مدينة شنقيط تتحدى الاندثار

Business الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مجلة مدارات ونقوش – العدد 6

 2,840 عدد المشاهدات

أحبيب الشيخ – مدارات ونقوش
هناك ما بعد الجبل و كما يحدث في بعض الأساطير، توجد حياة مختلفة تبدو كما لو أنها خارجة من عقال الفناء ومتمردة عليه.
هناك تحديداً خلف الهضاب القريبة من مدينة شنقيط التاريخية، و في نهاية الطريق الجبلي المؤدي إليها، تتوحد الشمس بالأرض فتكسب كل منهما الأخرى لونها، قوتها، وعزيمتها على الاستمرار مهما تلبدت الحياة بغيوم الصعاب.
منذ أكثر من 1200 سنة ما زالت مدينة شنقيط تقاوم عاديات الزمن، و عوامل التعرية الجغرافية، وتلك التي ترتبط بتيارات العولمة، ما أدرجها على قائمة «اليونيسكو» للتراث الإنساني العالمي
.

تم تأسيس مدينة شنقيط الحالية سنة 1262 ميلادية أي 660 هجرية، وعلى بعد ثلاثة كيلومترات من شنقيط الأولى أو مدينة آبير القديمة، والتي تم تأسيسها كما تتفق معظم الروايات المحلية سنة 777 ميلادية (160 هجرية)، أما مسجدها الشهير بمنارته المميزة فقد تأسس كما يعتبر العلامة سيدي عبد الله ولد الحاج إبراهيم سنة 1400 ميلادية.
بلغ أوج ازدهار شنقيط بلغ أوجه فى القرنين 18 و19
بلغ أوج ازدهار شنقيط بلغ أوجه فى القرنين 18 و19
ازدهار علمي
وبدأ ازدهار شنقيط التجاري وتألقها الثقافي في القرن 17، وبلغ أوجه فى القرنين 18 و19. ونجد أول إشارة إلى ذلك الازدهار في رواية سيدى عبد الله ولد الحاج إبراهيم عن خروج قافلة تجارية من شنقيط مشكلة من 32 ألف بعير، مما يعكس أهميتها حينئذ كميناء للتجارة الصحراوية، ومنطلق سنوي لركب الحج الصحراوي. ولذا منحت شنقيط اسمها للبلد ككل، وتعززت تلك الصورة الإيجابية أكثر في البلاد العربية خلال القرنين الماضيين، بفعل ما حظي به العلماء الشناقطة من مكانة، وما تركوا من انطباعات حسنة فى المراكز العلمية المشرقية والمغربية التي حلوا بها.
وقد استطاعت شنقيط أن تحافظ على مكانتها التجارية والثقافية حتى نهاية القرن 19 على الرغم مما عانته من مصاعب وصراعات داخلية وخارجية. وإذا كان الرعيل الأول من علماء شنقيط البارزين من أمثال القاضي عبد الله (توفي 1103 هـ1691م) وأحمد أكد الحاج (توفي 1086 هـ  1675 م) قد تلقوا تكوينهم العلمي فى وادان، فإن شنقيط قد حققت اكتفاءها العلمي ابتداء من محمد بن المختار بن الأعمش (توفي 1103/1691) ومن قفوه. ويكفى أن نتذكر علماء بارزين من أمثال: الخليفة بن أحمد أكد الحاج وابنه أحمد (توفي 1188 هـ 1775م)، أحمد بن المختار بن الطالب محمد بن المختار بن الأعمش (توفي 1155 هـ 1742 م)، أحمد بن الحاج حمى الله (توفي 1193 هـ 1779 م) وابنه عبد الله (توفي 1209 هـ 1794 م)، وسيدى محمد بن حبت، والشيخ بن حامنى (توفي 1318 هـ 1900 م).
 
اشتهرت بحب الكتب واقتنائها ومكتباتها ومخطوطاتها شاهد حي
اشتهرت بحب الكتب واقتنائها ومكتباتها ومخطوطاتها شاهد حي

 

 
قوافل ومخطوطات
وكانت شنقيط مدينة تستقبل القوافل الصحراوية بسخاء، وتكرم الحجيج في رحلتهم نحو المغرب فمصر فالحجاز، و قد عرفت قوافل الحجيج التي تنطلق منها كل سنة بركب بلاد شنقيط.
و قد كانت المدينة مشهورة بمكتباتها ومخطوطاتها النادرة، الأمر الذي  جعلها مثوى أفئدة  النخبة الصحراوية الموريتانية، التي اشتهرت بحب الكتب و اقتنائها، والمحافظة عليها برغم أنف الرمال المتحركة، وتقلبات بحري الصحراء و الماء اللذان يحدان جغرافيا بلاد الشناقطة (موريتانيا).
و قد كان في شنقيط عدد كبير من  المخطوطات النفيسة والنادرة، وبعضها لا زال حتى الآن محفوظاً عند بعض الأسر في «شنقيط المعاصرة، وفي مكتباتها الخاصة.
وتعتبر مكتبات أهل حبت، وأهل أحمد الشريف، وأهل حامني، وأهل عبد الحميد، وأهل لداعه، وأهل السبتي، وأهل الخرشي أهم الشواهد المعاصرة على ماضي شنقيط الثقافي المتميز.
وقد أدت عوامل المناخ الصحراوي إلى تلف بعض المكتبات الشنقيطية، وتشير الدراسات التاريخية إلى أن بعض تلك المخطوطات يعود تاريخها إلى القرن التاسع الميلادي، وقد  خطت نصوصها على جلود الغزلان،  وأحيطت بأغلفة من جلد الماعز، وتتنوع مواضيعها بين علوم القرآن الكريم وأحكام الشريعة، والآداب والنحو والشعر والطب والفلك والعلوم الأخرى.
هذه المحافظة على التراث المكتبي و المعرفي العالم لدى السكان، استمرت في الأشكال الحضارية الأخرى كالنمط المعماري الشنقيطي.
فقد حافظ الإنسان الشنقيطي على نمط العمران الأصيل المتوارث منذ مئات السنين، وهو بناء يستخدم الحجر الصقيل المقطع على أشكال متراصة و متساوية في الأحجام والأبعاد، هو بناء مكلف و غالي الثمن ولا يستطيعه سوى الأثرياء كما يقول لنا أحد السكان.
وهناك نمط بناء طيني أقل انتظاما  على مستوى تنضيد الحجارة و تشذيبها، و أقل كلفة من الناحية المادية و يشترك مع الأول في نفس فكرة المحافظة على تراث «آبير» أو شنقيط القديمة.
وحتى لو كان أول ما يستقبل الداخل إلى مدينة شنقيط هو الملامح و اللمسات المدنية الحديثة، فإنه في العمق  تبدو شنقيط الحالية أو الثانية، مدينة  تنهض بتراث شنقيط القديمة «مدينة آبير»، و تلتحف بمفردات الحضارة دون أن تفرط في أصالتها، إنها بعبارة أخرى تجسد روح الإنسان الشنقيطي، التي تستمر في الزمن دون أن تغيرها حداثته،عن أصلها الطيب المنفتح في ثقة وتوازن وعمق ثقافي ممتد لقرون كاملة.
وقد عرفت شنقيط عبر تاريخها القديم أيضا بكثرة المساجد، حيث كانت تضم 30 مسجداً كما يقول السكان، و لن يستطيع الزائر لشنقيط أن يتعرف على  الصورة الكاملة لتراثها، ما لم يمر على مسجدها الشهير بمنارته، و التي تمثل رمزاً من رموز الدولة الموريتانية.
تراث معماري مميز في المدينة الأثرية القديمة
تراث معماري مميز في المدينة الأثرية القديمة
 
روح المدينة
وتشير الدراسات التاريخية إلى أن مسجد شنقيط الحالي، قد تم بناؤه كنسخة مطابقة لمسجد شنقيط الأولى «مدينة آبير»، و قد استخدمت في بنائه  الحجارة المحلية  الممزوجة بالطين الأصفر، و شيد سقفه من سعف النخيل وجذوعه المقواة بالطين، ونصبت على أطراف مئذنته التي يبلغ طولها عشرة أمتار، أربع بيضات من بيض النعام لتزيينها.
وقد رمم المسجد في العصر الحديث، لكنه ما زال محتفظا بنفس الشكل المعماري القديم، و قد حرص السكان على المحافظة على أن يكون خالياً من الأفرشة، وأن تكون الصلاة فيه على التراب الفصيح، ربما في إشارة لتوطد العلاقة بين الأرض الطاهرة والسماء التي تجود بالنور.
وبرغم الرمال التي تزحف بقسوة وصمت مستفز، ما زال الناظر نحو آبير يشاهد مسجدها القديم بمنارته التي حافظ عليها سميه و نظيره مسجد شنقيط الحالي، شامخاً يتحدى أسوار الزمن و قبضته التي تغير كل شيء بإذن ربها.
و تعني كلمة آبير تصغيراً لكلمة البئر في لغة القوم هناك قديماً، وهي مسماة على عين الماء  تلك التي تأسست حولها، وكأن الماء لا بد أن يكون حاضراً مع الرمل و الشمس وحرارة المناخ، وصلابة الصخر الجبلي، كي تكتمل كل عناصر الحياة  وتهب روحها للمدينة القديمة.
وتشير معظم المصادر التاريخية  المتداولة إلى أن من حفر تلك البئر قبل 44 سنة من تأسيس المدينة، هو عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع رضي الله عنه، و قد حفرها لتكون نقطة وصل بين مدينتي سجلماسة في الجنوب المغربي، وأوداغوست التاريخية في الشرق الموريتاني، والتي اندثرت بعد أن اشتهرت كمدينة تجارية ومركز إشعاع حضاري وعلمي هناك.
و قد كانت شنقيط تتزود بمياه عدد من العيون المنتشرة فيها وأهمها العين التي تقع على ضفة البطحاء غرب الحاضرة، وتشكل بطحاء شنقيط مصبا هاما لمياه الأمطار التي تأتي منجرفة من جبل آدرار، و يوصف الوادي الذي يفصل بين شمال شنقيط و جنوبها بالوادي الأعور، وذلك بحسب بعض الدراسات التاريخية لأن فيضان مياهه لا يسيل إلا من جهتين هما الشمال و الغرب.
في طريق العودة من الرحلة الشنقيطية، تتراءى في المخيال «عيون الخيل» التي تطابق في لغة البربر اسم «شنقيط»، كما تقول إحدى الروايات التاريخية، أو «جبل عيون الماء» كما تزعم إحدى الروايات الفرنسية، يتراءى الجبل شامخاً  صارماً، كأنه متحفز لحماية المدينة الأثرية من سطوة الرمال إذا اقتضى الأمر ذلك
 
المدينة القديمة تصارع الرمال 
المدينة القديمة تصارع الرمال 
 
محمول ثقافي
وتستمر الرحلة حتى حدود مدينة أطار، عاصمة ولاية آدرار التي تقع فيها مدينة شنقيط، وهناك يصادفك مسجد شنقيط مرة أخرى كنصب تذكاري عند مدخل أطار، و كأن شنقيط أعطت لموريتانيا كلها اسمها، و أعطت لعاصمة ولايتها رمزها.
ونحن نودع مدينة شنقيط بكل محمولها الثقافي التراثي، ينغرس في النفس إحساس عميق بعبثية الصراع الوجودي للإنسان مع الفناء الذي سيطاله مهما حاول تأسيس بقائه حضارياً ومعمارياً، غير أن ذلك الإحساس يمتزج بإعجاب بعبقرية من تصدوا لتلك المقارعة محسومة النتائج مسبقاً، وقرروا أن يتركوا على الأرض ما يستحق الحياة.