1,601 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
منذ حوالي عقدين من الزمن كنت أتحدَّث مع صديق لي في إحدى جامعات بريطانيا، فجاء إلينا رجل أوروبي يعمل في نفس الجامعة، ونحن لا نعرفه، فقال لنا: هذه اللغة التي تتحدَّثون بها جميلة ولها وقع خاصّ في نفسي، فمن أين أنتما؟ فقلنا له: نحن عرب من الخليج، فابتسم وقال: لغتكم مميزة جدًّا، ثمَّ انصرف، وبعد فترة أخبرت صديقي الشاعر الدكتور سعيد الحمالي بهذه القصة، فقال لي: إنَّ القصة نفسها تكرَّرت معي في بلدان أوروبية عدة، فهم عندما يستمعون إلى كلامنا يأتون إلينا ويقولون نفس الجملة، فقلت: سبحان الله! انظروا كيف يكون وقع هذه اللغة وتأثيرها في نفوس قوم هم في أرقى منازل الحضارة اليوم، في حين نجد بعضاً من دعاة التغريب يتنكَّر للغته ويحتقرها، وينادي باستبدالها بالإنجليزية والفرنسية من غير ذنب، سوى أنها لغة هذا الدين العظيم، وأنها تذكره به.
يوجد في الكثير من الأدبيات مقالت عن شخصيات وأسماء مهمَّة أثنت على اللغة العربية وجمالها، ومن بينهم عميد الأدب الألماني “يوهان فولفغانغ فون غوته” (1749/1832) الذي تعلَّق كثيراً بشعر المتنبي والشعراء العرب الأوائل، فأحبَّ اللغة العربية وآدابها واهتمَّ بها، ومن عشقه هذا قال عن العرب ولغتهم وشعرهم: “نجد عند العرب كنوزاً رائعة في المعلقات، وإنَّ العرب يولدون شعراء وينشؤون كذلك”، وفي ديوانه “الشرقي للمؤلف الغربي” نصٌّ جميلٌ ومؤثِّرٌ ووصفٌ رائعٌ للعرب يدلُّ على منزلتهم عنده، وعلو قدر لغتهم وأشعارهم، فيقول ذاكراً المنن الأربع: “لكي يسعد العرب في صحرائهم راتعين في جمال الفضاء، حباهم الله ذو الخير أربع منن: العمامة وهي زينة أروع من التيجان كافَّة، ثمَّ خيمة يحملونها من مكان إلى مكان حتى يعمِّروا بها كلَّ مكان، ثمَّ حسام بتَّار وهو أمنع من الحصون وشاهق الأسوار، ثمَّ القصيد الذي يؤنسهم ويفيدهم ويستهوي أسماع الغواني”.
ولنستمع أيضاً إلى كلمة الفرنسي إرنست رينان (1823/1892) وهو من كبار مؤرخي وكتَّاب فرنسا، وكان لا يخفي عداءه للإسلام وأهله ومع هذا يقول عن العربية: “من أغرب ما وقع في تاريخ البشر انتشار اللغة العربية في العالم، فقد كانت غير معروفة، فبدأت فجأة في غاية الكمال سلسة غنية كاملة، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها″.
قلت: وَصْفُ رينان للغتنا هو أبلغُ من أيِّ وَصْفٍ قد قرأته في حياتي، فلغتنا ليس لها طفولة ولا شيخوخة، بل وُلِدَت شابَّة فاتنة ساحرة، وستبقى هكذا إلى يوم الدين.
ومن إيطاليا يظهر لنا العالم المؤرخ اللغوي كارلو ألفنسو نلينو (1872/1938)، وهو مستشرق منصف له كتاب عن تاريخ الآداب العربية من الجاهلية حتى عصر بني أمية، وكتابه هذا مجموعة من محاضراته التي ألقاها في الجامعات الإيطالية، ثمَّ طُبِعَ بعد وفاته، وقد قال عن لغتنا الخالدة: “اللغة العربية تفوق سائر اللغات رونقاً، ويعجز اللسان عن وصف محاسنها”.
قلت: عجباً! كيف تشهد الدنيا بتفوق لغتنا على جميع اللغات، ويأتي من لا خلاق له ولا حياء ويعيبها، ويتخلَّى عنها من أجل لغة إنجليزية أجنبية تشبه في صوتها صوت آلات المصانع إذا تحركت، فلا رونق لها ولا جمال، ولا تاريخ يذكر!
أمَّا الألمانية زيغريد هونكه (1913/1999) التي عاشت طيلة حياتها تهيم بالشرق، وتدافع عن العرب وتاريخهم، وأثبتت للعالم كيف أنقذ العرب العلوم من التخريب، وابتكروا كلَّ ما تقوم عليه الحضارة العالمية، وبيَّنت من غير خوف كيف سرق الغربيون كتب المسلمين، وغيَّروها بأسمائهم بالأدلة القاطعة في كتابها الخطير “شمس الله تسطع على الغرب”، فتقول: “كيف يستطيع الإنسان أن يقاوم جمال هذه اللغة ومنطقها السليم وسحرها الفريد؟! فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صرعى في حبِّها من سحر هذه اللغة”.
فقلت: والله إني عشت حياتي كلها، وأنا مسحورٌ بها وأنا عربيٌّ، فكيف من درسها من الأعراق الأخرى وقارنها بلغته؟! لا شكَّ أنه سيقول مثل ما قالت هونكه وأكثر.