1,332 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
قرأت لك طيلة حياتي، واختلفت معك كثيرا ولا أزال أصرُّ على رأيي وأنت تصرّ على رأيك، فأنت لا تبالي إلا بما تقوله وتصدّقه وتعتقد أنّه صوابٌ وكلام غيرك خطأ لا يحتمل إلا الخطأ، لم يحتملك خصومك ولم تحتملهم ولكنك كنت تسيطر عليهم بمؤلفاتك وعجائب نثرك حتى أذعنوا لك وهم على كرهك يتنافسون وألجمت ألسنتهم بقلم كحدّ السيف وصبر يقطع الصخر ولكنك رحلت ولابدّ منه وتركتنا مع الذكريات والمؤلفات نعبث بصفحاتها ونفتش عن روحك لعلنا نجدها في ثناياها.
ما زلت أذكرك في كل كلمة قرأتها لك وأنا صغير، فقد أدخلتني في عالم القراءة بشدة وأنا لا أفهم كثيرا مما تكتب، ولكني سُحرت بها، وتخيلت أنّي أنتَ وسافرت في 200 يوم العالم، وحلمتُ أني أنا الذي ركب القطار في الهند وأنا من قابل الدلاي لاما في جبال الهملايا فكم كانت كلماتك مؤثرة في ذلك القلب الصغير الذي فتّحتَ عينه على العالم حتى أصبح يبحر في بحر من الخيال بسببك فهل تذكرني.
مرّت سنواتٌ طويلة وأنا لا أزال أتصفّح عقلك كلّ صباح في عمودك الأخير وأعلّق عليه وأناقشك وأصوّب قولك وأعارضك بشدة وأنت تتقّبل مني بصدر رحب، لأنك تعلم أو لا تعلم أني لا أقرأ مقالة كاملة إلا لك لأني أجد متعة في تنوعك وأستغرب من شطحاتك وقفزاتك في القارات وجولاتك في علوم العلماء من فلاسفة وأدباء وشعراء ومخترعين وغيرهم من عرب وأعاجم ولم أقدر أن أحدد هويتك !! فمن أنت لتجمع كل هذه المعلومات واللغات وتناقش كبار الشخصيات وصغارهم وتدخلنا عوالم مختلفة كل يوم كما فعلت في جميع مؤلفاتك الغريبة والعجيبة والمسلية والمفيدة في آن واحد؟!
هل تعلم أنّ كتابك الرائع «في صالون العقاد كانت لنا أيام» وضعته قريبا من موضع رأسي عندما أخلد للراحة، ويسافر معي لأني أحب قراءته وأحب إعادة قراءته لأنك كتبته من قلبك عن شخصية عظيمة نفخر بكونه من هذه الأمة وكم وددت أني كنت حاضرا بعض هذه المجالس لأستمع إليك وأنت تناقشه وأنت تعلم أنه معجب بك، حتى أنه لم يردّ على سلامة موسى عندما كتب سلامة عنه مقالا بعنوان «الشعبية والملوكية» واتهم العقاد بأنه لا يمتُّ بصلةٍ إلى الشعب فتصدّيت أنت له فما كان من العقاد إلا أن ردّ عليك احتراما لفكرك وتجاهلا لموسى عام 1956م.
أتاني خبر نعيك وأنا أقدم تذكرتي لأصعد للطائرة وكنت لم أقرأ عمودك الأخير بعدُ فتلفتّ أبحث عن الصحيفة فلم أجدها حتى وصلتُ قرب بوابة الطائرة فأخذتها ومضيتُ وأنا أقلّب الصحيفة لأجد مقالك، حينها عادت بي ذكرياتي إلى الطفولة وإلى أحلامي وإلى جيل الكبار وأفقت من هذا الحلم على قولك في عمودك الأخير : لماذا لا يختار المؤلف نهايةً أفضل للبطل ؟ إنّ هذه عقدة المؤلف الذي لا يستطيع أن يدفع الموت عن نفسه فيتسلى بأن يحكم بالموت على الآخرين. كأنك كنت تحس بأن الرحيل قد أزف، وأنّ قلب مقالك الأخير بعمودك الأخير «لا أحبُّ أن أنشغل عن الكتابة» .. سيتوقف للأبد.
مرّت سنواتٌ طويلة وأنا لا أزال أتصفّح عقلك كلّ صباح في عمودك الأخير وأعلّق عليه وأناقشك وأصوّب قولك وأعارضك بشدة وأنت تتقّبل مني بصدر رحب، لأنك تعلم أو لا تعلم أني لا أقرأ مقالة كاملة إلا لك لأني أجد متعة في تنوعك وأستغرب من شطحاتك وقفزاتك في القارات وجولاتك في علوم العلماء من فلاسفة وأدباء وشعراء ومخترعين وغيرهم من عرب وأعاجم ولم أقدر أن أحدد هويتك !! فمن أنت لتجمع كل هذه المعلومات واللغات وتناقش كبار الشخصيات وصغارهم وتدخلنا عوالم مختلفة كل يوم كما فعلت في جميع مؤلفاتك الغريبة والعجيبة والمسلية والمفيدة في آن واحد؟!
هل تعلم أنّ كتابك الرائع «في صالون العقاد كانت لنا أيام» وضعته قريبا من موضع رأسي عندما أخلد للراحة، ويسافر معي لأني أحب قراءته وأحب إعادة قراءته لأنك كتبته من قلبك عن شخصية عظيمة نفخر بكونه من هذه الأمة وكم وددت أني كنت حاضرا بعض هذه المجالس لأستمع إليك وأنت تناقشه وأنت تعلم أنه معجب بك، حتى أنه لم يردّ على سلامة موسى عندما كتب سلامة عنه مقالا بعنوان «الشعبية والملوكية» واتهم العقاد بأنه لا يمتُّ بصلةٍ إلى الشعب فتصدّيت أنت له فما كان من العقاد إلا أن ردّ عليك احتراما لفكرك وتجاهلا لموسى عام 1956م.
أتاني خبر نعيك وأنا أقدم تذكرتي لأصعد للطائرة وكنت لم أقرأ عمودك الأخير بعدُ فتلفتّ أبحث عن الصحيفة فلم أجدها حتى وصلتُ قرب بوابة الطائرة فأخذتها ومضيتُ وأنا أقلّب الصحيفة لأجد مقالك، حينها عادت بي ذكرياتي إلى الطفولة وإلى أحلامي وإلى جيل الكبار وأفقت من هذا الحلم على قولك في عمودك الأخير : لماذا لا يختار المؤلف نهايةً أفضل للبطل ؟ إنّ هذه عقدة المؤلف الذي لا يستطيع أن يدفع الموت عن نفسه فيتسلى بأن يحكم بالموت على الآخرين. كأنك كنت تحس بأن الرحيل قد أزف، وأنّ قلب مقالك الأخير بعمودك الأخير «لا أحبُّ أن أنشغل عن الكتابة» .. سيتوقف للأبد.
نشر في البيان بتاريخ: 25 أكتوبر 2011