج) فلحقوا بيثرب، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة، وأما الأزد فلحقوا بعمان فمزقهم اللّه كل ممزق.
قلتُ: كنت أتفكر منذ مدة وأعجب من أحوال بعض الناس ـ وهم قلة والحمد لله ـ الذين ولدوا في نعمةٍ غامرة في ظل دولة الاتحاد دولة الإمارات العربية وفي الخليج العربي، ووجدوا أنفسهم وحياتهم تتحول من الفقر والفاقة وضنك العيش إلى النعم الظاهرة والباطنة، ومن التفرق والاختلاف إلى الألفة والوحدة، ومن التخلف الحضاري إلى قيادة ركب الحضارة والتنافس على المستويات الأولى العالمية.
وقد كفل لهم دستور الدولة الحرية والمساواة، بل إن قادتنا ينافسونا في أعمال البر وبناء المساجد وطباعة الكتب ولا يتدخلون في أحكام القضاء، وهم منا ونحن منهم يصلونا ونصلهم، وفيهم من المروءة والشهامة ما ليس في غيرهم، فماذا نريد أيها الأعزاء أكثر من هذا؟ فلنشكر الله وندعوه أن يديمها نعمة علينا ولا نكون مثل أصحاب سبأ الذين بدّل الله عليهم النعمة إلى نقمة وفرّقهم أيادي سبأ والعياذ بالله، وكل خلل يمكن إصلاحه بالصبر والموعظة الحسنة والدعاء.