3,818 عدد المشاهدات
الكثيرُ مِمَّن يحتسون القهوة لا يعرفون معناها ولا أصلها، وإنَّها مفردتنا التي اخترناها لكم في هذا العدد من (مدارات ونقوش). ما يعرفه العام وحتى الخاص أنَّها شراب ساخن محضَّر من البن، لونها بنيٌّ أو أسود، تُطْبَخ خاليةً مع الماء أو مع بعض النكهات؛ مثل الهيل والزعفران والقرفة.. والسؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا: ماذا تعني كلمة قهوة؟ وما أصلها وموطنها؟ مَن اكتشفها؟ ومتى؟
للإجابة عن هذه التساؤلات نبدأ الحديث، حيث لا يكاد الكثير من الناس يعرفون أنَّ مفردة القهوة أصلها الخمر، وقال فيها ربيعة بن سفيان:
وَمَا قَهْوَةٌ صَهْبَاءُ كَالْمِسْكِ رِيحُها
تُعَلَّى عَلَى النَّاجُودِ طَوْراً وَتُقْدَحُ
وقال يزيد بن مسلمة بن عبد الملك:
لَيْتَ حَظّي اليومَ مِنْ كُلّ مَعَاشٍ وَزَادِ
قَهْوَةٌ أبْذلُ فِيها طَارفي ثُمَّ تَلادِي
فَيَظَلُّ القَلْبُ فِيهَا هَائِماً في كُلّ وَادِي
وقال إسماعيل بن يسار:
كأنني يوم ساروا شارب سلبت
فؤاده قهوة من خمر داروم
ومنه يظهر لنا أنَّ الكثير من الشعراء، ولا سيما شعراء الجاهلية، قد تغنوا بالقهوة وربطوا معناها بالخمر، ولكن مع مرور الأيام والأزمنة تغيَّر معنى القهوة الخمرية إلى القهوة البنية، وترك العرب المعنى القديم واستحدثوه بكلمة (بن) فيكف حدث هذا؟
سمّيت القهوة بالخمر؛ لأنها تشبع الإنسان عن الطعام وتذهب شهوته للأكل. يقول أبوالطمحان يذكر نساءً:
فأصبحت قد أقهين عني كما أبت حياض الإمدان الهجان القوامح ومعنى البيت أنَّ النساء عفن الشاعر وأقهين عنه كما تعاف الهجان الحياض المالحة.
وللتوضيح أكثر، علينا أنَّ نتفرع قليلاً ونذكر معنى البن، تاريخ البن وأصله. ففي اللغة العربية، البنة تعني الرائحة الطيبة، وفي بعض الدول العربية تعني الطعم الطيب، وهذه المفردة مستعلمة كثيراً في معجمنا الدارج اليوم، لكن ما يهمنا هو كيف اشتق البن أو القهوة من كلمة البنة.
كلنا يعلم أنَّ للقهوة رائحة طيبة ذكية، وأثبتت الدراسات الحديثة أنَّ لها فوائد صحية على جسم الإنسان، وبالتالي فكلمة “بن” مشتقة من كلمة “بنة” لرائحته الطيبة. والتفسير الثاني هو أن البنَّ مشتق من أرضه الأصلية بونغا، وهي منطقة تقع جنوب شرق إثيوبيا، وعلى الأرجح أنَّ هذا التفسير بعيد عن المنطق؛ لأنَّ بونغا منطقة زراعية وتنتج الكثير من الخضرات والفواكه، فَلِمَ لَمْ تُنْسَبْ إليها كما نُسِبَ إليها البن؟
وإذا كنَّا قد عرفنا أصل كلمة البن ومن أين اشتقت، فما أصل كلمة قهوة التي قلنا سالفاً أنها تعني الخمر؟ وكيف سمَّى العرب البن الذي يشربونه حلالاً باسم محرم؟
التفسير القريب الذي يتبادر إلى أذهاننا أنَّ العرب استبدلوا القهوة المحرمة (الخمر) بالقهوة الحلال (البن). ومع هذا فإننا نستبعد هذا التفسير؛ لأنَّ القهوة (البن) اكتشفت في القرن التاسع الهجري، والخمر حُرِّمَ في بداية الإسلام، لهذا عندما عرف العرب القهوة في القرن التاسع الهجري، قام الشعراء وتغنوا بالبن وسموه قهوة تشبيهاً بقهوة الخمر.
للقهوة مذاق لذيذ، ورائحة طيبة فيها شفاء لبعض الناس، وتاريخها عريق؛ إذ ارتبط اسم القهوة بالمنطقة التي اكتشف فيها، وهي منطقة كافة في جنوب شرق إثيوبيا، وُجِدَت في القرن الرابع عشر الميلادي، وفيها اكتشف البن، ولكن لا نعرف في أي سنة بالضبط.
في القرن التاسع الهجري، زار رجل عابد صالح من أهل اليمن اسمه “أبو بكر بن عبد الله الشاذلي العيدروسي” مملكة كافة وكانت عاصمتها بونغا، حيث يزرع البن، وكان على كثرته متروكاً لا يستفاد منه، فوجد الشاذلي العيدروسي أنَّ البن يعين على السهر والعبادة؛ فقام بنشره بين أتباعه، وهكذا انتشر البن وذاع صيته في اليمن وفي بلدان أخرى، وكان صوفيو اليمن كثيري الحج والعمرة؛ فنقلوها معهم إلى بلاد الحجاز، وانتقلت بعدها إلى مصر وتركيا وأوروبا في القرن السابع عشر الميلادي، وفي عام 1645 اُفْتُتِحَ أوَّلُ مقهى في إيطاليا.
وكما في بلاد الإسلام، حصل لغط كبير حول القهوة، وهل هي حلال أم حرام، حصل ذلك أيضاً في أوروبا، ولكن أجمع الجميع الآن على أنها حلال؛ فمن أفتى بأنَّ قهوة البن هي قهوة الخمر، ظنًّا بأنَّ لها أثراً سلبيًّا في الأبدان، فيما قد ثبت خطأ هذا القول. وقد قال في ذلك الشيخ العلامة سعيد بن خلفان الخليلي بيتاً ظريفاً:
هذه القهوة هذي
هذه المنهي عنها
كيف تدعى بحرام
وأنا أشرب منها؟
وقد وصل انتشار القهوة إلى جميع بقاء العالم، وبإنتاج قدره 400 مليار كوب قهوة سنويًّا، لتكون بهذا أحد أنواع المشروبات التي يعشقها الكثير من الناس.