3,563 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
الكتب التي تتحدَّث عن الأعلام وسيرة حياتهم تحمل في مجملها كثيراً من العِبَر والحِكَم والأخبار المُبكية والمضحكة، ومن يقلِّب صفحاتها يجد كثيراً من المعلومات التي تفيد الباحثين والساعين إلى المعالي، ومن يجالد الحياة ويريد أن يجد طوق نجاة من حكمة أو قصة تعينه. وقد تكون فتحاً كبيراً على مؤرخ تنقصه بعض الأخبار التي يربط بها حبال بحثه، ويصل بها ما تفرق شعثه، ويوثّق بها ما قد يكون أبعد ما يكون عن التوثيق، وقد وقعت في ذلك كثيراً وأنا أبحث عن نقطة ضوء في بحث تاريخي مظلم لا أجد من ظلامه الدامس ما يهديني إلى الطريق، ثمَّ أكتشف رسالة أو وثيقة شخصية أو كتاباً لسيرة عالم اختفت طبعاته، أو بقي مخطوطاً في أدراج الضياع فأقتنصه وأجعله مصباحاً لي حتى أُنهيَ ما بدأت به وأنا راضٍ بما قنصت يدي بعد جهد جهيد، هذا وإن كان الكاتب هو نفسه العلم ولم يكتب سيرته أحد له أو من بعده، فهذا أرفع السير الذاتية وأغلاها عندي؛ لأنَّ الأعلام إذا كتبوا عن أنفسهم فسيذكرون أموراً كثيرة خفية لا يعرفها أحد غيرهم ولم ترها إلا أعينهم، ولهذا لم أترك ولم أكلّ عن نصحِ مَن أعرفهم من أصحاب المناصب العالية والأعمال الجليلة والعلم المشهور أن يكتبوا مذكراتهم ويوثقوها قبل الضياع، كما ضاع كثير من الأخبار المهمة التي تفيد الأجيال، وتضرب لهم مثلاً لمتابعة مسيرتهم العملية والعلمية.
وقد عثرت مصادفة على كتاب عندي جليل القدر.. رشيق، صاحبه من الرجال الأفذاذ تاريخاً وقدراً ومكانة في تاريخ العراق – موطنه الأول – وفي تاريخ دولة الإمارات – موطنه الثاني -، والذي رافق فيه والدنا الشيخ زايد، طيَّب الله ثراه، بصدق وأمانة وإخلاص مع فكر نيِّر ورأي سديد، هذا هو ذو الوزارتين في العراق والإمارات، عدنان الباجه جي، رحمه الله، الذي سأختصر لكم كتابه وأجمع لكم منه ما طاب من أزهاره .
هذا الكتاب الذي لم أتردَّد في اقتنائه من مكتبة كنيكونيا بدبي عندما وقعت عيني عليه، وظننت أنني سأجد فيه كثيراً من التاريخ الذي لا أعلمه ويعلمه بسبب معاصرته لزمن مهم من تاريخ نشأة دولة الإمارات وقبل نشأتها، ولكن صدمتي كانت كبيرة؛ إذ وجدت صفحات معدودة لا تتجاوز عشر صفحات منه عن حياته في أبوظبي، ولا أدري هل كان ينوي أن يكتب مذكراتٍ أخرى في كتاب آخر عن هذه السنوات الخمسين التي قضاها في الدولة، أم إنه آثر أن يترك الكتابة عنها ويكتمها كما فعل غيره من الأعلام الذي عاصروا نشأة هذه الدولة وكانوا خير معين لمؤسسيها!
أخذت أقلِّب هذا الكتاب الحافل بأخبار الباجه جي في العراق، والبخيل جداً عن سيرة كاتبه في وطنه الثاني الذي قضى فيه جلَّ عمره، وأقول: ما تغني عشر صفحات عن تاريخ خمسين سنة؟! فلما قرأت هذا الفصل علمت يقيناً أنه كتب مذكراتٍ أخرى عن حياته في أبوظبي وخدمته للشيخ زايد؛ لأنه تكلم سريعاً فيها عن ست سنوات باختصار شديد انتهت في عام 1975، ما يدلُّ على أنَّ هذا الكتاب أعده لتاريخه في العراق فقط؛ لهذا سمّاه «عدنان الباجه في عين الإعصار».
قبل الحديث عن صفحاته العشر عن دولتنا الفتية التي رأى ولادتها، وشارك في نشأتها، وعاصر تطورها، وتعلَّق قلبه بشيوخها الكرام وشعبها الأصيل الذي لم يجد منهم إلا الحفاوة والتقدير لشخصه وعلمه، رحمه الله، لهذا كله سأبدأ بحياته الأولى التي أثبتها في كتابه الذي نشره عام 2012؛ أي قبل رحيله بسبع سنوات، وهو في الـ89 من عمره في أكثر من 318 صفحة و17 فصلاً، واختار لها دار الساقي لتكون الناشر لهذه المذكرات المهمة من تاريخ العرب الحديث. فمن هو عدنان باجه جي؟ وكيف نشأ حتى بلغ ما بلغ؟
الطفولة والمراهقة
ولد عدنان مزاحم الباجه جي، وهو من قبيلة شمر في بغداد عام 1923، في إحدى ليالي رمضان الكريم، وكان وحيد والديه بسبب حادث ألم بوالدته بهيجة حسن الباجه جي منعها من الإنجاب؛ فنشأ في أسرة عريقة عُرِفَت بالوجاهة والتجارة، وعمل كثير منهم في السلك الحكومي، لهذا فإنَّ تاريخ هذه العائلة معروف في العراق.
في عام 1931 التقى في طفولته الملك فيصل الأول ملك العراق؛ لأنَّ والده كان وزير خارجيته، وبسبب ذلك التقى باكراً كثيراً من رجال العراق.
في صيف عام 1930 خرج مع والده في سيارة ذات سقف متحرِّك للاصطياف في لبنان.
وفي صغره رأى اعتقال والده لمدة 24 ساعة، حيث اتهم بالترويج لرسائل سرية تهاجم الملك، ولكن حُكِمَ ببراءته.
دخل الباجه جي المدرسة الأمريكية التي كان يديرها أمريكي ويساعده بعض الأساتذة الأمريكيين واللبنانيين والعراقيين، وقد التحق بها طلبة يهود ومسيحيون وأعداد كبيرة من العائلات البغدادية العريقة، وفي صغره شغف الصبي بالأدب؛ لأنَّ والده كان أديباً (من أصدقائه الرصافي والجواهري والزهاوي)، فكان ذلك جاذباً له إلى الأدب، ولكنه لم يستسغ الشعر ولم يستطعه.
حرص الوزير مزاحم والد عدنان على أن يمدَّ ولده بالكتب؛ ليعوّده على القراءة ويشتري له الصحف والمجلات؛ فكان ميله وحبه الكبير لكتب التاريخ، ولهذا لازمه هذا الفن طيلة حياته. يقول الباجه جي: «تعودت القراءة وأحببتها، وغدا ميلي إلى كتب التاريخ وما زال قوياً، لذا فإنَّ معلوماتي التاريخية سواء في التاريخ العربي أو الأوروبي أو الأمريكي غزيرة، وساعدتني كثيراً خلال عملي الدبلوماسي والسياسي».
في الثلاثينيات تمَّ تعيين والد عدنان ممثلاً دائماً لدى عصبة الأمم في جنيف، والوزير المفوض لدى إيطاليا بأمر صديقه رئيس الوزراء العراقي علي جودت الأيوبي ووزير خارجيته نوري السعيد؛ فشكَّل هذا الأمر نقلة كبرى في حياة عدنان، حيث أرسله والده للدراسة في كلية فيكتوريا في الإسكندرية بمصر فرافقته والدته، وعمه وخاله يتناوبان على رعايته هناك، وكانت مصر ما زالت تعيش حياة الرفاهية في زمن الملوك.
كان لهذه الرحلة العلمية في مصر أثر كبير في الشاب الصغير، وقد سنحت له فرصة زيارة والده في روما عام 1935 ليرى أوروبا لأول مرة، وقد أعجب بتاريخها الروماني الذي قرأ عنه قبل زيارته، فطفق يزور الآثار والمتاحف والكنائس. ثمَّ من روما زار جنيف، حيث مقر البعثة العراقية في عصبة الأمم ويمثلها والده، ثمَّ منها إلى برلين وهناك صدم برؤية باب عشتار الذي صدمت أنا أيضاً عندما رأيته رافعاً رأسه في متحف برلين، وكيف وصل إليهم وترك أرضه وأهله في العراق!
أهمية المذكرات
قليل من الأعلام العرب والمسلمين مَن ترك لنا سيرة تروى من بعده وأخباراً موثَّقةً تحكى ويستشهد بها في الأبحاث والدراسات الأكاديمية، اللهمَّ إلا قليلاً في التاريخ الإسلامي منذ بدايته، وهذا بعكس ما أراه في الأمم الأوروبية الذين اعتنوا بتوثيق مذكراتهم؛ عامتهم وخاصتهم ونشر ما يستحق منها للنشر، فما إن يتقاعد أحدهم أو يترك منصبه إلا تراه أخرج للناس سيرته وازدحمت العناوين الصحفية حديثاً عنها نقداً وتحليلاً بالمدح أو السلب، حتى عجَّت دور النشر العالمية بما حبّروه وزخرفت المكتبات العامة والخاصة بها. وهكذا تكتمل دورة العلم ويتم بناء المعارف الضمنية، وتستكمل حلقات التاريخ المخفية لتبقى الأجيال على دراية بما حصل، وكيف وقعت الوقائع ولتوثّق الحقائق من أهلها رغماً عمَّن رام إخفاءها أو طمسها، لكنْ للحقيقة شمس لا تُغطّى بغربال.
ولو تفكرنا قليلاً ونظرنا إلى مَن حولنا من الأعلام الكبار؛ كم علماً منهم قبل رحيله أو فقدان ذاكرته كتب عن حياته الحافلة، وأخرج لنا هذه الكنوز المدفونة التي لا يعلمها إلا مَن عاينها وليس كم سمع وكم رأى، ومن العجائب أن أجد بعضاً من هؤلاء الذين وفّقوا بقلم أنيق وحبر فكر سيّال وله مقالات كثيرة ومؤلفات جمّة يعرض عن الكتابة عن نفسه ويحجم عن الخوض في غمارها، وقد بلغ من العمر عتياً، ولم يبقَ من حياته إلا ما أراده الله له، وقد أوشك على الرحيل أو الدخول في غياهب ضياع الذاكرة والآفات فلم يوفّق بإبقاء أخباره، ولم يلحق صفاء أفكاره ليبقيَ من بعده ما ينفع الناس كما نفع الناس في حياته بعلمه، ولولا أني كنت أذكِّر الأستاذ الراحل حمد خليفة بوشهاب بأن يكتب سيرته لما كتبها وكان يخصُّني بقراءة كل فصل ينتهي منه، ثم رحل عنا فجأة وترك ذاكرته هذه التي أتشرف أنه ذكرني فيها عدة مرات.
من هؤلاء الأعلام الذين عاشوا حياة مديدة وقاموا بأدوار حاسمة في ذاكرة التاريخ العربي الحديث المرحوم عدنان مزاحم الباجه جي، الذي أسميه ذا الوزارتين، والسبب ستعرفونه فيما يأتي من هذا المقال.
يقول الباجه جي: «كان من المفترض بعد تخرجي في كلية فيكتوريا الذهاب إلى جامعة إكسفورد، حيث حُجِزَ مقعدٌ في كليتي مودلن وباليول بواسطة مدير المدرسة المستر ريد، لكن ظروف الحرب جعلت من المتعذر السفر إلى بريطانيا»، ولهذا رأى والده مزاحم أن يلتحق بالجامعة الأمريكية ببيروت فتخصَّص في علم التاريخ الذي يحبه من صغره، والعلوم السياسية التي ورث حبه لها من والده وأسرته، والجامعة الأمريكية التي كانت تسمّى الكلية السورية البروتستانتية حتى الحرب العالمية الأولى، حينها تعج بكبار الأساتذة من عرب وغيرهم، أما الطلبة فقد جاؤوا من بلدان عربية شتى وعدد كبير منهم من العراق، فتوطدت علاقاته بالطلبة المميزين منهم الذين صار لهم شأن بعد ذلك في أوطانهم.
أثناء دراسته وقعت أحداث كثيرة وقبيل تخرجه احتل الجيش الأسترالي بيروت وأرهبوا الناس، ثم غادروا إلى الصحراء الغربية وتنفس الناس الصعداء، وفرح الشاب عدنان بنيله الشهادة الجامعية عام 1943 يقول عدنان عن ذلك: «وهكذا انتهت تجربتي في تلك الجامعة العريقة التي أسدت أجل الخدمات لأجيال من الشباب العرب. كان وجودي فيها قد قوى إيماني الذي غرسه والدي عندي منذ الصغر وهو الفكرة القومية العربية، وبقيت ملتزماً بها لا أحيد عنها».
عاد الباجه جي إلى وطنه، ثمَّ التحق بالسلك الدبلوماسي العراقي في ديسمبر 1944، أي بعد سنة ونصف السنة من عودته.
السفارة في واشنطن
بدأ عدنان عمله في ديوان الوزارة مسـؤولاً عن الشعبة الغربية المسؤولة عن العلاقات الأوروبية وأمريكا؛ فتدرب على كتابة المذكرات الدبلوماسية، واطلع على ملفات الوزارة المهمة، وكان من مسؤوليات الشعبة الغربية متابعة مؤتمر سان فرانسيسكو لإنشاء منظمة جديدة تحل محل عصبة الأمم، والتي أصبحت الأمم المتحدة فيما بعد.
يقول عدنان: «في أحد الأيام استدعانا وزير الخارجية وأخبرنا أنه قرر نقلنا إلى الخارج وعدم إضاعة وقتنا في بغداد، وقال لي الوزير بلهجته الموصلية: أنت أبوك غني وتستطيع أن تتحمّل تكاليف المعيشة المرتفعة في أمريكا، لذا قررت نقلك إلى واشنطن». هكذا انتقل الباجه جي إلى العالم الجديد، ولم يكن يعرف عنها إلا ما قرأه في الكتب.
وهو في السفارة العراقية في واشنطن التي وصل إليها في أبريل عام 1945 تعرَّف إلى كثير من المعارف الإدارية والمظاهر الاجتماعية والسياسية الجديدة مثل حضوره مراقباً في مؤتمرات الحزبين الديمقراطي والجمهوري عام 1948، وشاهد عن قرب أساليب السياسة الأمريكية، كذلك وهو في هذه السفارة الموفقة التقى شريكة حياته سلوى وعقد قرانه في عام 1946 في دار إقامة السفير ولم يكن والده يريد هذا الزواج وتخوَّف منه لصغر سن نجله، وقال له: «لا تكن مثل عباس المستعجل» وهو مثل يضربه العراقيون لمن يستعجل الأمور قبل وقتها، ولكن الحب كان قد أخذ قلب عدنان فلا يوقفه أحد حتى تمَّ له ما أراد ونال أيضاً شهادة الدكتوراه من جامعة جورج تاون عام 1946 عن أطروحة بعنوان «تطور الفكرة القومية العربية في العراق». وهكذا لم يكن هذا الشاب الصاعد يضيع وقته، فكان بين العمل والدراسة والقراءة وتوطيد علاقاته بالساسة الأمريكان وأعلام عصره، وكذلك أنشأ أسرته الصغيرة في قلب العاصمة الأمريكية.
ثم صدر قرار وزارة الخارجية عام 1949 لنقل الباجه جي من واشنطن إلى الإسكندرية، حيث عين قنصلاً فيها لمدة سنة حتى عام 1950، هذه المدينة الجميلة التي عاش فيه أياماً جميلة وهو طالب في كليتها يعود إليها دبلوماسياً مع زوجته وطفلته، وفي هذه السفرة التقى والده بعد مرور عشر سنوات في المطار فقد تركه صبياً في السادسة عشرة من عمره والآن يلتقيه هو وزوجته وطفلته وهو في منتصف العشرين وهو رئيس بعثة دبلوماسية، فيا له من شعور غريب قد انتابه في تلك اللحظات!
بقي عدنان سنة في الإسكندرية ثمَّ عاد إلى بغداد عام 1950 ليعين بمسؤولية شعبة جديدة في وزارة الخارجية تابعة للدائرة السياسية، وهي شعبة الأمم المتحدة والمؤتمرات، فأعجبه هذا العمل جداً بسبب شغفه بالمؤتمرات؛ فبدأ دراسة هيكل الأمم المتحدة، مجالسها ولجانها وهيئاتها وكل ما يتعلق بها وكل وثيقة تخصها حتى أصبح خبيراً عارفاً بكل أسرار هذه المنظمة وهو بعيد عنها.
العودة إلى واشنطن
في عام 1953 صدر أمر وزير الخارجية أن يصحب الباجه جي سفير العراق الجديد موسى الشابندر برتبة سكرتير أول في السفارة، وهكذا انتقل مرة أخرى إلى أمريكا ومثَّل دولته في بعض اللجان في الأمم المتحدة خاصة تلك التي تعنى بالوصاية والدول التي لا تتمتع بالحكم الذاتي، فتعرف إلى أسرار هذه المنظمة وأصبح قريباً من زعماء الكونجرس الأمريكي شيوخه ونوابه والمتنفذين في واشنطن، خاصة وأنه عرف باطلاعه الواسع ودماثة أخلاقه، وبقي هناك يحضر جلسات الأمم المتحدة ويمثل دولته في كثير من الاجتماعات في مؤتمرات عدة حتى تقلد والد زوجته علي جودت الأيوبي رئاسة العراق عام 1957 فطلب منه أن ينقله إلى بغداد بسبب سأمه وحنينه إلى وطنه، فعاد في سبتمبر من نفس العام ليبدأ حياة جديدة والتحق بديوان وزارة الخارجية مديراً لدائرة المنظمات الدولية.
تمر سنوات العمر وتزيد الآمال في النفوس التي لا ترضى بغير المعالي يسعدها التفرد بالسبق ويضنيها الإخفاق وعدم الوصول، فهي النفس الكبيرة التي ذكرها المتنبي:
وإذا كانت النفوسُ كباراً
تعبت في مرادها الأجسامُ
لا شك أن الأجسام يتعبها مقاساة العلا وإلزام النفس ببلوغها، لأنها قد تتلف دونها، وكما قلتُ في قصيدة طويلة بمناسبة حفل جائزة الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم للتفوق العلمي في دبي:
إنَّ المعاليَ لا تأتي على دعةٍ
بل دون مبلغها ما ليس يُحتملُ
ومن تتبع سيرة الراحل ذي الوزارتين عدنان مزاحم الباجه جي فسيجد أنه جالد الحياة أشد المجالدة، وتعب جداً من أجل وطنه وعروبته وأمته، مع تميز في كل مرحلة من حياته عندما كانت الموازين صحيحة لم تختل بعد، فلما اختل الميزان رحل إلى موطنه الثاني ووضع كل خبراته ومعرفته وإخلاصه في خدمة والدنا الشيخ زايد، طيب الله ثراه، قبل قيام دولة الاتحاد وبعد قيامها، ورآها وهي تكبر ساعةً ساعةً حتى شاهدت عيناه الشباب الإماراتي وهو يبني مسبار الأمل بعد مرور أكثر من أربعة عقود لكي يصل إلى المريخ في عيد الدولة الخمسين، وإني لأتخيل شعوره الذي غمره فرحة بهذه الإنجازات التي لا مثيل لها .
ممثل العراق في الأمم المتحدة
رحل عدنان الباجه جي إلى نيويورك لتمثيل بلاده في الدورة المخصصة لقضية الكاميرون، وعندما انتهت الدورة فوجئ بقرار تعيينه ممثلاً دائماً بالوكالة في الأمم المتحدة، وكان لمدة طويلة يحلم بهذا المنصب منذ بداية حياته العملية، ولكن هذا التعيين لم يخلُ من مشكلات كثيرة من منتسبي الحزب الشيوعي الذين ناصبوا الباجي جه العداء، وكان القنصل العراقي هناك من رفقائهم الذي امتلأ قلبه غيظاً؛ لأنَّ عدنان يمثل العهد الملكي، فأخذت الصحف الشيوعية في بغداد تهاجمه في وطنه، ولكن الحكومة العراقية لم تأبه لهذه الاتهامات، بل أرسلت من يحقق في الأمر واكتشفوا أنها ادعاءات كاذبة بسبب القنصل الشيوعي، وكما جاء في المثل العربي «جنت على نفسها براقش» فأعيد القنصل الحاقد إلى بغداد وسلم عدنان من شره.
في بداية 1960 سعى الباجه جي ليرأس اللجنة الرابعة الخاصة بالشعوب تحت الاستعمار، ولكن اعترضت بريطانيا وأستراليا عليه، وقد جاء في إحدى الوثائق عن هذا الترشح: «ليس من السهل قبول ترشيح الباجه جي، إنه من أشد خصومنا البارزين بشأن قضايا الاستعمار، وهو سريع البديهة وقدير وله معرفة واسعة بمسائل الإجراءات».
قلت: تذكرتُ وأنا أقرأ هذه الوثيقة بيتاً للشاعر العباسي السري الرفاء يقول فيه :
شمائلٌ شهِد العدوُّ بفضلها
والفضلُ ما شهدت به الأعداءُ
وفي نفس السنة منحت وزارة الخارجية العراقية ممثلهم الباجه جي لقب سفير، وعندما قدّم أوراقه للأمين العام حينها داغ همرشولد، أدرك الأهمية الكبرى لهذه المنزلة، كيف لا وهو أصغر سفير حينها في الأمم المتحدة بعمر 37 عاماً.
لم تنتهِ سنة 1961 إلا والسفير الشاب يتمتَّع بسمعة جيدة في الأوساط العربية والأجنبية، ما جعله يشعر بثقة كبيرة بإمكاناته.
وزير الخارجية العراقي
بعد زيارة رئيس الوزراء العراقي عبد الرحمن البزاز لحضور الدورة العشرين من اجتماعات الأمم المتحدة في سبتمبر عام 1965 وكان الباجه جي قد دخل في الأربعينيات من عمره، فقام بتكليفه وزيراً للخارجية في ديسمبر من نفس العام، وأقيمت له حفلات الوداع من أصدقائه وخصومه، وأهدي الهدايا التذكارية اعترافاً من هذه الوفود الدبلوماسية بدور الباجه جي الكبير أثناء عمله معهم.
هكذا عاد الوزير إلى العراق، وعلم بعد ذلك أنَّ المصريين هم من نصحوا الرئيس عبد السلام عارف بتعيينه وزيراً للخارجية لعدم ثقتهم برئيس الوزراء العراقي البزاز.
في هذه الحقبة التقى الباجه جي كثيراً من الزعماء ومن بينهم الزعيم المصري جمال عبد الناصر الذي بقي معه ساعة ونصفاً وكتب عنه في مذكراته: «أعجبت بجمال عبد الناصر، لأنه كان يجسد أكثر من أيِّ شخص آخر فكرة الوحدة العربية، وبدا أنه الزعيم الوحيد القادر على تحقيقها».
حقبة مزدهرة
في هذا المحيط المتلاطم الأمواج من الثورات والاستعمار والدمار والمؤامرات والضعف العربي كان هذا الوزير المحنك يحاول تحسين علاقة بلاده بجيرانه وبالعرب وبأوروبا وأمريكا والعالم، وقد نجح مع دول وأخفق مع أخرى، ولكن بلا شك كانت حقبته في الوزارة بشهادة من عمل معه ومن عرفه حينها حقبة مزدهرة للخارجية العراقية، وإن لم تبقَ إلا سنة واحدة، حيث تمَّ تعيين عدنان مرة أخرى ممثلاً لبلده في الأمم المتحدة عام 1967 فقبل على مضض وأصبح ينتظر الفرصة لتقديم استقالته، وبعد انقلاب حسن البكر، وما سمع به من اعتقالات واغتيالات، قرر تقديم استقالته في يناير عام 1969 وذهب في إجازة قصيرة ليبدأ عمله في وطنه الثاني أبوظبي.
هذا وقد نشر الكاتب الشهير دور مدلتون مقالاً في جريدة نيويورك تايمز بعنوان (مندوب العراق في الأمم المتحدة يستقيل) جاء فيه: «أجمع الدبلوماسيون على أنَّ مغادرة الباجه جي ستضعف طرح القضية العربية في الأمم المتحدة».
الأحداث التي تمرُّ على مستوى الدول والمدن والقرى والإنسان عبر العصور عندما يجمعها المؤرخ الخبير ويقوم بتحليلها تظهر أمامه حقيقة واحدة بأنَّ قوة هذه الأحداث وضعفها وآثارها الإيجابية والسلبية ومدة حدوثها واستمرارها لأيام أو لقرون فإنها جرت بقدرٍ لا يمكن تغييره، وإنَّ المقولة المشهورة: «التاريخ يعيد نفسه» تفسِّر دورة الأقدار وكما يريدها الله أن تمضي ستمضي، ولن أدخل معكم في الجدال القديم الجديد: هل الناس مخيرون أم مسيرون، والتي يعتقد بها المسلمون بأنَّ القدر كله خيره وشره بيد الله، ونؤمن به كما أمر به الرسول المصطفى، عليه الصلاة والسلام، وأنَّ كلَّ شيء كائن بعلم الله المطلق. ولهذا فإنَّ بني البشر مخيرون في أعمالهم وما يعتقدونه ويفعلونه، ولكن كل ما حدث ويحدث وسيحدث فهو من العلم المطلق لربنا عزَّ وجلَّ، فلن يكون في ملكه إلا ما شاء بعلمه بين عدله وفضله. ويحضرني هنا قول الشاعر الحكيم الإماراتي علي بن ظاهر:
إنَّ الأمور الها الإله مدبّر
ما أنت الذي تقدر على عدالها
حال رضيت ولا زعلت إلا سوى
ما هي بنشاده عنه زعّالها
وأظن أنَّ المعنى واضح؛ فالأمور يدبرها المدبر العلي القدير ولا تأبه لرضا الناس أو سخطهم، فهي ماضية لا ترعوي ولا تنثني عن الوصول إلى قصدها.
وهذا الذي جرى للعرب في العصور الماضية وعلى العراق في تاريخه الحديث وعلى صاحبنا الذي نتحدث عنه ذي الوزارتين عدنان مزاحم الشمري الذي تعرف عائلته بالباجه جي، وللاسم قصة فاتني أن أذكرها في بداية المقال، وسأنقلها لكم كما ذكرها عدنان نفسه في كتابه، إذ يقول: نزح الجد الأعلى لعائلة الباجه جي أمين بك السباهي إلى الموصل، وقد صاهر حفيده عثمان بك أسرة الكلبدون وهم من تجّار الموصل ويتاجرون بقطع القصب المذهّب (الكلبدون)، والقطعة بالتركية (البارجه) ومع الزمن عرفوا بالبارجه جي وتضاف «جي» للصنعة ثمَّ سقطت الراء من كثرة الاستعمال، وأصبحت الباجه جي، ولأسباب الفتن في ذلك الوقت انتقل الحاج بكر بن عمر آل الكلبدون إلى بغداد واصطحب معه أبناء شقيقته من زوجها عثمان بك السباهي وصاروا يعرفون كلهم بالباجه جي. هذا هو سر الاسم مختصراً.
نحو الخليج العربي
طوحت بعدنان الباجه الأحداث فاستقال عندما رآها لا تسره بعد خدمته وإخلاصه لدولته العراق وللعرب في أهم مكان في العالم وهو الأمم المتحدة، ولكن كثرة الانقلابات والثورات والقتل لم تدع له مجالاً إلا الخروج من وطنه والبحث عن بلد آخر يعمل فيه ويظهر إبداعاته وتميزه، فغادر مدينة نيويورك في السادس من مارس عام 1969 إلى جنيف وهو في السادسة والأربعين من عمره وقد عرض عليه الأمين العام حينها وظيفة تناسبه، ولكنه أراد التغيير، وقد تمَّ عرض عدة وظائف عليه ولكنه كان يعتذر وكأنه على موعد مع القدر، حيث عرضت عليه إحدى الشركات المالية تعيينه مستشاراً لهم لمساعدتهم في الشرق الأوسط، ولن يجدوا أفضل من الباجه جي خبرة وحنكة وحكمة ومعرفة بالبشر والتاريخ في هذه المنطقة، وهو المؤرخ السياسي المخضرم، ولكن كانت درايته قليلة في دول الخليج العربي ما عدا الكويت؛ بسبب الجوار بدأ أول زيارة له إلى الكويت واستقبله وزير الخارجية آنذاك الشيخ صباح الأحمد وولي العهد الشيخ جابر الأحمد، والتقى الأمير صباح السالم وبعض الاستشاريين الماليين، ومن الكويت إلى البحرين والتقى الشيخ عيسى آل خليفة ونصحه أن يلجأ إلى الأمم المتحدة في موضوع ادعاءات إيران الشاهية لضم البحرين إلى أراضيها؛ فكانت لنصيحته أهمية كبرى لما حصل بعد ذلك.
ثمَّ ذهب إلى إمارة دبي والتقى الشيخ راشد حاكمها. يقول عن ذلك: «كان كلام راشد مقتصراً على الاقتصاد وسياسته بالانفتاح على كلِّ من يستثمر ويعمل في دبي». ثمَّ انتقل عدنان إلى أبوظبي فاستقبله معالي أحمد خليفة السويدي رئيس الديوان حينها، ووجد فيه الروح العربية الوحدوية وأخبره بالاتحاد التساعي والمشكلات التي تواجهه، فعرض عليه المساعدة في وضع اللمسات الأخيرة وبعض التعديلات الدستورية ووضع قانون لتنظيم الجهاز الحكومي لإمارة أبوظبي. التقى عدنان والدنا الشيخ زايد يقول عن هذا اللقاء: «عندما جلست معه لأول مرة أيقنت بأنه القائد المرتجى لإمارة تعمل على أن تنتقل من حكومة القبيلة إلى حكومة المؤسسات الدستورية، وكان حديثه عن الصعوبات التي يواجهها بفوائد الاتحاد التساعي».
في هذا اللقاء جرى الحديث عن مشكلة البحرين والأطماع الإيرانية فيها، فطلب منه أن يذهب إلى الشيخ عيسى لإسداء المشورة له فيما يخص هذا الأمر الجلل، خاصة أنَّ الموقف البريطاني أظهر تردداً وضعفاً فاقترح على الشيخ أن يطلب من إحدى الدول العربية الأعضاء في الأمم المتحدة أن يدرج المطالبة الإيرانية في جدول أعمال الجمعية العامة بتأييد الدول العربية وغالبية الدول الأعضاء فكان ما أراد. ثمَّ عاد الباجي جه إلى أبوظبي ليشارك في الاجتماعات التمهيدية لقيام الاتحاد ووضع الدستور.
وأثناء ذلك اشترك عدنان مع مجموعة خبراء عرب لوضع قانون تنظيم الجهاز الحكومي، فوافق الشيخ زايد عليه وأصدره وكلف ولي عهده الشيخ خليفة بتأليف أول وزارة لإمارة أبوظبي، وعرض عليه أحمد السويدي أن يتولى منصب وزير دولة؛ فسارع بالموافقة وقطع علاقته بشركة الاستثمار ونقل إقامته إلى أبوظبي، وصدر المرسوم في يوليو 1971؛ أي قبل قيام الاتحاد الإماراتي بأشهر.
يوم تأليف أول وزارة يوليو 1971
قبل إعلان الاتحاد في الثاني من ديسمبر قام الفريق الذي يحضر للإعلان ومنهم عدنان باتصالات مكثفة مع جميع الدول العربية للحصول على التأييد، فسافر عدنان إلى القاهرة وأكَّد له السادات دعم مصر.
في الأمم المتحدة مرة أخرى
في يوم إعلان الاتحاد سافر الباجه جي إلى نيويورك يحمل معه طلب الإمارات للانضمام إلى الأمم المتحدة رئيساً لأول وفد من دولة الإمارات، واستقبل بترحيب حار من الأمين العام يوثانت الذي عمل معه ويعرفه جيداً، وواجهته عقبة الصين الشعبية التي تؤيد اليساريين الذين يعارضون قيام دولة الإمارات، وبعد مباحثات صعبة وافق مجلس الأمن على طلب الإمارات ووافقت الجمعية العامة، وأصبحت الإمارات عضواً في الأمم المتحدة، وكان لعدنان شرف رفع علمها لأول مرة بحضور الأمين العام، فلما رأى عدنان علم الدولة الفتية يرفرف بين الدول الأخرى بكى فرحاً وغبطة .
عدنان الباجه جي يرفع علم دولة الإمارات بحضور الأمين العام للأمم المتحدة عام 1971
هذا وللوزير عدنان الباجه المخضرم أعمال كثيرة وجهود كبيرة لخدمة دولة الإمارات والعراق والأمة العربية والإسلامية لا تفي حقها هذه المقالات، ولكن أكتفي بهذا القدر وأترحم عليه وأشكره على كل ما قدمه لنا، وأختم بمقولة سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي: «فقدنا اليوم رجلاً عزيزاً وصديقاً وفياً.. عمل مع الشيخ زايد بإخلاص منذ بدايات الاتحاد، وأسهم بخبرته وعطائه ومواقفه النبيلة في إيصال صوت الإمارات إلى العالم.. رحم الله الدكتور عدنان الباجه جي وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله وذويه جميل الصبر والسلوان».