الاحتفال بالربيع في مدينة حمص

Business الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مجلة مدارات ونقوش – العدد 18 - 19

 1,892 عدد المشاهدات

الكاتب : د.غازي مختار طليمات

الاحتفالُ بمَقْدِمِ الربيع عيدٌ شعبيٌّ موغِل في القِدَم، وكانت شعوب الشرق العريقة التقاليد تحتفلُ به في 21 آذار/ مارس، أو في مطلع نيسان/ إبريل من كلِّ عام ميلادي. وربما كان له ارتباطٌ ببعض الشعائر الدينية الوثنية. ومن هذه الشعوب انتقل إلى الشعوب الأخرى التي تَدين بالأديان السماوية.

كان كلُّ شعبٍ من الشعوب يسمّيه تسميةً خاصَّة. لكنَّ أسماءه كلَّها تتقارب معانيها في الدلالة على تجدُّد الحياة في الطبيعة بعد فصل الشتاء؛ فالكرد والفرس سمّوه «النيروز/ اليوم الجديد»، والأمازيغ في المغرب سمّوه «ثافسوث/ تفتُّح الأوراق»، وشعوب الهند ونيبال وباكستان سمّوه «هولي/ تعدُّد الألوان»، والآشوريون سمّوه «خابيسان/ أول نيسان»، والبابليون سمّوه «أكيتو/ عيد رأس السنة البابلية»، وأهل الكتاب من اليهود والمسيحيين يسمّونه «عيد الفصح»، والمصريون يسمّونه في العصر الحاضر «شم النسيم».

أمّا مدينة حمص السورية، فإنَّ أهلها المعروفين بصفاء النفوس ونقاء السرائر والحفاظ على الفطرة، قد تميَّزوا من كلِّ الشاميين بل العرب والمسلمين بتوديع الشتاء واستقبال الربيع طوال سبعة أسابيع من نهاية فبراير/ شباط إلى بدء نيسان/ إبريل من كلِّ عام. وخصَّصوا يوم الخميس من كلِّ أسبوع لهذا الاحتفال، ولذلك عُرِفَت هذه الأيام باسم «الخمسانات جمع خميس على غير قياس»، وجمع خميس في المعاجم: أخمسة وأخامس وأخمساء. فما هذه الخمسانات الحمصية؟

أوَّلها الخميس الضائع

 وثانيها خميس الشعنونة

 والثالث خميس المجنونة

والرابع خميس القطط. وتقع هذه الأخمسة الأربعة

في آخر شهر شباط، وطوال شهر آذار؛ أي في مناخ ثائر لا يخلو من عصف الرياح، وقصف الرعد، وهطول المطر. ولهذا يشقُّ فيها الاحتفال، ويلزم أهل حمص دورهم حتى يعتدل الجوُّ ويهدأ غضب السماء على الأرض.

 

حلوى الخميس في حمص
حلوى الخميس في حمص

 

وخامس الأخمسة يسمّى خميس النبات أو خميس القلعة. وفيه يعتدل الجوُّ وتصفو السماء، ويبدأ آذار بالتخلي عن غضبه، ويتيح لأهل حمص أن يتمتَّعوا بمَقْدِمِ الربيع؛ فيخرج المحتفلون به بعد عصر الخميس إلى المتنزَّهات، ويقبعون جماعاتٍ قرب جماعاتٍ في الطرق المحيطة بقلعة حمص التاريخية، فيقصفون ويمرحون كما يفعل أهل مصر في عيد شمِّ النسيم. ومراسم الاحتفالية في هذا الخميس بقيت حيَّة حتى مطلع القرن العشرين، ثمَّ أُلْغِيَت حينما دخل الفرنسيون مدينة حمص سنة 1920 واحتلُّوا القلعة.

والخميس السادس، وهو الوحيد الذي احتفظت به الحياة الواقعية في حمص حتى اليوم، واختزنت الستة الأخرى في ذاكرة الشيوخ، يسمّى خميس الأموات أو خميس الحلاوات. وفيه يصنع أهلُ حمص أصنافاً كثيرة من الحلوى، لا تصنعها المدن السورية الأخرى.

وأشهرُ الأصنافِ التي تُصنَع: الحلاوة السمسمية المصنوعة من السمسم والسكر، والحلاوة الجوزية المصنوعة من المكسرات، كالجوز واللوز والبندق والفستق، والبشمينة المصنوعة من الدقيق المحمّص بالسمن العربي والسكر، والحلاوة الخبزية، وهي أشهر الأصناف التي يزدهي بها هذا الخميس، والمصنوعة من رقائق العجين المقلية بزيت السمسم والمغموسة في السكر والناطف، والملونة بألوان زاهية. ويعرضها الباعة أهراماً ومخروطاتٍ تغري بأشكالها وألوانها الزبائن، فيمتارون منها ومن الأصناف الأخرى كلَّ ما يشتهون، ويزورون المقابر، ويتصدقون بما امتاروا على الفقراء. وهذه الصدقات تعبِّر عن وفاء الحفدة للأجداد، وتخلع على خميس الحلاوة طبقاً من القداسة الدينية.

 

والخميس السابع، وهو أهمُّها وأحفلُها بالبهجة والقداسة، يسمّى خميس المشايخ الذي أُلْغِيَ الاحتفالُ به في خمسينيَّات القرن العشرين؛ أي قبل بضع وسبعين سنة. وكاتب هذا المقال كان قد وصفه وصفاً مفصَّلاً مشفوعاً بالصور في عددٍ سابقٍ من مجلة «مدارات ونقوش» إحياءً لذكراه وتخليداً لما تفرَّدت به مدينة ابن الوليد مِن مآثرَ تاريخيَّةٍتميُّزها من المدن الشامية والعربية كافة.