9,011 عدد المشاهدات
الكاتب:محمد زاهد غول
اُشْتُهِرَ بين الناس أنَّ الخليفة العثماني محمد الفاتح (1429-1481 / 833هـ ـ 886هـ) هو فاتحُ القسطنطينية عام 857هـ -1453، وهذا صحيح، ولكن ما لم يشتهر هو جهود العرب من المسلمين الأوائل لفتح القسطنطينية، وبدأت في القرن الأول الهجري، والتي حاولت التشرُّف بتأويل حديث الرسول عليه الصلاة والسلام عملياً، فالبشائر النبوية تحدَّثت عن فتح روما وفتح القسطنينية تحفيزاً للمسلمين إلى فتحها بغضِّ النظر عن قوميتهم، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: «أول جيش من أمتي يغزو مدينة قيصر مغفور لهم»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «ستُفْتَحُ القسطنطينية وستُفْتَحُ رومية، قلنا: يا رسول الله أيُّ المدينتين تُفتح أولاً؟ قال: مدينة قيصر»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لتفتحنَّ القسطنطينية، فلَنِعْمَ الأمير أميرها، ولَنِعْمَ الجيش ذلك الجيش». (مسند الإمام أحمد بن حنبل – رقم 18189).
ونبوءة النبي عليه الصلاة والسلام بفتح القسطنطينية حرَّكت جهود المسلمين إلى فتحها، وإلى أهميتها الاستراتيجية في حماية بلاد المسلمين من جهة الشمال الغربي، أي من جهة الإمبراطورية البيزنطية وخطرها، كما نبهت إلى خطر الإمبراطورية الفارسية الشرقية وبشارته بفتحها، كما نبَّهت إلى أهمية المخاطر القادمة من أوروبا وبشارته بفتح روما أيضاً، وفي ذلك إشارة نبوية إلى أهمية التعرُّف إلى الدول المحيطة بالمسلمين، وبالمخاطر والتهديدات القادمة من الدول الخارجية، وضرورة متابعة المسلمين للسياسة الدولية وما يجري فيها من تغيُّرات وتحرُّكات عسكرية تستهدف بلاد المسلمين.
صد العدوان
لقد بدأت جهود المسلمين بصد العدوان الخارجي ومحاولة فتح القسطنطينية منذ عهد الصحابة وتابعيهم، فكانت المحاولة الأولى في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة 27هـ، بقيادة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وهو أمير الشام، وكانت بإمرة ابنه يزيد، وفي تلكم الغزوة استشهد الصحابي أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري عام 52هـ ـ 668م، ودُفِنَ على مشارف أسوار القسطنطينية، وسمّي المكان الذي دُفِنَ فيه على مدار عدة قرون «حي أيوب»، ولا يزال قبره يزار حتى اليوم، فهو من كبار الصحابة الذين شهدوا بيعة العقبة وشهد كلَّ المعارك في العهد النبوي.
ذكر ابن كثير في أحداث سنة 27هـ أنه: «لما افتتحت إفريقية بعث عثمان بن عفان إلى عبدالله بن نافع بن عبد قيس، وعبدالله بن نافع بن الحصين الفهريين من فورهما إلى الأندلس فأتياها من قِبَل البحر، وكتب عثمان إلى الذين خرجوا إليها يقول: إنَّ القسطنطينية إنما تفتح من قِبَل البحر، وأنتم إذا فتحتم الأندلس فأنتم شركاء لمن يفتح قسطنطينية في آخر الزمان، والسلام. قال فساروا إليها فافتتحوها ولله الحمد والمنة». (البداية والنهاية لابن كثير 7/152)
والسبب الذي دفع عثمان بن عفان إلى التحرُّك نحو الروم هو بدء الروم هجماتهم على المسلمين الذين حرَّروا الأراضي العربية في الشام، فقد كانت الشام تحت الاحتلال الروماني في ذلك الوقت، قال ابن جرير في أحداث سنة 24هـ: كتب معاوية بن أبي سفيان، والي الشام، إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان: «إنَّ الروم قد أجلبت (جمعت للحرب) على المسلمين بجموع عظيمة، وقد رأيت أن يمدهم إخوانهم من أهل الكوفة، فجمعت ثمانية آلاف رجل من أهل الكوفة فمضوا حتى دخلوا مع أهل الشام إلى أرض الروم»، فلم تكن غزوات المسلمين لأهداف الفتح فقط، بل في الغالب بهدف صد العدوان وحماية المسلمين من الاعتداءات الخارجية أيضاً، وممّا تذكره كتب التاريخ أنَّ الأتراك في ذلك الوقت سنة 24هـ كانوا يحاربون إلى جانب الروم ضد المسلمين. (تاريخ الطبري:5/248).
ركوب البحر
وتذكر الروايات التاريخية أنَّ معاوية بن أبي سفيان كان قد استأذن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في ركوب البحر وفتح جزيرة قبرص فلم يأذن له، فلما ولي عثمان بن عفان أذن له، ولم يخلُ فتح قبرص من بشارة نبوية، فقد كان في جيش معاوية في فتح قبرص عبادة بن الصامت وزوجته أم حرام بنت ملحان، وقد جاء في حديثها أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام نام في بيتها يوماً ثمَّ استيقظ يضحك، فقالت: ما أضحكك يا رسول الله، فقال: «ناس من أمتي عرضوا علي وهم يركبون ثبج هذا البحر مثل الملوك على الأسرة»، فقالت يا رسول الله: ادعُ الله أن يجعلني منهم، فقال: “أنت منهم”، ثمَّ نام واستيقظ وهو يضحك، فقال مثل ذلك، فقالت: ادعُ الله أن يجعلني منهم، فقال: “أنت من الأولين”.
قال ابن كثير: فكانت هذه الغزوة (فتح قبرص) وماتت بها (أم حرام بنت ملحان)، وكانت الثانية عبارة عن غزوة القسطنطينية”. (البداية والنهاية 7/153).
وذكر ابن كثير في أحداث سنة 32هـ: “وفيها غزا معاوية بلاد الروم حتى بلغ المضيق، مضيق القسطنطينية، ومعه زوجته عاتكة”. (تاريخ ابن كثير 7/159).
وتواصلت محاولات فتح القسطنطينية في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان دون نجاح، فقد حاول فتحها براً وبحراً، نجحت الحملات البرية بفتح بلاد في آسيا الصغرى وافتتحت حصوناً كثيرة في الأناضول حتى وصلت إلى سواحل بحر مرمرة، ثمَّ بعث معاوية ابنه يزيد بمدد إلى سفيان بن عوف قائد حملته لفتح القسطنطينية، وجعل ابنه أميراً شرفياً عليها، وأرسل معه عدداً من الصحابة منهم عبدالله بن عباس، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزبير وأبو أيوب الأنصاري رضي الله عنهم.
حصار القسطنطينية
وقد اشتبك المسلمون مع الروم في القتال، واستُشْهِدَ كثيرٌ من الصحابة، منهم أبو أيوب الأنصاري الذي دُفِنَ بالقرب من مدينة “بروسة”، لم تنجح هذه الحملة لأسباب لوجستية لم تكن الجيوش العربية المسلمة مستعدة لها، من قساوة البرد والثلوج التي لم يعتادوا عليها، وهو ما زاد من صعوبات الإمدادات وقلة الأغذية وتفشي الأمراض بين الجند، فعادت الحملة عن حصار القسطنطينية عام 50هـ.
وقام المسلمون في محاولة ثانية لفتحها بحصار القسطنطينية بين السنوات 54-60هـ/ 674-679م، وكانت هذه المحاولة برية وبحرية، وفيها استولى المسلمون على إزمير،
واحتلوا ساحل ليكيا، وخرج الأسطول الإسلامي من جزيرة أرواد بقيادة جنادة بن أبي أمية الأزدي، وأحكم المسلمون حصار القسطنطينية براً وبحراً، وكانوا يحاصرونها في الصيف ويرتدون عنها في الشتاء بسبب صعوبة الحصار الذي استمر لعدة سنوات حتى عام 60هـ/ 679م، وعندها عقد معاوية بن أبي سفيان معاهدة صلح مع إمبراطور الروم قسطنطين الرابع، مدتها ثلاثون عاماً.
وجاءت المحاولة الأموية الجديدة في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك 86-96هـ، فقد أعدَّ المسلمون عدَّتهم الحربية بعد أخذ الخبرة من المعارك السابقة، واضطر البيزنطيون إلى إعادة رفع وتيرة الاستعدادات لرد المسلمين عن القسطنطينية، وقد استهل الوليد بن عبد الملك عهده بفتح حصين طوانة 88هـ ، وهي مفتاح الطريق بين الشام ومضيق البوسفور، بعد أن كبّد البيزنطيين خمسين ألف مقاتل، ثمَّ فتح عمورية وهرقلية عام 89هـ، وبدأ يعدُّ العدة لفتح القسطنطينية، حيث حاول الأمويون فتحها لمرات عديدة دون أن يتمكّنوا من تحقيق النجاح في ذلك.
لقد تابع الوليد بن عبد الملك تقوية الأسطول الإسلامي والتدريبات العسكرية البحرية لفتح القسطنطينية، ووضع خطة حصار برية وبحرية بالتنسيق بين التحرُّكات البرية والبحرية، وبدأت محاولة الفتح عام 94هـ، فجهّز أقوى حملة بحرية وبرية بقيادة أخيه مسلمة بن عبدالملك، ولكن الحملة لم تنجح أيضاً، لأنَّ البيزنطيين كانوا قد استعدوا لصدها بصلابة.
ولما تولى سليمان بن عبد الملك الخلافة أخذ يجهز الجيوش للسير إلى القسطنطينية، وخرجت الحملة بالفعل بقيادة مسلمة بن عبد الملك في أسطول كبير يقدَّر عدده بنحو ثمانية عشر ألف سفينة، وقيل: ألف وثمانمائة سفينة، ومعه مائة وعشرون ألف مقاتل، وتوجّه نحو المدينة العتيقة سنة 98هـ/ 716م ليبدأ الحصار لفتح القسطنطينية، ولكن هذا الحصار انتهى كسابقيه، بالرغم من استمراره عامين، وهذا يؤكد إصرار المسلمين على فتح القسطنطينية في أواخر سنوات الخلافة الراشدة وطوال الخلافة الأموية، أي أنَّ المسلمين لم يتمكّنوا من فتح القسطنطينية طوال القرن الأول الهجري، ولكنهم فتحوا بوابة الفتح لمن بعدهم بوصول الصحابة رضوان الله عليهم إلى أبوابها.
مشاريع بناء
كانت الصعوبة الكبرى التي واجهت الفاتحين العرب الأوائل للقسطنطينية أنَّ الإمبراطورية البيزنطية كانت ترى أنَّ سيادتها على القسطنطينية هو ما يمكّنها من السيطرة على شرق المتوسط ومستعمراتها القديمة في بلاد الشام وفي كل من تونس وليبيا ومصر وفلسطين وسوريا وآسيا الصغرى مروراً بالبلقان واليونان وصولاً إلى جنوبي شرقي إيطاليا، فهي وإن خسرت بعض مستعمراتها على أيدي الفاتحين المسلمين العرب الأوائل، فقد أدركت أنَّ الفتوحات الاسلامية ليست مجرد احتلال دول أو أراضٍ وإنما مشاريع بناء إمارات وولايات إسلامية، والعلاقة بين الفاتحين والمواطنين ليست علاقة استعمارية تزول مع الزمن، وكانت إمارات في سوريا وفلسطين ومصر وتونس يتم تحريرها من الاحتلال الرومي واحدة بعد الأخرى وبسرعة كبيرة لم يألفها التاريخ، وذلك بعد الانتصار الكبير على جيش الروم في معركة اليرموك شمال الأردن في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عام 15هـ.
وكان إصرار المسلمين على فتح القطسنطينية واضحاً للبيزنطيين، فلم تتوقّف عمليات تحرير البلاد العربية من الاحتلال الرومي على المعارك البرية فقط، فقد حاولت الجيوش الإسلامية في العهد الراشدي بناء السفن، وعينها على البحر الأبيض المتوسط وما بعده من الأراضي شرقاً وغرباً، وكان من أهمها معركة ذات الصواري التي وقعت عام 35هـ 655م، وانتصر فيها المسلمون على الإمبراطورية البيزنطية، وتمكّنت هذه المعركة من إنهاء السيطرة البيزنطية على البحر الأبيض المتوسط، بالرغم من أنها أول معركة يخوضها المسلمون في البحر، وبعد الانتصار الكبير في هذه المعركة أصبحت أنظار المسلمين نحو ما بعد البحر، ونحو القسطنطينية تحديداً.
هزيمة الأسطول البيزنطي
لقد تعرَّض الأسطول البيزنطي لهزيمة منكرة في مواجهة الأسطول الإسلامي في معركة ذات الصواري عام 655م، وأصبح بعد ذلك فتح القسطنطينية على رأس أجندة الخلافة الأموية بدءاً من عهد مؤسِّسها معاوية بن أبي سفيان. وكان الجميع يعلمون أنَّ طريق إنهاء مخاطر وتهديدات الإمبراطورية البيزنطية يمرُّ عبر السيطرة على عاصمتها القسطنطينية، فقامت الأساطيل الإسلامية الراسية في كيزيكوس/ايردك بتنظيم حملات بحرية سنوية ضد المدينة من بعد عام 668 وبين عامي 674 و678، وفي الوقت نفسه استمرت الفتوحات الإسلامية نحو الشرق وآسيا الصغرى ومحاصرة المدن الكبيرة، وتحقيق فتوحات أوسع في شمال إفريقيا.
أثَّرت انتصارات معركة ذات الصواري في مركز الإمبراطورية البيزنطية، وأصبحت الإمبراطورية في حالة يأس وعاصمتها تحت التهديد، وتجدَّدت رغبة الأمويين لفتح القسطنطينية بعد اتخاذهم مدينة حلب مركزاً إدارياً لدولتهم، وقد تعرَّف المسلمون إلى الثقافة البيزنطية والهندسية المعمارية للبيزنطيين في تلك المناطق، كما استعملوا الأنظمة النقدية والدواوين البيزنطية، كما تعاملوا بالنقد والعملات اليونانية بعد رفع شعار الصليب عنها، فلما جاء عصر الخليفة عبدالملك بن مروان ( 26هـ ـ 86هـ / 685-705) قام بوضع حد لهذه المجريات، فعرَّب الإدارة وصكَّ العملة الجديدة، وأمر الحرفيين اليونانيين المحليين ببناء مبنى حول الصخرة التي صعد عليها النبي عليه الصلاة والسلام في ليلة الإسراء والمعراج.
لقد كانت مكانة القسطنطينية لدى الإمبراطورية البيزنطية من أكبر الصعاب أمام الفتح الإسلامي في العهد الأموي والعباسي أيضاً، فقد كانت القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، ومهما واجهت من هجمات فإنَّ الدفاع عنها كان قوياً، فكما كانت الهجمات متوالية كذلك كانت عمليات الدفاع عنها وصد الهجمات متواصلة أيضاً.
وكان البيزنطيون يخشون سقوطها؛ لأنَّ سقوطها يعني سقوط الإمبراطورية البيزنطية، ولذلك كانوا يواصلون تحصينها ببناء الأسوار والقلاع وتجهيز الجيوش بشكل متواصل، فكان تحصينها وبناء الأسوار العصية على الاختراق هو من أكبر مهمام الإمبراطور والجند، وكان الإمبراطور يشيع بين جنده وشعبه أنَّ الربَّ يحمي هذه المدينة، وكان يحرص على تزويدهم بأقوى الأسلحة البرية والبحرية، فقد كانت الإمبراطورية البيزنطية تملك من الأسلحة البرية والبحرية ما لم يكن معروفاً في زمنهم، وقد ظهرت الأسلحة البيزنطية السرية التي يسميها الفرنسيون (feu grégeois) النار الإغريقية بين أعوام 670-680، وتمَّ اختراع النار الإغريقية من طرف لاجئ سوري يُدْعَى كالينيكوس، وقد كانت عبارة عن قاذفات للهب يتمُّ تثبيتها على سفن تسمّى سيفونوفوريس، وهي بمثابة سلاح للأسطول البحري.
وساد الاعتقاد الذي يقول إنَّ النار الإغريقية عبارة عن خليط النفط والبارود لفترة طويلة، والنفط هو البترول الخام الذي كان يخرج بشكل طبيعي في بعض أنحاء العالم، وقد ذكر الإمبراطور البيزنطي قسطنطينوس بورفيروغينيتوس (Konstantinos Porfırogennetos) في كتابه العائد للقرن العاشر “إدارة الإمبراطورية” (De Administrando Imperio) أنَّ النفط كان يخرج في القرن السابع في دونباس، أي أبخازيا وأوكرانيا اليوم، إضافة إلى طرجان التي تقع بين أرزروم وأرزنجان في تركيا اليوم.
لم يكن البارود ضرورياً من أجل سلاح النار الإغريقية، حيث كان يتمُّ جمع النفط وتخزينه في أماكن باردة للحيلولة دون تبخُّر مكوناته المتطايرة، ثمَّ يتمُّ تسخينه عند الحاجة إلى استخدامه، وكانوا يخبِّئون النفط قبل الهجوم في براميل برونزية مسخنة، تقوم مضخة أو سيفون مربوط بالبراميل بتوليد ضغط على النفط المسخّن، ويؤمِّن الأنبوبُ البرونزي الموصول بصمام في الطرف الآخر من البرميل تدفُّقَ السائل الساخن، ثمَّ يخرج السائل الحارق من الأنبوب عند فتح الصمام بنتيجة الضغط، ويتصف هذا السائل باللزوجة الشديدة حيث إنه يلتصق بالشيء الذي يلامسه، وقد كانت السفن تشتعل بمجرد ملامسة هذا السائل لها. وهكذا كان الصمود البيزنطي رادعاً لفتح القسطنطينية في العهد الأموي، وكيف حاول المسلمون التغلُّب على هذا الصمود في العصر العباسي؟