3,155 عدد المشاهدات
الكاتب:د. شهاب غانم
في نهاية العشرينيات من القرن العشرين، بدأت نشأة نوادي الإصلاح الأدبية في عدن؛ أولاً في مدينة عدن القديمة التي سمّاها الإنجليز «كريتر»؛ لأنها بنيت في فوهة بركان خامد، ولعلَّ النار التي ستخرج قبل الساعة كما جاء في حديث أبي داود: «نار تخرج من اليمن من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر» تكون منه. وكان مدير النادي في بدايته جدي لأمي رجل النهضة المحامي الصحفي محمد علي لقمان. وفي مدينة التواهي، وهي ميناء عدن الشهير الذي كان ثالث ميناء في العالم من حيث عدد السفن قبل إغلاق قناة السويس بسبب حرب 1967 أو ما عرفت بالنكسة، وكان رئيس النادي منذ إنشائه ولسنوات طويلة جدي السيد عبده غانم. ونشأ نادٍ ثالث في مدينة الشيخ عثمان، وكان رئيس النادي الشيخ أحمد محمد سعيد الأصنج مؤلف كتاب «نصيب عدن» رحمهم الله جميعاً.
كتب محمد علي لقمان مقالة عام 1941 بعنوان «شعراء عدن» في صحيفته الشهيرة «فتاة الجزيرة» التي سمح له البريطانيون بإنشائها في أول يناير 1940 بسبب الحرب العالمية الثانية، بعدما رفضوا قبل ذلك الترخيص لها، ومنها: «ويعود الفضل في وجود عدد من الشعراء في عدن إلى بعض النوادي الأدبية التي أسست فيها منذ أكثر من ستة عشر عاماً، فقد كان عندئذ يفد إلى المدينة شعراء وشخصيات بارزة من أبناء العرب، كالسيد عبدالرحمن بن عبيدالله، والشيخ على باكثير، والسيد عبدالله بن يحيى فتحتفل بهم النوادي ويسمع أعضاؤها القصائد الرنّانة في طلب المجد والحثِّ على خدمة الأوطان. وتكرَّرت هذه الحفلات وسرت عدوى الشعر إلى بعض الشباب حتى إليَّ؛ فقلت كما قال غيري شعراً لا قيمة له البتة، إلّا أنه خلق شعراء ثلاثة هم عبدالمجيد الأصنج والسيد محمد عبده غانم وعلي لقمان».
فهنا محمد علي لقمان يقول بوضوح: إنه نظم بعض الشعر ولكنه لم يكن شاعراً. وفي رأيي أنَّ النوادي لا تخلقُ الشعراء ولكن تُوجِد أهمَّ منصة لتقديم شعرهم.
وكان ممَّن يكتب شعراً في تلك الفترة الشيخ أحمد العبادي، الذي كان أستاذاً في معهد لتعليم الفقه والأدب في نادي الإصلاح العربي، ولكنه كان نظماً تقليدياً من شعر العلماء الذي يغلب عليه الوعظ. وكان من تلامذة العبادي في تلك المدرسة العلامة الشيخ محمد سالم البيحاني الذي كان ينظم الشعر الديني، وله قصيدة جميلة في الحنين إلى عدن بعد أن اضطر لمغادرتها بعد مجيء الحكم الشمولي. ومن تلامذة العبادي الشاعر عبد المجيد الأصنج والد الزعيم السياسي العدني عبد الله الأصنج، وكان شاعراً جيداً ولكن مقلاً، ولم يُنْشَر له ديوان حسب علمي، ورأيت له في صحف تعود للخمسينيات بضع قصائد منها قصيدة يهديها لوالدي، رحمهما الله، وله كلمات أغنية شهيرة لحَّنها وغنّاها الفنان العدني سالم أحمد بامدهف عنوانها «تغيبت يا ناظري». والعبادي كان أيضاً من أساتذة الشاعر الفحل محمد سعيد جرادة، رحمهما الله، ولم أرَ أيَّ دواوين أو كتب للعبادي ولكن جرادة نشر دواوين وكتب في الخمسينيات والستينيات. أمّا السيد عبدالرحمن بن عبيدالله والشيخ على أحمد باكثير المسرحي الشهير والسيد عبدالله بن يحيى الذين ذكرهم محمد علي لقمان في مقالته فكانوا من شعراء حضرموت في زيارات لعدن.
الوتر المغمور، وأشجان في الليل
أمّا أوَّل ديوان شعري يُنْشَر في عدن فكان “الوتر المغمور” عام 1944 لخالي ووالد زوجتي الشاعر علي محمد لقمان (1918- 1979)، وطبع الديوان في مطبعة «فتاة الجزيرة» صحيفة والده وأوّل صحيفة مستقلة في عدن، وكانت سياسية اجتماعية أدبية ثقافية. وكان الديوان متأثراً كثيراً بالشعر الرومانسي الذي كان ينشره شعراء حركة أبوللو، وشعراء المهجر وحركة الديوان، علاوة على تأثر علي لقمان بأحمد شوقي والمتنبي والأندلسيين، وبأستاذه في المدرسة الثانوية وزوج أخته والدي محمد عبده غانم الذي كان ينشر قصائده في «فتاة الجزيرة»، ونال جائزة الشعر الأولى في الجامعة الأمريكية ببيروت من بين شعراء غدا بعضهم لامعاً مثل عبد المنعم الرفاعي رئيس وزراء الأردن الأسبق، كما نال غانم جوائز في كلِّ المسابقات التي كانت تقيمها هيئة الإذاعة البريطانية خلال سنوات الحرب العالمية الثانية. ولكن غانم انشغل بوظائف عليا في التربية والتعليم فتأخّر قليلاً في نشر ديوانه، بينما استفاد تلميذه علي لقمان من النشر في دار يملكها والده، رحمهم الله جميعاً، وكان غانم ولقمان يعرضان قصائدهما على بعض في تلك المرحلة. وكان لقمان أوَّل خريج عدني في الصحافة، وتخرَّج في جامعة القاهرة، وكان من مدرسيه وأصدقائه مصطفى أمين وشقيقه علي أمين.
ولو نظرنا إلى عناوين قصائد «الوتر المغمور»، لرأينا التوجُّه الرومانسي الجديد جلياً ومنها: كرمة الشعر، إيلين، التمثال، تأملات حائرة، الخيال الشارد، ذات الثوب الأزرق، الإيرلندية العازفة، أنفاس عاشق، الوتر المغمور وصلاة قلب، وهذه الأخيرة صارت أغنية عدنية معروفة لحّنها المرشدي (محمد مرشد ناجي) ومنها:
هو قلب عصف الشوق به فترامى في حنين وأنين
ينشد الأزهار من أوصابه نغمة فيها تباريح السنين
من دعاء وصلاة
وصبابات وآه
أترى الحب الياه؟
أم هو السر الدفين؟
وفي قصيدة بعنوان «عدن – هذا الوطن العربي» يقول لقمان مخاطباً الاستعمار كما يبدو:
خطرات قدك أم رماح أبيك
مزقن قلب العاشق المنهوك؟
نشر الصبا في مقلتيك شعاع
نشر الضياء الحب في واديك
يا بنت معتنق الصوارم والقنا
تالله ما هذا الغليظ أبوك
وقد نال الديوان الكثير من التقريظ، خصوصاً أنه كان أول ديوان معاصر من اليمن وممَّن قرضه الشعراء محمد محمود الزبيري وزيد الموشكي ومحمد حامد البار ومجلة «المستمع العربي» التي كانت تصدرها هيئة الإذاعة البريطانية.
وقد أصدر لقمان في العام التالي ديواناً بعنوان «أشجان في الليل» عام 1945 في دار فتاة الجزيرة، تغلب عليه النزعة الكلاسيكية الحديثة وبعض قصائد المناسبات، ومن عناوين القصائد: استقبال العام الهجري عام 1363، تكريم صديق، ذكرى شوقي، أبو العلاء المعري، العراق في الحرب «أي العالمية الثانية» الشعر والمجتمع وقصيدة بلا حجاب ومنها:
هذا مقامك تحت الشمس يا وطن مذمم، يضحك الأحرار، ممتهن
كل آفاق ولم تنهض وأيقظه صوت وأقعدك التدجيل والوسن
من كل تدليس أفاك عمامته شر يضيق بما يستحدث الزمن
أو كل ذي غرض فينا مصالحه كروحه سفلت والشعب ممتحن
والناس صنفان: أرواح منابتها نور السماء، وبعض طينها الوطن
وقد افتتح لقمان ديوانه الذي أهداه لوالده بصورة له وأبيات وجهها للذين تباهوا:
على الشاطئ المسحور
ثاني شاعر من أبناء عدن ينشر ديواناً فيها كان والدي د. محمد عبده غانم (1912 – 1994)، رحمه الله، في مطبعة فتاة الجزيرة أيضاً بعنوان «على الشاطئ المسحور» عام 1946. أمّا القسم الأول فكان يطفح بالأسلوب الرومانسي الذي كان قد سبقه إليه شعراء مدرسة أبوللو، ومدرسة الديوان وشعراء المهجر، وقبلهم الشعراء الرومانسيون الأوروبيون، وقد قرأ غانم شعرهم بالإنجليزية مباشرة، وبالفرنسية أيضاً. ويقول الناقد والشاعر اليمني المعروف د. عبد العزيز المقالح عن غانم: «إنه – من دون شك – مؤسِّس المدرسة الرومانسية في شعر اليمن المعاصر، إذا لم يكن في اليمن كله ففي جنوبه على الأقل». ومن عناوين قصائده في القسم الأول الذي سمّاه «الخافقات» وأهداه لحبيبته نقرأ: أنشودة القبل، السر المباح، الهوى والليل، وأنين التي ترجمها المستشرق الشهير آربري إلى الإنجليزية ومنها:
لستِ تمشين على الأرض ولكن فوق قلبي
تلك أنغام خطىً قد مازجت روحي ولبّي
نقِّلي الخطو كما شئتِ ولا ترثي لصبِّ
ضاقَ بالآلام والآمال في بُعْدٍ وقربِ
× × ×
ما براكِ الله مثل الناس من لحمٍ وعظمِ
أنتِ إشعاعُ من القدس لقلبي المستحمِّ
جمع اللهُ بكِ الألوان في أبدع نظمِ
وأرانا كيف يجلو آية الحسن الأتمِّ
ومنها:
لست أدري ما الذي تخشين مني لست أدري
وأنا الشاعر لا أرضى لمخلوقٍ بضرِّ
أنا لولا لوعتي صنــتك في قلبي كسرّي
ومنعتُ القلبَ أن يخفق حتى لا تضري
أمّا في القسم الثاني من الديوان، والذي سمّاه «المحلقات» وأهداه للماديين في وطنه، فقد حشد القصائد التأملية والوطنية وشعر الهم العام. ومنه قصيدته الرمزية الشهيرة «حديث الجماجم» التي تروي حكاية شاعر ذهب إلى مقبرة هرباً من ضجة العالم، وهناك غلبه النعاس فرأى في الحلم جمجمتان تختصمان واحدة لسيدة والأخرى لخادمة كانت تعمل لديها أتناء حياتهما ويدور بينهما حوار شائق منه:
قالت: كفى يا قدوة الأكملين
بأنفك المعوج لا تفخري
قد زال ذاك الأنف في الزائلين
وضاع مجد المال والعنصر
نحن هنا عظمان لو تعقلين
لا فضل للعظم على آخر
بل ربما كنت بما تعملين
أحقر في الخُبْر من المنظر
لا تجهلي فالويل للجاهلين
إذ يلبسون الحق بالمنكرِ
وقد نشر غانم في القسم الأخير من الديوان الذي سمّاه «السابقات»، وأهداه إلى والده الذي يفرح برؤية ابنه الشاعر سباقاً، ست قصائد نال فيها جوائز؛ الأولى كانت قصيدته الشهيرة «ابنة الراقصة» التي فاز فيها بالمسابقة التي عقدتها جمعية العروة الوثقى في الجامعة الأمريكية ببيروت عام 1936، والقصائد الخمس الأخرى شارك فيها في مسابقات شعرية عقدتها هيئة الإذاعة البريطانية أثناء سنوات الحرب العالمية الثانية ونال فيها جوائز عالمية.
بقايا نغم
الشاعر الثالث الذي نشر ديوانه الأول بعد لقمان وغانم، هو الشاعر الرومانسي لطفي جعفر أمان (1928- 1971) وقد نشر ديوانه هذا في مطبعة فتاة الجزيرة أيضاً عام 1948 وكان عمره 20 عاماً فقط، وقدم للديوان والدي محمد عبده غانم. وكان لطفي قد تخرج للتو بشهادة دبلوم من السودان، وعمل في مدرسة السيلة الابتدائية بعدن بعد عودته، ودرسني مادتي اللغة العربية والتاريخ، وكان أستاذاً متميزاً، ثمَّ درسني في كلية عدن مادة التاريخ لمدة عام أيضاً. بقي لطفي رومانسياً في مشواره الشعري ورحل مبكراً في سن الثالثة والأربعين، ورثاه والدي بقصيدة جميلة طويلة. وقد تأثّر لطفي بشعراء أبوللو ومنهم الشاعر السوداني التيجاني يوسف بشير الذي اطلع على ديوانه إشراقة في الخرطوم، كما يبدو أنه كان شديد الإعجاب بغانم ورحَّب بديوانه «على الشاطئ المسحور» بقصيدة تدل على أسلوب لطفي القريب من التقليدية في بداياته ومنها:
يا شاعراً كلمــا رنـت قيــاثره
حسبت أنَّ مآسـى الكون لم تكـن
هل صفّق الروض إلا كلما خطـرت
في سوحه نغمة من عودك الفطـن
وهـل تبسَّـم زهر مال من طـرب
إلا وألفــاك غريداً على فنــن
تـاالله ما فاض شـعـر أنت قائله
إلا وخلْته لحـناً في فـم الزمـن
سجا بـي الليل إلا نغمـة طفـرت
كأنها جرس خطو الغادة الحـسن
هفت من (الشاطئ المسحور) راقصة
نشوى تعربد في قلبي وفي أذنـي
وودعتني على لقيـا فقلـت لـهـا
زفي سلامي إلى الأحباب في عدن
ولنقرأ عناوين بعض القصائد الرومانسية في «بقايا نغم» الذي رسم صورة غلافه بنفسه، وكان يتشكّل من غادة عارية وعود وكتاب وكأس، وقد كان لطفي موهوباً في الرسم: النغم السجين، قلب من رماد، أسداف، وراء الضباب، ليلة في العمر، صدى حب، وقصيدة “الصوفي المعذب” التي أهداها إلى روح التيجاني يوسف بشير. يقول في قصيدة «البولندية الحسناء» الذي يبدو فيها تأثره بعلي محمود طه في قصيدة «القمر العاشق»:
مقامك في سماء الله لا في هذه الأرض
جمال أنت لم يخلق سوى من نوره المحض
يزينك من هوى عيسى صليب طاهر الومض
على نهدين مسحورين في صدرهما البض
خذيني إن بدا صدرك في عيني ولم أغض
وإن لفت يدي نهديك في رفق ولم ترضي
وإن طافت بي الأشواق في مخدعك الغض
وأنت مفاتن عريت لنور القمر الفضي
فلي في حبك العطري قلب ساكر النبض
ولكن في الديوان قصائد عدة تتعلّق بمناسبات مثل ميلاد مجلة أفكار لمحمود لقمان، وتحية سيف الحق إبراهيم ابن إمام اليمن عند إنشاء الجمعية اليمنية الكبرى التي كانت تطالب الإمام بحكم دستوري، ومثل مرثاته في سلطان لحج.
وهكذا نلاحظ التوجُّه الرومانسي في الدواوين العدنية الأولى مع الاهتمام بالهم الوطني لثلاثة شعراء هم في رأيي أبرز شعراء عدن في القرن العشرين وانضم إلى صفهم الأول بين شعراء عدن الشاعر محمد سعيد جرادة، كما ظلَّ الأربعة طوال حياتهم من أهم شعراء اليمن. وفي هذا المقال نلاحظ أيضاً دور مطبعة فتاة الجزيرة في نشر تلك الدواوين.