926 عدد المشاهدات
مدارات ونقوش -دبي
أكَّد الباحث السعودي في مجال اللغة العربية، هود إبراهيم العمراني، أنَّ الازدهار الاقتصادي الذي تعيشه دول الخليج العربي، بفضل النجاحات الاقتصادية المدروسة، جعل هذه المنطقة مقصداً لملايين البشر، ما دفع عشرات الآلاف منهم إلى تعلُّم اللغة العربية، سواء في بلدانهم، حيث عمدت كثير من الجامعات المرموقة في دول عدة، مثل كوريا واليابان وتركيا، ودول أوروبية وإسكندنافية، إلى استحداث أقسام للغة العربية، كي يتعلم الطلبة اللغة العربية، أو في بلاد عربية، كالمملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، وجمهورية مصر العربية، التي تقدِّم منحاً مجانية لتعليم «العربية» لغير الناطقين بها.
وأوضح العمراني في جلسة ثقافية نظَّمها مركز جمال بن حويرب للدراسات، بعنوان «يوم اللغة العربية والتفكير التنموي»، أنَّ اللغة العربية تعدُّ الثانية من حيث الانتشار عالمياً، بعد «الإنجليزية»، وأنها لغة حية، حفظها القرآن الكريم ﴿إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾، وقد اعتمدتها الأمم المتحدة لتكون اللغة السادسة في جلساتها.
قال المحاضر، بعد أن قدمه الإعلامي حسين درويش، نيابة عن سعادة جمال بن حويرب، رئيس المركز، المدير التنفيذي لمؤسَّسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة: إنَّ شغفي باللغة العربية، رغم أنني طبيب أسنان، جعلني أستخدم بعض المهارات، لتأكيد أهمية اللغة في التنمية المستدامة، وفي حياة الشعوب.
فقد اعتمد المجتمع الدولي في قمة الأرض في البرازيل العام 1992م مصطلح «التنمية المستدامة»، بمعنى تلبية احتياجات الجيل الحالي، بدون إهدار حقوق الأجيال القادمة في الحياة، وفي مستوى لا يقل عن المستوى الذي نعيش فيه. وفي قمم عالمية لاحقة حدَّد المجتمع الدولي مكونات التنمية المستدامة على أنها نموٌّ اقتصادي، وتنمية اجتماعية، وحماية البيئة ومصادر الثروة الطبيعية فيها.
مفهوم الاستدامة يعني ضمان حصول البشر على فرصة التنمية دون التغاضي عن الأجيال المقبلة، وهذا يعني ضرورة الأخذ بمبدأ «التضامن بين الأجيال عند رسم السياسات التنموية»، وهذا ما يحتم بالتالي مأسسة التنمية في مفهومها الشامل من خلال المؤسسات الحكومية، وغير الحكومية، ما يجعلها تسهم في ديمومة التنمية.
واستطرد: الاستدامة تهدف إلى التطوير الذي يراعي الرفاهية، وزيادة الإمكانات للأجيال القادمة، والتي ستمكنهم من التنعُّم بموارد البيئة، وقيم الطبيعة التي نستغلها اليوم، وتعني أنه يجب التعامل مع التطوير والتنمية ببصيرة واسعة من ناحية البعد الزمني والمكاني والسكاني الاجتماعي.
وأكد هود العمراني أنَّ للغة دوراً أساسياً في المحاور الثلاثة للتنمية المستدامة:
· اقتصادياً: وتعني استمرار النمو الاقتصادي بالاعتماد على الميزات التنافسية والمعرفة (وعاؤها اللغة)، وبالتالي استدامة النمو.
· اجتماعياً: استمرار التنمية البشرية، ورفع نوعية الحياة، والترابط أو التلاحم، الانسجام أو الاندماج المجتمعي من خلال الاهتمام باللغة، الثقافة والقيم، التربية والتعليم، والثقافة العلمية.
· بيئياً: ثقافة الحفاظ على البيئة، وضمانها للأجيال المقبلة.
وأكد المحاضر أنَّ هذه الأضلاع الثلاثة لا تتكامل فيما بينها إلا في مجتمع يُعْرَفُ بـ«مجتمع المعرفة».
تعريف اللغة علمياً
وأوضح المحاضر، نقلاً عن المفكر وعالم اللغويات الأمريكي نعوم تشومسكي، أنَّ أكثر الناس يُعَرِّفون اللغة بأنها وسيلة للتواصل بين البشر، وأنها تطوَّرت وتفرَّعت إلى آلاف اللغات لتؤدي تلك الوظيفة الأساسية، لكن هذا مجرد خطأ شائع. فصحيح أننا استخدمنا اللغة في تواصل بعضنا مع بعض، وهذا، بلا شك يشكِّل فائدة عظيمة، لكنها ليست ما يميِّز اللغة، ولا ما يمكن أن يصفها وصفاً علمياً دقيقاً. فاللغات بالأساس، وفقاً لتشومسكي، وسيلة للتعبير عن الأفكار، ولخلق الأفكار أيضاً؛ أي إنَّ استخدامنا للغة بعينها (كالعربية مثلاً) يؤثر في الطريقة التي نبني بها أفكارنا، وينعكس ذلك على واقعنا بشكل مادي ملموس ومباشر.
وتطرَّق المحاضر إلى عالِمِ لغويات آخر يُدْعَى كيث تشين، الذي قدَّم تطبيقاً عملياً على هذه النظرية، فقال: هذا العالم قدَّم بحثاً في العام 2013 في جامعة ييل الأمريكية أثبت فيه كيف أنَّ اللغة التي نتحدَّث بها تحدث الفرق ليس على مستوى السلوك الشخصي فحسب، بل على الأداء الاقتصادي للدول. وفرّق تشين بين نوعين من اللغات: الأولى هي اللغة المستقبلية، أي اللغة التي يفرق أصحابها في حديثهم عادة بين الحاضر والمستقبل، فيقال: «سوف أزور والدتي غداً»، ومن هذه اللغات العربية، الإنجليزية، اليونانية، الإيطالية والروسية. أما النوع الثاني فهي اللغات غير المستقبلية، وهي التي يتكلم متحدثوها عن المستقبل، عادة، بصورة الحاضر، ومنها الألمانية، الفنلندية والصينية. فنقول مثلاً «أزور والدتي غداً».
اللغة في مجتمع المعرفة
وبيَّن هود العمراني في حديثه أنَّ مجتمع المعرفة هو المجتمع الذي يوجِد المعرفة وينشرها ويستثمرها من أجل ازدهار المواطن ورفاهيته، أي تحسين نوعية الحياة ورفع مستوى المعيشة، وتلعب المعرفة واللغة فيه دوراً أكبر من أي وقت مضى في تاريخ البشرية. وتقوم اللغة بدورين اثنين من الناحية الاقتصادية، وهما:
أولاً: كأداة في الاقتصاد وفي عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدول والأمم. ثانياً: كصناعة وكسلعة. ويمكن أن نفسِّرَ ذلك بنواحٍ عدة:
أولاً: تُوَفِّرُ اللغة تبادل ونقل المعرفة والخبرة بين أفراد المجتمع ومؤسساته، وهي وسيلة التواصل بين أجزاء منظومة العلم والتكنولوجيا أو مركبات النظام الوطني للإبداع، فهي كالمال؛ إذا تَوافر تحقُّق تبادل السلع من وجهة النظر الاقتصادية.
ثانياً: يحقق إتقان القوى العاملة للغة العلمية والتكنولوجية نقل التكنولوجيا للمجتمع من المنابع العالمية لها.
ثالثاً: إنَّ العمل المشترك المنتج والفعال في المكتب والمصنع والحقل يحتاج إلى لغة علمية وتكنولوجية حيّة. وإنَّ العمل المشترك والتعاون ضمن الأمة يؤدي إلى زيادة دخل الجميع، وهذا لا يتحقق إلا باستعمال اللغة الوطنية.
رابعاً: إنَّ تعلُّم العلم والتكنولوجيا والتدرب عليهما، وتحويل هذه المعرفة إلى خبرات وإلى أفعال ومنتجات وخدمات، يحتاج إلى لغة.
خامساً: إنَّ استخدام التكنولوجيا استخداماً فعّالاً من قِبَل القوى العاملة ومن قِبَل كامل المجتمع، يحتاج إلى انتشار هذه التكنولوجيات باللغة الوطنية، للوصول إلى ما يسمّى بمجتمع المعرفة، الذي لا يمكن أن يكون بلغة أجنبية.
دور اللغة كصناعة وسلعة
وقال هود العمراني: لقد ازداد دور الصناعات الثقافية وقاعدتها اللغة الوطنية في الاقتصاد العالمي أخيراً تزايداً كبيراً جداً. وإنَّ اعتماد الاقتصاد على المعرفة والإبداع والتقنية جعل الصناعات الثقافية تلعب دوراً متعاظماً في عملية التنمية. وأخذ هذا الدور أبعاداً تجلَّت في كبر إسهام هذه الصناعات في الناتج الإجمالي المحلي للدول التي اهتمت بها، وفي إسهاماتها في خلق فرص عمل وطنية، وفي تنويع الاقتصاد، وفي زيادة الصادرات. لقد فاقت مساهمة الصناعات الثقافية، في الناتج الإجمالي المحلي في بعض الدول، مساهمة قطاعات صناعية كبيرة مثل: الصناعات الغذائية، وقطاع البناء، وقطاع الحواسيب وملحقاتها. ومن هذه الدول في أوروبا مثلاً: هولندا والسويد وبريطانيا وبولندا وفنلندا والدنمارك ولاتفيا وليتوانيا.
خصوصيات العربية
واستطرد المحاضر: للغة العربية خصوصياتٌ لا بدَّ من الأخذ بها حتى تكون صناعات اللغة وتطبيقاتها المعلوماتية ناجحة في العالم العربي، ومن هذه التطبيقات تعريف الحروف العربية آلياً وتحليل الكلام وتعريف الكلام وتركيب الكلام وفهم اللغة والترجمة الآلية ومعالجة النصوص، كالفهرسة والبحث والتحليل وغيرها.
والسوق المعلوماتية باللغة العربية سوق كامنة ومهمة، خاصة مع انتشار الإنترنت، فهي تغطي منتجات كثيرة في قطاعات التعليم والبحث والتطوير والتوثيق والمكاتبات والإدارة والتسيير والتجارة الإلكترونية والحكومة الإلكترونية والصحة والأمن والتسلية والصناعة وغيرها.
وأضاف: هناك ميزات تفاضلية للعالم العربي في بعض مجالات الصناعات الثقافية ومنها صناعة البرمجيات مثل:
أولاً: البرمجيات المتعلقة باللغة العربية، المترجمات الآلية، برمجيات البحث والفهرسة والتصنيف الآلية، برمجيات تركيب وتعرف الكلام، برمجيات تعرف الحروف آلياً، وغيرها.
ثانياً: البرمجيات الثقافية العربية والإسلامية (برمجيات الموسيقى العربية، وبرمجيات التراث الإسلامي والعربي، البرمجيات الدينية، البرمجيات الخاصة بالرسوم والفنون الأخرى الحالية والتراثية وغيرها).
ثالثاً: البرمجيات الخاصة بالتجارة العربية البينية، والتجارة الإلكترونية ولوازمها من برمجيات الحماية والعرض والتسويق.
إنَّ واقع منظومة المعلوماتية العربية يدلُّ على تطوُّر سريع لها، واهتمام بها، وبهدف تحسين هذا الواقع لا بدَّ من العمل في مجال بحوث وتطوير اللغة العربية، وكذلك اتخاذ بعض الإجراءات التشريعية والتنظيمية والمؤسسية والمالية والبشرية، وقد رأينا هذا جلياً في المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة.
اليوم العالمي للغة العربية
بدأت القصة بعد تأسيس صندوق يدعم اللغة العربية في منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم «اليونيسكو»، بتمويل من الأمير الراحل سلطان بن عبد العزيز آل سعود، الذي قدَّم مليون دولار لدعم المشروع، آنذاك.، وعلى إثرها بدأ حضور اللغة العربية يتزايد، حتى تقدَّمت السعودية والمغرب بمشروع قرار للجمعية العمومية في «اليونيسكو»، يقضي بتبني يوم عالمي للغة العربية. وتمت الموافقة بالإجماع في شهر أكتوبر العام 2012م على ذلك، حيث يحتفل العالم في الثامن عشر من ديسمبر من كل عام بيوم اللغة العربية.
أما محاور الاحتفال فقد مرَّت بمراحل عدة؛ فقد قررت الهيئة الاستشارية للخطة الدولية لتنمية الثقافة العربية (أرابيا) التابعة لليونيسكو أن يكون محور المناسبة للعام 2013، هو اللغة العربية والإعلام، وفي العام 2014 كان الحرف العربي هو المحور، واللغة العربية والعلوم للعام 2015، ثمَّ تعزيز انتشار اللغة العربية في العام 2016، واللغة العربية والتقنيات الجديدة للعام 2017.
أرقام تفاعلية
أكَّد هود العمراني أنَّ الحضور العالمي الداعم للغة العربية كان واضحاً عبر الأرقام للمبادرات العربية لدعم اللغة العربية، منها رصد احتفالية لنحو 44 دولة، احتفلت بهذه المناسبة، وأكثر من 55 مليون مشاهدة كانت للوسم العالمي للغة العربية، وكان لدولة الإمارات حضورٌ قويٌّ في هذه المناسبة، من خلال مبادرة «بالعربي»، التي أطلقتها مؤسَّسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة، حيث حقَّقت نسبة فاقت مليارين و300 مليون مشاهدة وتفاعل.
حوارات
وفي نهاية المحاضرة دارت نقاشات مهمة بين المحاضر وعدد من الحضور، كان في طليعتهم سعادة بلال البدور، الذي أشار إلى اختلاف وزراء الثقافة والتعليم العرب، حول اختيار يوم الاحتفال باللغة العربية، حيث طلب وزراء الثقافة أن يكون يوم الاحتفال هو 18 ديسمبر من كل عام، لكن وزراء التعليم أرادوا يوم الأول من مارس، لكن تمَّ الاتفاق الدولي على أن يكون 18 ديسمبر هو يوم الاحتفال.
وتحدَّث سعادة محمد الدراجي القنصل العام الجزائري في دبي، عن اللغة العربية.. نمط حياة، أما الدكتور خالد الوزني، المستشار في مؤسَّسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة سابقاً، فقد علَّق على التنمية المستدامة واللغة العربية بعناصرها الثلاثة: الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.
وطالب الباحث التراثي راشد بن هاشم بأن تكون اللغة العربية هي الأولى في موطنها، وتساءل الباحث التراثي رشاد بوخش، رئيس جمعية إحياء التراث في الدولة، عن مصير اللغة العربية مستقبلاً. وطالب علي الشحي بأن يتمَّ تعليم العمالة الوافدة اللغة العربية في مواطنها، قبل استقدامهم إلى الدولة، وتحدَّث الباحث والكاتب الدكتور شهاب غانم عن أهمية نشر اللغة العربية عالمياً أسوة بما يفعله متحدثو اللغات الأخرى، واختتم الدكتور محمد عزام قياسة بالحديث عن اللغة العربية والطب.
إضاءة
هود إبراهيم عبد المحسن العمراني، درس جراحة وطب أسنان في جامعة لوبلن الطبية في بولندا. وحصل على دبلوم لغة إنجليزية من جامعة الإمام محمد بن سعود، ودبلوم حاسب آلي – شبكات من مركز نيوهورايزون. وهو متطوع في خدمة اللغة العربية بعد تأسيسه الحساب الرسمي لليوم العالمي للغة العربية على تويتر. ومشارك في الاحتفالية الرسمية لليوم العالمي للغة العربية في مقر الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم بباريس منذ العام 2014 حتى اليوم.