31,098 عدد المشاهدات
خاص – د.حمادة هجرس .. مركز جمال بن حويرب للدراسات
للتاريخ الإسلامي عظيم الأثر في استنهاض الأمة الإسلامية، وأساس متين لبلورة رؤية لمستقبلها ونهضتها وبعثتها، كما كان له دور مهم في إبراز شخصيتها وحضارتها، ودليلاً على نضج شخصيتها. فالاهتمام بالماضي وسيلة مهمة لتشخيص الحاضر، وجوهر النهضة المستقبلية، بما فيه من قيم وصفحات مضيئة حملها المسلمون إلى مشارق الأرض ومغاربها. يطيب لنا أن نتناول قصة القائد الفذ قتيبة بن مسلم الباهلي مع الإمبراطور شوان زونغ (93- 139ھ / 712- 756م) إمبراطور الصين خلال عصر أسرة تانغ (4- 294ھ /618- 907م).
ولد قتيبة في بيت إمرة وقيادة وحكم في مدينة البصرة العراقية عام 49هـ/ 669م لأسرة من قبيلة باهلة العربية النجدية، ولما ترعرع تعلم العلم والفقه والقرآن، ثم تعلم الفروسية وفنون الحرب، فظهر فيه النبوغ وهو شاب في مقتبل شبابه، وفي عصر الخليفة عبد الملك بن مروان ولاه مدينة الري، ثم ولاه بعدها خراسان عام 86هـ خلفاً للقائد المهلب بن أبى صفرة (ت 82 أو 83 هـ) الذي كان قد تولاها منذ عام 78هـ، وفور وصول قتيبة بن مسلم إلى خراسان، علا بهمته إلى فتح بلاد ما وراء النهرين، ونشر دين الإسلام فيها، فاسترد منطقة طخارستان (جزء من أفغانستان وباكستان حالياً) عام 86هـ، وأكمل فتح بخارى وما حولها من القرى والحصون بين سنتي 87- 90 هـ، ثم أكمل فتح إقليم سجستان، وإقليم خوارزم، ووصلت فتوحاته إلى مدينة سمرقند، الذي ضمها سنة 93هـ، ونجحت فتوحات بين سنتي 94-96 هجرية، في فتح حوض نهر سيحون بما فيه من مدن، ثم دخل أرض الصين وأوغل فيها ووصل مدينة كاشغر وجعلها قاعدة إسلامية، وكان هذا آخر ما وصلت إليه جيوش إسلامية في آسيا شرقاً ولم يصل أحد من المسلمين أبعد من ذلك قط.
على أية حال، لقد اتصل الصينيون بالعرب المسلمين اتصالاً جغرافياً مباشراً خلال العصر الأموي، لذا حظيت السفارات الإسلامية باهتمام في المصادر التاريخية الصينية، فقد ورد في المجلد رقم 99 بعنوان (بلاد فولين- الإمبراطورية الرومانية) في كتاب التاريخ المؤسسي لأسرة تانغ (تانغ هوي ياو) (Tang Huiyao) أنه خلال عام 45ھ/ 665م وذلك في السنة السابعة عشرة لعصر الإمبراطور غاوزونغ (ت 63ھ / 683م)، قدِم مبعوثٌ من العرب إلى بلاط الإمبراطور، وقدّم له الإمبراطور كثيراً من الهدايا تعبيراً للاحترام؛ كان من بينها الزجاج الأحمر، والمرمر الأخضر، والذهب، كما ورد في المجلد رقم 970 من الموسوعة التاريخية (سيفو يوانغوي) (Cefu Yuangui)، أنه في عام 62ھ / 682م استقبلت الصين سفارات من بلاد العرب والفرس.
كان لتوسع الدولة الأموية في آسيا أبلغ الأثر في الاتصال المباشر بين المسلمين والصينين، فقد استطاع قتيبة بن مسلم الباهلي (49 – 96 ه / 669 – 715 م) ضم تركستان الشرقية (مقاطعة شينجيانغ الصينية) والاستيلاء على عاصمتها كاشغر عام 96ھ / 715م، وعلى أجزاء كبيرة من أراضي الحدود الغربية لإمبراطورية أسرة تانغ، ومع ذلك لم يزحف الباهلي إلى الأراضي الصينية، وكان من نتيجة الوجود الإسلامي واستقرار المسلمين أبلغ الأثر في انتشار الإسلام بين شعوب الترك والفرس في تلك المنطقة الجغرافية الشاسعة، والتي ربطت بين شرق آسيا وغربها، كما كان من بين نتائجها كذلك أن أصبح العرب لأول مرة في تاريخهم في مواجهة أو في اتصال مباشر جغرافي مع الصينيين، ودارت بين القوتين العظيمتين مراسلات دبلوماسية للإبقاء والحفاظ على حدود الصين دون أن تقوم كل قوة بمهاجمة الأخرى، وبعث الإمبراطور شوان زونغ إلى قتيبة بن مسلم أن يرسل إليه وفداً ليتعرف عن قرب على العرب ودينهم؛ وفي هذا السياق أرسل الباهلي سفارة من جيشه إلى بلاط الإمبراطور في مدينة تشانغآن (مدينة شيآن حالياً بمقاطعة شانشي) ترأسه هبيرة بن مشمرج الكلابي.
أورد ابن الأثير هذه الحادثة كما يلي: كان قتيبة بعد أن فتح كاشغر، قد كتب له ملك الصين أن يبعث له رجلاً شريفاً يخبره عنهم وعن دينهم، فانتخب قتيبة عشرة لهم جمال وألسن وبأس وعقل وصلاح، فأمر لهم بعدة حسنة ومتاع حسن من الخز والوشي وغير ذلك وخيول حسنة، وكان منهم هبيرة بن مشمرج الكلابي، فقال لهم: إذا دخلتم عليه فأعلموه أني قد حلفت أني لا أنصرف حتى أطأ بلادهم وأختم ملوكهم وأجبي خراجهم.
سار وفد المسلمين يترأسهم هبيرة، فلما قدموا عليهم دعاهم ملك الصين، فلبسوا ثياباً بياضاً تحتها الغلائل، وتطيبوا ولبسوا النعال والأردية، ودخلوا عليه وعنده عظماء قومه فجلسوا ولم يكلمهم الملك ولا أحد ممن عنده، فنهضوا.
فقال الملك لمن حضره: كيف رأيتم هؤلاء؟
فقالوا: رأينا قوماً ما هم إلا نساء ما بقي منا أحد إلا انتشر ما عنده.
فلما كان الغد دعاهم الإمبراطور شوان زونغ إلى مجلسه، فلبسوا الوشي والعمائم الخز والمطارف، وغدوا عليه فلما دخلوا قيل لهم: ارجعوا.
وقال الإمبراطور لأصحابه: كيف رأيتم هذه الهيئة؟
قالوا: أشبه بهيئة الرجال من تلك.
فلما كان اليوم الثالث دعاهم فشدوا سلاحهم، ولبسوا البيض والمغافر وأخذوا السيوف والرماح والقسي وركبوا، فنظر إليهم ملك الصين فرأى مثل الجبل فلما دنوا ركزوا رماحهم ودفعوا خيلهم كأنهم يتطاردون.
فقال الملك لأصحابه: كيف ترونهم؟
قالوا: ما رأينا مثل هؤلاء.
فلما أمسى بعث الإمبراطور إليهم أن ابعثوا إليَّ زعيمكم، فبعثوا إليه هبيرة، فقال له ملك الصين: “قد رأيتم عظم ملكي وأنه ليس أحد منعكم مني، وأنتم في يدي بمنزلة البيضة في كفي وإني سائلكم عن أمر فإن لم تصدقوني قتلتكم“.
قال الإمبراطور: “لم صنعتم بزيكم الأول اليوم الأول والثاني والثالث ما صنعتم؟”.
فرد عليه هبيرة قائلاً: “أما زينا الأول فلباسنا في أهلنا، والثاني فزينا إذا أمنا أمراءنا، والثالث فزينا لعدونا“.
فقال الإمبراطور: “ما حسن ما دبرتم دهركم فقولوا لصاحبكم ينصرف فإني قد عرفت قلة أصحابه وإلا بعثت إليكم من يهلككم“.
ففقال له هبيرة: “كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون؟ وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالاً إذا حضرت فأكرمها القتل ولسنا نكرهه ولا نخافه وقد حلف أن لا ينصرف حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم وتعطوا الجزية”.
قال الإمبراطور: فإنا نخرجه من يمينه ونبعث تراب أرضنا فيطأه، ونبعث إليه ببعض أبنائنا فيختمهم ونبعث إليه بجزية يرضاها.
على أية حال، نستنبط من حديث ابن الأثير خشية الإمبراطور شوان زونغ من بأس جيش المسلمين وقائدهم قتيبة، فبادر مهرولاً إلى إرسال سفارة إليه مشمولة بهدية عظيمة وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم ثم أجازهم، فأحسن فقدموا على قتيبة، فقبل قتيبة الجزية وختم الغلمان وردهم ووطئ التراب”.
وعن هذا الحدث؛ قال سوادة بن عبد الملك السولي عن هذا الوفد الذي تم إرساله إلى بلاد الصين:
لا عيب في الوفد الذين بعثهم
للصين أن سلكوا طريق المنهج
كسروا الجفون على القذى خوف الردى
حاشا الكريم هبيرة بن مشمرج
أدى رسالتك التي استرعيته
فأتاك من حنث اليمين بمخرج
وبعد هذه الحادثة اهتمت المصادر التاريخية الصينية بتاريخ العرب وسياساتهم وعلاقاتهم بالصين وأسرة تانغ، وتوالت الإشارة إلى السفارات العربية في النصوص والمصادر الصينية القديمة، حيث تم تسجيل وتوثيق وصول سفارات وبعثات عربية لسبع وثلاثين مرة، كما سجلت المصادر الصينية وصول عشرين سفارة فارسية من المسلمين.
قائمة الصادر والمراجع
- ابن الأثير (عز الدين أبي الحسن الجزري الموصلي، ت 630ھ)، الكامل في التاريخ، المجلد الرابع (من سنة 65إلى سنة 126 ھ)، راجعه وصححه محمد يوسف الدقاق، الطبعة الأولى، بيروت: دار الكتب العلمية، 1987م.
- حماده محمد هجرس، المساجد الأثرية الباقية في مدينة بكين الصينية منذ القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) وحتى نهاية القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي) “دراسة أثرية معمارية”، مخطوط رسالة دكتوراه غير منشور، جامعة الفيوم، 2016م.
- خالد محمد خلاوي، فاتح المشرق قتيبة بن مسلم الباهلي: سلسلة فرسان الإسلام، العبيكان للنشر، 2001م.
- عماش، صالح مهدي، قتيبة بن مسلم الباهلي وحركات جيش المشرق الشمالي فيما وراء النهر، وزارة الثقافة والفنون، بغداد 1987م.
- كرم حلمي فرحات، الثقافة العربية والإسلامية في الصين، الدار الثقافية للنشر، 2005م.
- Tanghuiyao: 唐会要, 卷99, 拂菻国 (Institutional History of Tang, Volume 99, Roman Empire), 中文出版社 (Chinese Press), 1978.
- Ma Jianchun & Xia Can, “Gǔdài xīyù bōlí qìwù jí gōngyì de shūrù yǔ yǐngxiǎng” (Input and Influence of glassware Technology between China and Western Countries during Ancient Ages), Huizu Yanjiu (Journal of Hui Muslim Studies), 2011, No. 1, pp. 45- 52.
- Cefu Yuangui (册府元龟), (卷九七〇&外臣部。 朝贡三) (= Volume 970- Foreign Minister), 中华书局 (Zhonghua Press), 1960.
- Benite, Aziz Ben-Dor, “Even unto China, Displacement and Chinese Muslims Myths of Origin”, Bulletin of The Royal Institute for Inter: Faith Studies 4, 2002, No. 2, pp. 93- 114.
- Khamouch, Mohammed, “Jewel of Chinese Muslim’s Heritage”, Muslim Heritage, 2005, pp. 1- 22.
- Wahby, Ahmed, Islamic Architecture in China, Mosques of Eastern China, Master’s Degree, Cairo, The American University in Cairo, School of Humanities and Social Sciences, 2000.
- Wang Youyong,Shànghǎi shì zhòngdiǎn xuékē jiànshè xiàngmù zīzhù: Xiàndài zhōng ā jīngmào hézuò yánjiū (Economic and Trade Cooperation between China and Arabs), Shanghai Foreign Language Education Press, 2004.
- Ben She, Yīsīlán jiào jiànzhú zhī, yīsīlán jiào jiànzhú, mùsīlín lǐbài qīngzhēnsì (Islamic Architecture, Mosques), Beijing Zhongguo Janzhu Press, 2009.