كيف نقضي على سوء الفهم؟ 2-2

مقالات متنوعة

 1,404 عدد المشاهدات

الكاتب: جمال بن حويرب

سوء الفهم لو تدّبرنا في كيفيّة حدوثه ثم تفكّرنا في نتائجه الخطيرة لعلمنا أنّه أصلٌ لبلاءٍ عظيمٍ يُنشأ أمواجاً عاتيةً من الشقاق والفراق والقطيعة بين فئات المجتمع المختلفة من بداية الفرد حتى يعمَّ المجتمع بأسره بل قد تحدث منه حروب طاحنة بين الدول المتنافسة فتُزهق هدراً من جرّائها كثيرٌ من الأرواح قد تصل إلى أرقامٍ مخيفةٍ بسبب سوء فهمٍ من قادة هذه الدول لبعضهم بعضاً، أو من سوء فهم وتقدير الأوضاع الحقيقية التي تمر بها دولهم وصدق نصر بن سيّار الليثي (131هـ) عندما قال يحذّر بني أميّة بأنّ سوء الفهم السياسي بدأ يزيدُ ويشتدُّ في المناطق النائية عن دمشق ويجب علاجه قبل فوات الأوان فقال:

أرى خلل الرمادِ وميضَ جمرٍ

      ويوشكُ أنْ يكون له ضرامُ
فإنْ لم يطفئها عقلاءُ قــومٍ

       يكونُ وقودها جثثٌ وهامُ
وإنّ النـــارَ بالعودينِ تُذكى

 وإنّ الحربَ أوّلها كلامُ

هو إذن سوء الفهم الذي كان مبتلى به قادة بني أمية في أواخر أيّامهم فلم يستمعوا أو يفهموا نصيحة واليهم على خراسان، فهم لا يرون الحقيقة التي تزحف بسرعةٍ إلى إسقاط ملكهم وكذلك العامة التي كانت هناك والبلدان البعيدة عن عاصمة الخلافة التي أساءت فهم قادتهم، وأعمت أعينهم وقلوبهم أصوات الانقلابيين الجدد فهم لم يستمعوا إلى قيادتهم بسبب بعدهم أو قد يكونون استمعوا إليهم ولكنهم أساؤوا فهم أوامرهم، ووجدت كلمات الدعاة الجدد من أبي مسلم (137هـ) وغيره صدى في نفوسهم العطشى.

لغة الخطاب

اللغة غير الواضحة والتي نخاطب بها الناس قد تسبّب سوء فهم كبير، وكلما اجتهدنا في وضوح لغة خطابنا فإننا بذلك نبتعد عن مجال سوء الفهم الذي يحذّر منه كل أهل الحكمة والرأي، فالوضوحَ الوضوحَ أيّها الأعزاء فإنّه يزيل أيَّ لبسٍ في المعنى، وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال:”ما أنت بمحدّثٍ قوما حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة”، وأخرج أيضاً عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، :”حدّثوا الناس بما يعرفون، أتحبّون أن يكذّب الله ورسوله”، ومن باب ذكر الشيء بالشيء المشابه، يعجبني قول الطيّار والمؤلف الفرنسي إنطوان دي سونت : “اللغة مصدر سوء الفهم”.

التَّكرار

إن خشي أحدنا عدم فهم كلامه فما عليه إلا أن يعيد كلامه مرتين خاصة عند الجنسيات المتباعدة في لهجاتها ولغاتها أو عند التأكد من قلّة علم أو وعي المُخاطب أو صغر سنهم، وكذلك إذا كان الأمر مهماً جداً فليعده مرّات ولو كان يسمعه أهل العلم والفهم، كما كان يفعل سيّد المرسلين في الأمور المهمة، حيث كان يكرّر حديثه من أجل التأكيد على عظم ما يتكلّم عنه وكذلك لإزالة أيّ لبس يمكن أن يقع فيه المستمع وجاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم:”رغم أنف رغم أنف رغم أنف، قيل من يا رسول ؟ قال: من أدرك أبويه عند الكِبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة”. فتكرار الكلمة يدل على عظم الأمر الذي يتحدث عنه فيثبت في قلب المُخاطَب، وهناك أدلة أخرى من الأحاديث الشريفة تفيد نفس الأمر.

السؤال

ذكر كثير من العلماء أنّ سؤال المخاطبين يزيل كثيراً من سوء الفهم فهو يدّلك على مدى استيعابهم لما ذكرته لهم، خاصة في التعليم والمحاضرات العامة والأوامر المهمة وهو مفيد جداً لتعليم الأولاد الصغار لأنه يثبت المعلومات والنصائح في قلوبهم الطرية التي لا تريد إلا اللهو والعبث، والأمر نفسه مفيدٌ للمستمع المُخاطَب فإنّه إذا لم يفهم المعنى فعليه أن يسأل ليزيل ما عرض عليه من سوء فهم أو ليتأكد من الأمر وهذه مهارة يجب أن نتعوّد عليها ونعوِّد عليها النشء الجديد، وكيف نحسن فهم أمر لم نفهمه أصلًا ونستحي من السؤال عنه هذا سيؤدي إلى نتيجةٍ خاطئة حتماً.

الكتابة
من الأشياء التي تجعلني أعجب بالحضارات المتقدمة المعاصرة هو حرص أهلها على التقييد لكلّ شيء بل قد بلغ الأمر بهم إلى التفنن في طُرُقه وأدواته واستخدام كلّ التقنيات المتطورة لتذليله لأنه يبعد كثيراً عنهم سوء الفهم من حياتهم والأمر سواء للآمر والمأمور وللمخاطِب والمُخاطَب، ولهذا فإنّك تراهم أحرص الناس وأكثرهم كتابة على كلّ شيء يجدونه أمامهم، وهذا مما تعلّموه من المسلمين القدامى لأنّهم لم يكونوا كذلك من قبل، أمّا نحن اليوم فقد تركنا هذا الأمر للأسف وصرنا نادراً ما نكتب أو نرى أحدا يحرص عليها من أبناء الإسلام مما أدى إلى زيادة الخلافات والشقاق بينهم.
هناك بلا شكّ أدوية غير هذه نافعةٌ لعلاج سوء الفهم ولكنّي اخترت لكم أفضلها فلنحسن الظنّ بإخوتنا وأخواتنا ولنحاول أن نفهمهم بطريقة صحيحة ولنتعوّد على ذلك فالأمر سهل.

نشر في البيان
بتاريخ 22 سبتمبر 2012