3,079 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
في تاريخ دولة الإمارات القديم والحديث أخبارٌ كثيرة وسيرٌ لأعلام عاشوا في هذه الأرض الطيبة ضاع كثير منها، ولم يبقَ منها إلا النزر القليل؛ بسبب قلة التدوين وعدم المحافظة على المخطوطات والوثائق القديمة من رسائل ومبايعات من عقود طويلة، ولما تولى والدنا الشيخ زايد الحكم أسَّس مركز الوثائق في نهاية الستينيات، لجمع ما لدى الناس من هذه الوثائق المهمة، ولكن لم يسارع الأهالي لحفظ ما تبقّى منها، بل أبقوها في البيوت، وبسبب تغيُّر أحوال المواطنين الاقتصادية، وزيادة الخيرات بفضل الله ثمَّ بجهود حكومتنا الرشيدة حينذاك، بدأ الناس ينتقلون من بيت إلى بيت جديد، وبسبب رحيل أصحابها خلال العقود الماضية تلفت كثير من هذه الوثائق، ولم يبقَ مما كان قليلاً إلا أقله، ولا يزال الإخوة والأخوات يضنون على الأرشيف الوطني بعدم تسليمهم ما لديهم، وإني لأخشى أن يصيبها ما أصاب الوثائق والمخطوطات الأخرى التي انتهت.
أسف على التفريط
وأذكر هنا ما ذكره القاضي الفقيه سعيد بن محمد بن جبيهاء الظاهري، رحمه الله، عند ذكره لإحدى قصائد الشيخ محمد بن صالح المنتفقي، رحمه الله: «لما وقفت على منظومة الشيخ محمد بن صالح المنتفقي البصري الساكن بندر الصير (رأس الخيمة) في زمان الإمام سيف بن سلطان اليعربي، وقد رثاه أيضاً بمرثية في بابها، وله أيضاً منظومة في الوعظ وغيرها كثير، ولكنه ذهب بقلة الاعتناء، وكم من كتب خطية وخطب ورسائل وقفنا عليها ولم نحفظ شيئاً منها، للأسف كل الأسف على التفريط في ذلك، وكلنا في حاجة إليه لو كان باقياً في أيدينا».
يظهر لنا من هذه الكلمات أسف الشيخ ابن جبيهاء على ما ضاع في وقتهم من الرسائل والوثائق، وتأسفه على ما تمَّ التفريط به، وهذه الكتابة قد تكون في الخمسينيات أو قبل ذلك، يدل عليه ذكره بندر الصير ولم يذكر رأس الخيمة، وإن كان الاسمان شائعين، ولكن في الكتابات القديمة والأشعار يكثرون ذكر الصير، فإذا كان الأمر كذلك في وقته من قلة المال وضعف الأحوال، فما بال الوثائق المهمة تضيع في عصرنا كما ضاعت أخواتها؟!
وقد يسأل قارئ من هو القاضي سعيد بن جبيهاء؟ وما سيرته؟
الجواب: لا توجد لدينا معلومات كثيرة، اللهمَّ إلا ما تبقّى من شعره الذي اعتنى بجمعه ونشره الدكتور خالد بن سالم اليبهوني، وقدَّم الكتاب السيد سيف نجل الشيخ سعيد بن جبيهاء، ثمَّ ألحقت المقدمة بترجمة مختصرة جداً للشيخ كتبها بقلمه، سأذكر لكم بعضاً منها، ثمَّ أنتقل إلى ذكر ما جاء في ديوانه رحمه الله.
رحلة الحج على الجمال
وإني لأعجب من نفسي كيف كنت أزور في العين بعض العلماء الوافدين من دول أخرى، ولم أنتبه إلى وجود الشيخ ابن جبيهاء بيننا، الذي يعدُّ واحداً من أعلام الأدب والشعر الذين لهم بصمتهم في الساحة الأدبية الإماراتية، كما أنَّ هناك غيره الذين غفلنا عن زيارتهم والأخذ من علومهم، وتسجيل أخبارهم وسيرهم، ولم تكن الحياة حينذاك كما نعيشها اليوم لسهولتها وقلة مشاغلها، فلم تكن فيها المذهلات من المشاغل اليومية والملهيات من البرامج الرقمية والجوالات الذكية وما فيها من حسابات اجتماعية تذهل المرضع عن وليدها. أقول ذلك ونفسي تتقطَّع حزناً على ما فاتني من العلم.
نشأة الشيخ ودراسته
يقول القاضي سعيد بن محمد بن عبد الله بن جبيهاء الذي ولد في العين عام 1905 مترجماً لنفسه: «تلقيت تعليمي في كل من العين ودبي وحفيت، وكنّا ندرس القرآن الكريم والنحو والفقه والميراث والمذهب المالكي وتفسير القرآن وعلم الفرائض (المواريث)، ولم ندرس هذه العلوم في وقت واحد، بل على مراحل، وهذه الدراسات كانت لقلة من الناس، وأمّا معظمهم فكانوا يكتفون بقدر يسير من القرآن الكريم لصلواتهم».
قلعة الجاهلي – العين
قلتُ: لا يوجد تعليم غير هذا التعليم في ذلك الوقت في بدايات القرن العشرين، فلم يكن غير تعليم الكتاتيب وعلوم الفقه واللغة، ولم يوجد التعليم النظامي إلا في منتصف الخمسينيات، وإن كانت هناك محاولات للتعليم شبه النظامي كالمدرسة الأحمدية بدبي، ولكنها بقيت على التعليم الديني فقط، ولم تكن تَسع لكثير من الطلبة، ولا تستقبل الطالبات كما تفعل المدارس النظامية.
يكمل الشيخ ابن جبيهاء فيصف كيفية التدريس في مدرسة الكتاتيب التي تعلَّم فيها فيقول :
«كانت الدراسة على نظام المطاوعة، حيث يقوم المطوع بتدريس بعض سور القرآن الكريم، وكان مكان الدراسة تحت النخيل، ثمَّ درست على يد الشيخ علي بن سعيد الحادثي في بيته الكائن في حارة المطاوعة شمال الصناعية بالعين الآن، وختمت القرآن الكريم».
قلت: المطاوعة جمع مطوع، وهو معلّم القرآن للصبية دون العالم، فكأنهم يطوعون الصغار على حفظ القرآن وتعلُّم مبادئ العلم، ثمَّ شاع المصطلح فأصبح يطلق على كل متدين الآن، وفي قول الشيخ نتعلَّم تحت النخيل دليل على حرص الناس على تعلُّم العلم وتدريس أبنائهم ولو كان بغير مدرسة مبنية بأحدث المواصفات كما نراها هذه الأيام، ولهذا أثمر التعلم تحت الشجرة ظهور علماء قضاة من أمثال ابن جبيهاء، رحمه الله، في حين لا نرى مدارس اليوم تظهر لنا أمثال أولئك الراحلين العلماء، كذلك قوله: «درست في بيته» دليل على كرم المعلمين ورحمتهم بالطلبة، حيث كانوا يستقبلون التلاميذ في بيوتهم لوجه الله نشراً للعلم ولتقليل الأمية والجهل في بيوتهم، بل يذكرون لنا بأنَّ بيوتهم وطعامهم كان عوناً للطالب العطشان للعلم.
ضياع الوثائق
وأنا أكتب هذه المقالة أتذكَّر آلاف الوثائق والمخطوطات التي كانت موجودة بيننا يوماً ما وزالت إلى الأبد، أو أخفاها أحدهم، ولا ندري في أي صندوق من صناديقه دسّها فيه؛ فلا هو استفاد منها ولا أعطاها لمن يحفظها له ويتيحها للباحثين حتى يرحل هو عنها، وقد تنتهي معه محروقة أو مرمية أو مسروقة لأيدٍ أخرى تخفيها إلى ما شاء الله. وكم من قصصٍ مرَّت بي تدمى لها القلوب وتدمع من أجلها العيون؛ لأنَّ ثقافة التوثيق ليست ثقافة لكثير من الناس في شعبنا الكريم، فقد ضاعت الوثائق والصور والمبايعات والكتب وغيرها مما لا يحصيه مُحصٍ غير الله.
ولهذا يقول القاضي ابن جبيهاء عن هذا الأمر أيضاً، ويشير إلى ضياع المخطوطات والأشعار: «ثمَّ إني وجدت للشيخ محمد بن سعيد الفضولي ساكن ببلد الجاهلي من ناحية وادي عاهن بحجر بني عيسى قصيدة له متمزقة ولم يبقَ منها إلا أربعة أبيات، ويقال عنها إنها طويلة». قلت: هذا حال كثير من وثائقنا لم يبقَ منها إلا ما ندر، ومنها ما تركه القاضي ابن جبيهاء، فلم نجد من أعماله إلا ديواناً صغيراً فيه قصائد قليلة من الوعظ وفتاوى النوازل التي أثبتت فيه لتدلَّ على علم غزير واهتمام بالمحافظة على طرق الأولين في التدريس والإفتاء عن طريق النظم، حيث يصل السؤال شعراً ويجيب عنه المفتي بمثله؛ لأنَّ الجواب نثراً معيب عند العلماء، وهكذا كان يفعل ابن جبيهاء رحمه الله.
مناهج التعليم
وقبل الحديث عن هذا الديوان القيم نكمل حديث القاضي ابن جبيهاء عن صباه وتعليمه فيقول: «كنا نتلقّى تعليمنا تحت النخيل أو المساجد أو في بيوت المدرسين، وكان العقاب الضرب لمن لا يحفظ، والثواب هو الثناء على الطالب»، ثمَّ يذكر مناهج التعليم في تلك الأيام فيقول: «كنّا ندرس القرآن عن طريق التلقين، أمّا الإعراب فكان مختلفاً من مكان إلى مكان آخر؛ فأهل دبي مثلاً كانوا يدرسون الإعراب حرفاً حرفاً». قلت: حديث الشيخ يدل على اختلاف أساليب التعليم بين أهالي الإمارات، ويظهر تميُّز معلمي إمارة دبي بسبب وجود المدرسة الأحمدية وكبار العلماء فيها، ولهذا قرَّر القاضي ابن جبيهاء السفر إلى دبي عند أخواله لإكمال تعليمه، يقول عن ذلك: «وبعد أن ختمت القرآن الكريم رحلت إلى دبي لتلقي مزيدٍ من العلوم والمعارف، وأقمت في منزل أخوال والدي، وبقيت مدة من الزمن، وخلال هذه الفترة التقيت الشيخ محمد نور سيف وهو من سكان دبي فتعلَّمت على يديه الفقه المالكي والنحو والميراث والصرف، وكان مكان الدراسة في مسجد بندر ديرة دبي». قلت: ما ذكره القاضي عن تعليمه في دبي على يد الشيخ محمد نور يدل على أنَّ ابن جبيهاء التحق بالمدرسة الأحمدية ولم يذكرها لقوله إنه درس في بندر ديرة والأحمدية في ديرة، واستخدام الشيخ مفردة بندر هذا هو الاستخدام القديم؛ فيقولون بندر ديرة وبندر دبي وبندر لجنة، وهكذا، وتعني مقر التجار أو المرفأ.
ثمَّ يتابع القاضي فيذكر قصة عن مجلس من مجالس الشيخ محمد نور وهم في مجلس التعليم فقال: «وأذكر أنه ذات مرة زارنا في المسجد رجل من البحرين وسألنا سؤالاً هو: ما الاسم الذي لا يثنى ولا يجمع ولا ينصرف؟ وعندما عجزنا أجاب شيخنا بأنه (الله) سبحانه وتعالى، وبعد ذلك هاجر شيخنا إلى مكة المكرمة».
هجرة محمد نور لمكة
لأسباب عدة سافر الشيخ محمد نور إلى مكة وبقي فيها حتى وفاته، رحمه الله، ولكنه لم ينقطع عن زيارة أهله في دبي وهو ابنها البار. ومن كلام ابن جبيهاء نعلم أنه أخذ العلم في الثلاثينيات من القرن العشرين، لأنَّ هجرة الشيخ محمد نور كما تذكر المصادر إلى مكة المكرمة كانت عام 1948. ولكن التاريخ الذي يذكره الشيخ ابن جبيهاء يدل على أنه هاجر قبل ذلك، والدليل ما ذكره في مذكرته فقال: «وفي عام 1359 هجرية (1940) عندما ذهبت للحج في وقتها على الجمال زرته مراراً هناك». قلت: هذا يدلُّ على أنَّ الشيخ محمد نور سافر آخر الثلاثينيات، وكان حج ابن جبيهاء وعمره 35 تقريباً، ويكون من ذكر أنه هاجر في سنة 1948 مخطئاً، وسوف أصحح ما ذكرته في بعض كتاباتي عن سيرته.
هذا ولم يفت الشيخ ابن جبيهاء أن يذكر من كان يعلم الطلبة في العين فقال: «بعض الذين يقومون بالتدريس في مواقع أخرى من العين؛ منهم الشيخ علي بن سعيد الحادثي وابن سمسوم وطارش بن عبد الله وعبيد بن علي وعفرة بنت بروك».
هذا وكنت أبحث كثيراً عن سبب تسمية منطقة العين بتوام في الجاهلية والإسلام فلم أَجِد تفسيراً مناسباً، حتى وجدت ديوان القاضي ابن جبيهاء، فقال عن سبب التسمية: «تحدثنا كتب التاريخ القديم أنَّ مدينة العين كانت تسمّى (توام) وسبب هذه التسمية أنها كانت تتكوَّن من عدة أفلاج؛ كل فلجين يأتيان من جهة ويلتقيان عند نقطة واحدة، فمثلاً: العين والداوودي توأمان، القطارة والجيمي توأمان، المعترض والجاهلي توأمان، وهيلي والمسعودي كذلك».
وهذا الفهم لم يسبقه أحد إليه، ولم يذكره أي عالم من الجغرافيين لا في القديم ولا الحديث، مما يدل على علمه الواسع واطلاعه.
ديوان ابن جبيهاء
المتصفح لديوان ابن جبيهاء يعرف مباشرة أنه كان يكثر من كتابة الأشعار الوعظية والفتاوى الفقهية، ويحب تخميس الأشعار على طريقة الأولين، ويكتب على منوال ما يعجبه من أشعار من سبقوه، وقد قرأت الديوان عدة مرات، فوجدت أنَّ الشيخ كان يكتب الشعر موزوناً صحيحاً سليم الإعراب والصرف؛ لأنه نحوي خبير في اللغة مطلع على الأدب، وله مكتبة كبيرة يقرأ منها العلم في ذلك الوقت الذي تندر فيه الكتب بسبب بُعدنا عن أماكن بيع الكتب والطباعة، وقلة ما في اليد، فإطعام العيال أولى من شراء الكتب في نظرهم، ولكن العالم سيبذل الغالي والنفيس لاقتناء كتب العلم، وإن سألت لمَ يكثر اللحن والكسر في وزن الشعر؟ فسأجيب بقول الشاعر:
وهم نقلوا عني الذي لم أفهْ بهِ
وما آفة الأخبار إلا رواتها
وإن سمح لي الشاعر فسأقول: وما آفة الأشعار إلا رواتها؛ لأنَّ من روى أشعار القاضي أو كتبها عنه لم يكتبها بالشكل الصحيح، فنقلت مليئةً منهم بالأخطاء النحوية والعروضية، وأقوم الآن بتصحيح ما أقدر على تصحيحه، ولعلي أخصِّص مقالة أخرى لدراسة أشعاره إن شاء الله.
بعد مرور سنوات العمر انتقل القاضي سعيد بن جبيهاء إلى جوار ربه مساء الجمعة 22 من إبريل 2001، رحمه الله وأدخله فسيح جناته.