5,787 عدد المشاهدات
الكاتب : جمال بن حويرب
كان جدي الشيخ مبارك بن حويرب يحدثني عن فتوحات الملك عبد العزيز بن سعود، بل كان يرويها لي بتاريخ كلِّ موقعة أو فتح، وينشدني ما قيل فيها من الأشعار، وكنت أستمع إليه أيضاً ينشد مجموعة من قصائد العالم الأحسائي أحمد بن علي بن مشرف التميمي، حتى حفظت بعض أشعاره وأنا لا أعرف عنه اللهمَّ إلا اسمه الذي علق في ذاكرتي، وقصائده التي لا تزال ترنُّ في أذني بصوت جدي رحمه الله.
ومن ذلك الوقت بدأت أبحث عن شعراء الجزيرة العربية، خاصة شعراء الفصحى الذين نستطيع أن نعدَّهم على أصابع اليد، من قلة عددهم؛ فلم يكونوا سابقاً وإلى يومنا هذا، إلا قليل في محيط كبير من شعراء الشعر الشعبي، ولا عجب في ذلك فإنَّ الأمية التي عمّت الجزيرة لقرون طويلة كانت كفيلة أن تبعد الناس عن الأدب الفصيح، وتجعلهم يستسلمون للهجتهم العامية التي ورثت الفصحى؛ فسجلوا فيها تاريخهم وآدابهم وحروبهم وأفراحهم ومآسيهم حتى صار الشعر في هذه المنطقة لا يتجاوز الشعر الشعبي.
الشيخ مبارك بن حويرب
قصيدة فخمة
وبسبب ولعي بتاريخ الملك عبدالعزيز آل سعود، جمعت كثيراً من أخباره وما قيل فيه من الشعر وذلك بتأثير من تعلقي في الصبا، وذات يوم وقعت في يدي قصيدة مدح للملك عبدالعزيز جعلتني وأنا أقرأها أدخل في حالة غياب عن الوعي الحسي، وأمتزج فيها من فخامتها وجزالتها وسحر معانيها. وهكذا يفعل بي الشعر الجزل؛ فهو يجعلني في حالة عجيبة، كان مطلع القصيدة يقول:
العز والمجد في الهندية القضبِ
لا في الرسائل والتنميق للخطبِ
تقضي المواضي فيمضي حكمها أمما
إن خالج الشك رأي الحاذق الأربِ
وليس يبني العلا إلا ندىً ووغىً
هما المعارج للأسنى من الرتبِ
ومشمعل أخو عـزم يـشيّعه
قلبٌ صروم إذا ما هـمّ لم يهبِ
لله طـلّاب أوتارٍ أعدّ لها
سيراً حثيثاً بعزم غير مؤتشبِ
ذاك الإمام الذي كادت عـزائمــه
تسمو به فوق هام النسر والقطبِ
الملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله
فلما نظرت إلى اسم صاحب القصيدة، فإذا به الشاعر الكبير محمد بن عبدالله بن عثيمين، رحمه الله. ولهذا أحببت أن أحدثكم عنه بما تيسَّر من سيرته؛ لأنه بلا شك من كبار شعراء الفصحى في الجزيرة العربية خلال القرنين الماضيين، وإذا لم أبالغ فإنه أشعرهم على الإطلاق.
ولد الشاعر محمد بن عبدالله بن سعد بن عثيمين عام 1854، وقيل عام 1844، ولكن الرأي الأول أصوب لعدة اعتبارات، كانت ولادته في بلدة السلمية الكائنة اليوم في مدينة الخرج التي تبعد عن الرياض جنوباً قرابة ثمانين كيلومتراً، ووالده من أهالي حوطة تميم ولكنه ولد فيها ونشأ يتيماً عند أخواله الذين لا نعرف عنهم ولا عن والده شيئاً، وذلك بسبب قلة التدوين كما هو معروف وعام في الجزيرة العربية في القديم والحديث. وهذه معضلة تواجه الباحثين وفي أكثر الأحيان لا يستطيعون أن يجدوا شيئاً يذكر عن الأعلام، اللهمَّ إلا القليل النادر وإني أدعو دائماً إلى تسجيلها وتدوينها وحفظها وتعليم الأبناء الاهتمام بها.
نشأ الشاعر ابن عثيمين في الخرج ولا نعرف كثيراً عن مستوى التعليم في ذلك الوقت، ما عدا كتاتيب القرآن المنتشرة في كلِّ مكان من الجزيرة، وهي تهتم بتعليم القرآن وبعضاً من القراءة والكتابة، ثمَّ ينصرف الطلبة إلى أعمال الدنيا وهم لا يزالون أطفالاً فلا مدارس نظامية ولا جامعات ولا بعثات دراسية كما نراه اليوم، ونحمد الله عليه صباح مساء.
كان يجب على الطالب بعد بقائه مدة وجيزة في الدراسة البدائية أن يتوجه إلى الزراعة إن كان أهله من أهلها، أو إلى الغوص ومخاطر البحر إذا كان أهله من أهل البحر، وقليل جداً من ينصرف إلى متابعة تعليمه عند العلماء، ليصبح بعد ذلك من القضاة أو المعلمين.
فترة الاستقرار
ما يميّز الفترة التي نشأ فيها الشاعر ابن عثيمين، أنها كانت فترة استقرار سياسي في الجزيرة العربية؛ فقد نشأت الدولة السعودية الثانية بقيادة تركي بن سعود، ثمَّ بعد مقتله مباشرة تولى ابنه فيصل بن تركي وهو إمام قوي استطاع بقوته وحنكته بسط الأمن والنفوذ على مناطق حكم أجداده القديمة، ما هيَّأ بلاداً صالحة للثقافة والتعليم والتجارة والقضاء، واستقامت معاملات الناس اليومية إذا قسناها بما حصل قبل حكمه بعقدين، حيث تمَّ إسقاط الدولة السعودية الأولى. وقام جيش محمد علي بقيادة ابنه إبراهيم باشا بتدمير بلدة الدرعية مركز حكم آل سعود في دولتهم الأولى، وقتل أهلها وأخذ الباقين أسرى إلى مصر في قصة مأساوية حزينة عام 1818. وقد اطلعت بنفسي على آثار الدمار الهائل الذي خلَّفه هذا الغزو بعد مرور كل هذه السنين، ولكنه باقٍ كشاهد على فظاعة الحروب وهولها، حمى الله خليجنا من كلِّ شر وردَّ كيد الأعداء في نحورهم.
درس شاعرنا ابن عثيمين على يد قاضي السلمية الشيخ الشاعر عبدالله بن محمد الخرجي، وهو أحد العلماء الأفاضل والذي تخرَّج على يديه كثير من العلماء من أمثال الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ وغيرهم. وكان الخرجي يعلِّم الفقه والتوحيد وعلوم اللغة، وأظن أنَّ هذا الشيخ الجليل هو الذي أثَّر في شخصية ابن عثيمين وجعله يتجه إلى حفظ الأشعار وكتب الأدب بعد ذلك؛ لأنه كان أعجوبة في معرفته بالآداب العربية.
لم يكتفِ شاعرنا ابن عثيمين بما تعلَّمه من شيخه في الخرج، ولكنه رحل معه عندما قرَّر شيخه الرحيل لطلب الرزق والطمأنينة في بلدان الخليج المجاورة، فوصلا إلى إمارة رأس الخيمة عند الشيخ أحمد بن حمد الرّجباني الدوسري، وهو تلميذ الشيخ عبدالرحمن بن حسن حفيد الشيخ محمد عبدالوهاب. وقد انتقل الرّجباني إلى رأس الخيمة وعُيِّن فيها قاضياً، وكانت له مدرسة تخرج فيها الشيخ محمد بن سعيد بن غباش لخمس سنوات.
ولا أدري متى التحق الشاعر ابن عثيمين بمدرسته؟ وما سبب اختياره رأس الخيمة لأخذ العلم وأرجِّحُ أن تكون معرفة سابقة للشيخ الخرجي بالرجباني جعلته يأتي إليه لأخذ العلم؛ لأنه من نجد، وكانت وفاة القاضي الرجباني في سنة 1917م رحمه الله.
ولم يكتفِ أيضاً شاعرنا بما أخذه من علوم الرجباني، بل رحل مع شيخه أيضاً إلى الدوحة، ودرس عند الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن مانع الذي كان يدرِّس في المدرسة الأثرية التي أنشأها الشيخ عبدالله بن جاسم آل ثاني، وفيها يُعلِّم الفقه والحديث وعلوم القرآن والعقيدة؛ فدرس عنده كتاب بداية المجتهد، وهو كتاب فقهي ألفه ابن رشد وجمع فيه أقوال العلماء في كل مسائل الفقه، وهو بهذا يرتفع عن تقليد المذهب الحنبلي الذي درسه إلى درجة مقارنة الأقوال الفقهية الذي يسمّى اليوم «الفقه المقارن».
ثمَّ عاد إلى نجد ثانية وأخذ يدرس عند الشيخ سعد بن حمد بن عتيق في بلد العمار من إقليم الأفلاج؛ فقرأ الفقه والحديث والتوحيد.
الشعر الجزل
ومن ينظر إلى رحلته في طلب العلم ومقاساته الأمرّين في تحصيله، فسوف يعرف أنَّ الرجل لم يكن كحال أي شاعر بل كان مؤرخاً لغوياً حافظاً للفقه والتوحيد، ولكنه غلب عليه الشعر الذي أنشده وهو كبير حيث يعود تاريخ أول قصيدة كتبها إلى سنة 1902 وعمره خمسون سنة.
والشعر عادة يبدأ مع الشعراء في صغرهم، كما حصل لي ولغيري، ومن النادر أن يعرف الشعر مَنْ بلغ في الكبر عتيا إذا لم يكن قاله قبل ذلك ثمَّ هجره، كما فعل النابغة الذبياني، والنابغة الجعدي رضي الله عنه؛ فيقال إنهما نبغا في الشعر بعد الأربعين وقيل بعد الخمسين ولهذا لُقِّبوا بالنابغتين، وإن كان الأمر كذلك فيصح أن نسمّي شاعرنا ابن عثيمين «النابغة» فإنه قد قال من الشعر الجزل بعد الخمسين ما يستحق عليه هذا اللقب.
وأظن أنَّ المخزون العلمي والأدبي الذي جمعه خلال عقود من الزمان هو الذي فجّر قريحته الشعرية، وهذا ما نستطيع أن نفهمه من خلال شرحه لقصيدته الرنّانة التي يقول في مطلعها:
عج بي على الربع حيث الرند والبانُ
وإن نأى عنه أحبابٌ وجيرانُ
فللمنازل في شرع الهوى سننٌ
يدري بها من له بالحب عرفانُ
إلى آخر هذه القصيدة، فكلُّ من يطلع على شرحه يُبهر بسعة اطلاعه. يقول الدكتور بكري شيخ أمين حول هذه القصيدة وشرحها:
«من خلال شرح ابن عثيمين لهذه القصيدة أدركنا أنَّ هذا الانسان امتاز عمَّن سواه بحب المطالعة والتعمُّق في دراسة أمهات المصادر العربية والدواوين الشعرية، فلقد استشهد أثناء الشرح بأقوال وأبيات من حماسة أبي تمام، والأغاني، وحياة الحيوان للدميري، ومقدمة ابن خلدون، والعقد الفريد والقاموس، كما أورد من الحوادث التاريخية ما لا يضمُّها كتاب واحد».
ثمَّ يتابع الدكتور بكري فيقول:
«إلى جانب هذه الثقافة الواسعة كان للشاعر ابن عثيمين ثقافة اجتماعية وسياسية ودينية؛ فثقافته الدينية تبدو بوضوح في ثنايا قصائده المختلفة مدحاً كان أو رثاء أو موضوعاً في الدين والعقيدة. ومن يقرأ ديوان الشاعر ابن عثيمين يعرف من هم الملوك والحكّام الذين أحبّهم وأخلص لهم وخلّدهم في أشعاره».
أديب وشاعر
فقد اتصل شاعرنا بآل خليفة حكّام البحرين الكرام، وكان ذلك إبّان اشتغاله بتجارة اللؤلؤ التي كانت أهم تجارة في الخليج آنذاك، وقد عرف قدره الشيخ محمد بن عيسى آل خليفة فأكرمه وأجلّه؛ لأنه كان أديباً وشاعراً، وأوَّل قصيدة كتبها محفوظة في ديوانه كانت في الشيخ محمد بن عيسى التي يقول فيها:
ضمانٌ على أن الغرام طويلُ
إذا شطحت دار وبان خليلُ
أقول لنفسي حين جدَّ بها الأسى
نهيتك عن ذا والفريق حلولُ
بعد رحيل ابن عثيمين إلى منطقة الأفلاج ودراسته عند الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، رجع ثانية إلى ساحل الخليج، وبدأ بمزاولة تجارة اللؤلؤ.. التجارة الرائجة في تلك الأيام، والتي تكاد تكون المصدر الأساسي لرزق أهالي هذه المنطقة، ولكنه تعرَّض لخسارة كبيرة وركبه الدين الذي أثقل ظهره وأقضَّ مضجعه، وأظن أنه كان في ذلك الوقت في البحرين، ولهذا لجأ إلى الشيخ الأديب محمد بن عيسى آل خليفة؛ فقضى عنه دينه وخفَّف عليه مصيبته. وقد امتدحه بالقصيدة التي ذكرت لكم مطلعها، وسأذكر لكم بعضاً منها، يقول ابن عثيمين:
ضَمانٌ على أَن الغَرام طَويلُ
إِذا شَحَطَت دارٌ وَبان خَليلُ
أَقولُ لِنَفسي حينَ جَدَّ بها الأَسى
نَهَيتُكِ عَن ذا وَالفَريقُ حُلولُ
فَأَمّا وَقد جازوا الغَميمَ وَلَعلَعا
وَحالَت حُزونٌ دونَهُم وَسُهول
فَبَرِّد جَوى قَلبٍ أُطيلَ عليلُهُ
بِفَيضِ دموعٍ في الجفونِ تَجولُ
سَقى أَينَ حلّوا أَو سَقى مُنتَواهُم
مِنَ المُزنِ رَجّاسُ السحابِ همولُ
أُعَلِّلُ نَفسي بِاللِّقاء وَدونَ ما
أُرَجّيهِ دهرٌ بِالوَفاءِ مطولُ
فَلا النَّفسُ تَسلوهُم وَلا الوجد مُقصرٌ
وَلا الصَّبرُ مُذ بانَ الخَليطُ جَميلُ
وَقَد زَعَموا أَنَّ الشِّفاءَ مِنَ الجَوى
دُموعٌ مَرَتها زَفرَةٌ وَعَويلُ
فَما بالُ جَفني لا يَجِفُّ وَعَبرَتي
دِراكاً وَلم يَبرُد بِذاكَ غَليلُ
وَما أَنسَ مِ الأَشياءِ لا أَنسَ مَوقِفاً
لَنا وَالعُيونُ الرافِقاتُ غُفولُ
إلى أن قال يمدح الشيخ محمد بن عيسى:
فَما نَظَرَت عَيني وَلا مَرَّ مِسمَعي
بِحَلٍّ وَلا حَيثُ اِستَقَلَّ رَحيلُ
كَمِثلِ بَني عيسى حِفاظاً وَنائِلاً
إِذا عَمَّ أَقطارَ البِلادِ محولُ
جَحاجِحَةٌ غُرُّ الوُجوهِ تَآزَروا
بِآراءِ صِدقٍ زانَهُنَّ عُقولُ
سَما بهمُ عيسى إِلى الذُروَةِ التي
تَعِزَّ عَلى مَن رامَها وَتَطولُ
فَهُم حَيثُ هذا الخَلقُ حُسنَ تَواضُعٍ
وَهُم بِالعُلى فَوقَ السِّماكِ نُزولُ
رَوابِطُ جَأشِ القَلبِ في يَومِ زَيغِهِ
إِذا أَسلَمَ البيضَ الحِسانَ حَليلُ
وَمَأوى ضَريكٍ أَتعَسَ الدَّهرُ جَدَّهُ
وَأَمنُ طَريدٍ قَد نَفاهُ قَبيلُ
مُحمدُ لَم أَحمَدكَ وَحدي وَإِنَّما
بِحَمدِكَ مَن فَوقَ البَسيطِ يَقولُ
رَأَوكَ لما قالوهُ أَهلاً فَدَوَّنوا
لِحَمدِكَ أَبواباً لهنّ فصولُ
فلا مجد إلا قد تجاوزت قدره
فكل ثناء في علاك قليلُ
فما للمطايا دون بابك موقفٌ
ولا لمديحٍ في سواك دليلُ
إلى آخر هذه القصيدة الرنانة التي تجعل الباحثين في حيرة من أمرهم؛ فكيف يتمكّن شاعر بلغ الخمسين من عمره، ولم يعهد بقول الشعر أن يكتب مثل الشعر! إلا إذا صدقنا ما قاله بعض الدراسين لأشعاره بأنه كان مولعاً بقول الشعر الغزلي، فلما انتظم في مدارس العلم الديني رآه قبيحاً وتأثم في وجوده لديه، ولهذا أتلفه ولم يُعرف له أثر، ولكن مقدمات قصائده الغزلية دليل على إلمامه بفنِّ الغزل وإتقانه له يقول في إحداها:
نَعَم هذِهِ أَطلالُ سُلمى فَسَلِّمِ
وَأَرخِ بِها سَيلَ الشُّؤونِ وَأَسجِمِ
وَقِف في مَغانيها وَعَفِّر بِتُربِها
صَحيفَةً حُرِّ الوَجهِ قَبلَ التَّندُّمِ
فَثَمَّ مَقيلُ الوَجدِ لا بَل مُقامُهُ
وَثَمَّ هَوى نَفسِ المشوقِ المُتَيَّمِ
وَمَسحَبُ أَذيالٍ لِغِزلانِ جيرَةٍ
سَقَوني سُلافَ الوَصلِ غَيرَ المُفَدَّمِ
غَضارَةُ عَيشٍ قد تَوَهَّمتُ أَنها
تَدوم فكان الأَمر غَيرَ التَّوَهُّمِ
متى تَذكُرَاها لي تَهِج بين أَضلُعي
عقابيلُ وَجدٍ كالحريقِ المُضرَّمِ
أَقولُ لِصَحبي وَالمَراسيلُ تَرتَمي
بِنا سُهَّما تَرمي الفَيافي بِسُهَّمِ
أَلا عَوجَةٌ مِنكم على الربعِ رُبَّما
شَفَيتَ الذي بي أَو قَضَيتُ تَلَوُّمي
فَعاجوا فَغَطَّت ناظِرَ العَينِ عَبرَةٌ
فَلم أَتَبَيَّن شاخِصاً مِن مُهدَّمِ
أَجدَّ كما أَن لا أَمُرَّ بِمَنزِلٍ
لِمَيَّةَ إِلّا أَمزُجُ الدَمع بِالدَمِ
وَلا أَستَبينَ البَرقَ يَفري وَميضُهُ
جَلابيبَ مَسدولٍ مِن الجُنحِ مُظلِمِ
بِجِزعِ اللِوى إِلّا أَبيتُ مُسَهَّداً
كأَنَّ شَراسيفي نُفِذنَ بِأَسهُمِ
سَهِرنا فَناموا وَاِرتَحَلنا فَخَيَّموا
عَناءٌ لِنَجدِيٍّ عَلاقَةُ مُتهِمِ
بَلى حينَ خادَعتُ اللَجاجَةَ بِالأَسى
وَمَنَّيتُها بِالظَّنِّ صَبرَ المُرَجِّمِ
تَراءَت لِمَشغوفٍ بِها لِتُعيدَهُ
ظَلومَ الهَوى في دائِهِ المُتَقَدِّم
وَأَوحَت إِلى طَرفي بِإيماضِ طَرفِها
وَهَزَّت قَواماً كَالقَضيبِ المُنَعَّمِ
فَكُنتُ أُمَنّي النَّفسَ جِدَّ مُمازِحٍ
فَعُدتُ بِما شاهَدتهُ جِدَّ مُغرَمِ
وقائِلَةٍ لي وَالرِكابُ مُناخَةٌ
وَقد رَقرَقَت دَمعَ الحَزينِ المُكَتَّمِ
وهذه أيضاً من القصائد لو أنَّ قارئاً سمعها من غير أن يقرأ اسم صاحبها لقال هي لشاعر جاهلي أو من زمن الدولة الإسلامية الأولى.
لم يكن ابن عثيمين في غزلياته التي يجعلها في مطالع قصائده إلا شاعراً متعفّفاً يبتعد عن وصف مفاتن النساء، وأظنُّ أنَّ الدِّينَ والعلمَ الذي تعلمه خلال صباه جعلاه يتقيَّد بالنسيب ويترك الغزل لغيره.
كانت صلة الشاعر كما ذكرت قوية بآل ثاني قبل معرفته بآل خليفة، حتى إنه اشترك مع الشيخ قاسم في حربه على إحدى القبائل في أواخر القرن التاسع عشر، وكان يحمل الراية وقد أبلى فيها بلاءً حسناً، ما يدل على شجاعته ووفائه؛ فارتفع صيته بينهم، وقويت علاقته بهم، وفي ذلك يقول ابن عثيمين عن هذه المعركة التي انتصر فيها الشيخ قاسم:
يا بارِقاً باتَ يُحيي لَيلَهُ سَهَرا
لَم تَروِ لي عَن أُهَيلِ المُنحَنى خَبَرا
وَهَل تَأَلَّقتَ في تِلكَ الرُّبوعِ وَهَل
جَرَّت عَلَيها الصَّبا أَذيالَها سَحَرا
لا أَستَقيلُ الهَوى مِمّا أُكابِدُهُ
وَلا أُبالي بِمَن قَد لامَ أَو عَذَرا
نَفسي الفِداءُ لِأَقوامٍ متى ذُكِروا
تَحَدَّرَت عَبَراتي تُشبِهُ المَطَرا
مَن لي بِأَحوَرَ مَهزوزِ القَوامِ إِذا
بَدا تَوَهَّمتُهُ في سَعدِهِ القَمَرا
إلى أن قال يذكر هذه المعركة:
وليتمُ بين مقتولٍ ومنهزمٍ
قد استعار جناح الرأل إذ ذعرا
يدعو الوليد أباه بعد معرفةٍ
فما يرد له ليتا وإن جأرا
لما انجلت عنكم غماء جهلكمُ
كنتم كناكثةِ الغزل الذي ذكرا
وبعدها إن أردتم سوء منقلبٍ
فشاغبوا أو فقولوا لا إذا أمرا
اتصل شاعرنا ابن عثيمين بالملك عبدالعزيز بن سعود بعد ضمّه منطقة الأحساء في سنة 1912، وقال فيه قصيدته العجيبة، حيث يقول فيها:
ذاك الإمام الذي كادت عزائمه
تسمو به فوق هام النسر والقطب
عبد العزيز الذي ذلت لسطوته
شوس الجبابر من عجم ومن عرب
ليث الليوث أخو الهيجاء مسعرها
السيد المنجب ابن السادة النجب
قوم هم زينة الدنيا وبهجتها
وهم لها عمد ممدودة الطنب
لكن شمس ملوك الأرض قاطبة
عبد العزيز بلا مين ولا كذب
قاد المقانب يكسو الجو عثيرها
سماء مرتكم من نقع مرتكب
حتى إذا وردت ماء الصراة وقد
صارت لواحق أقراب من الشَّغَبِ
قال النِّزال لنا في الحرب شنشنة
نمشي إليها ولو جئنا على الركبِ
فسار من نفسه في جحفل حردٍ
وسار من جيشه في عسكر لجبِ
الأحساء قديما
وقد خلَّد في أشعاره بعد ذلك معظم معارك الملك عبدالعزيز لتوحيد المملكة، وأكثر في مدحه ومدح أبنائه، بل من يتتبَّع ديوانه البالغ ثمانية آلاف بيت يجد معظمه في مدح الملك ابن سعود.
كان ابن عثيمين وقوراً كثير الصلاح والدين، ربعة بين الرجال لا بالقصير ولا الطويل، أسمر اللون، سخيَّ الكفِّ كثيرَ العطاء شجاعاً شهدت له المواقع بذلك.
قبل موته بسنوات، ترك الشعر وانشغل بالعبادة حتى لاقى ربه في منطقة والده حوطة تميم في سنة 1944م، وله ثلاث وتسعون سنة وهو بكامل قواه وذاكرته، رحمه الله وأدخله فسيح جناته.