1,801 عدد المشاهدات
محمد عيسى العدوان – رئيس مركز عمان والخليج للدراسات الاستراتيجية
يقول أستاذنا المؤرخ العراقي الكبير عبد العزيز الدوري: «لقد رحنا ندرس التاريخ أحياناً ونكتبه كما يوافق أهواءنا، ويدغدغ عواطفنا، لنذهب مزهوين بما وصلنا إليه في فترة ماضية، وبدلاً من أن نحلِّل وندقِّق لنفهم، نحاول أن ننتقي من الروايات ما يناسب، بل ونقرأ النصوص ونكسبها المعنى الذي نريد، لا الذي تحمله، وحين نواجه الأزمات نتساءل، كما تساءل مؤرخ فرنسي بعد سقوط باريس: هل خاننا التاريخ؟».
إنَّ من أفجع جوانب المأساة العربية في مجال كتابة التاريخ هي طغيان المغالطات وألوان الدجل والكذب والافتراء والتجني على التاريخ في معظم محاولات تشخيص أحوال وأفكار وممارسات الشعوب والحكام والتعامل مع الأحداث بنسيان أسبابها الحقيقية البعيدة والقريبة، والبحث دائماً عن الشمَّاعة التي سيتم تعليق الوهن والضعف عليها بغض النظر عن مصداقية هذه الطروحات.
مصدر إلهام
إنَّ الحفاظ على قيم الحضارة والروح العربية والإسلامية والوطنية وترسيخ مفاهيم نشر المعرفة والمحافظة على الإرث التاريخي والحضاري من خلال التوثيق الحقيقي والمعياري هي مصدر إلهام لإعادة النظر في ما كتب وروِّج له، وأصبح الخلفية الحاكمة في العقل الباطن الجمعي العربي من خلال منظومة النقل السمعي، دون الركون إلى التثبت العقلي والإدراك المعرفي لما يرد من المعلومات.
وبما أنَّ التوثيق والإتاحة المعرفية هي الوعاء الذي يحتضن وجدان الأمة وشخصيتها، ولا يمكن الإحاطة بثقافة هذه الأمة إلا من خلال دراسة إبداعاتها عبر وثائق ومخطوطات وصور وصلت إلينا لكونها الطريق الموصل إلى الفهم الصحيح والاستيعاب الشامل لهذه الإبداعات وفهم العقلية التي تتمتَّع بها أمة عن أمة، وشعب عن شعب، فإنه يجب التمسُّك بالمعرفة الحقيقية للوصول إلى ذلك التوثيق المنشود.
فالمعرفة هي الدرع التي تتمترَّس خلفها أحاسيس العزة والكرامة والافتخار، والأرضية التي يجب على الإنسان العربي أن يستند إليها في تعامله مع الأصدقاء الذين يديرون النظام العالمي أولاً، قبل الأعداء الذين أصبحوا جيراناً وأمراً واقعاً في قلب الأرض العربية.
القوة الناعمة
إنَّ التوثيق هو أداة من أدوات صناعة الفكر والقوة الناعمة في إدارة التعامل مع أبجديات بناء العلاقات التفاوضية والسياسية والدبلوماسية عبر فهم الحقائق والأفكار التي يؤمن بها الآخرون، فإذا عُرِفَت أطماعهم وأفكارهم وحقيقة وجودهم وما يؤمنون به، سهل التعامل معهم (اعرف عدوَّك حتى تأمن جانبه). هذا أحد أهم مخرجات التوثيق التي عملت عليها لمدة خمسة وعشرين عاماً؛ فالتوثيق هو السلاح الحقيقي الذي يقدم للعقل العربي معلومات وحقائق عن الماضي ليتم فهم التعامل مع الحاضر ويؤسِّس للعمل والتخطيط للمستقبل، فاستخدام التوثيق ليس للتباكي ولا للتباهي ولا لإثارة الأحقاد، ولكن للفهم والإدراك والمعرفة التي يجب أن تقود إلى الرشد.
المعلومات المخزنية
إنَّ كثيراً من الناس، إن لم يكن أغلبهم، يمتلكون معلومات، وهي التي أطلقُت عليها مفهوم (المعلومات المخزنية)، حيث إنها تكون عادة للحفظ والتباهي بتقديمها للآخرين على أنها الحقيقة المطلقة، وبأنهم حصلوا عليها سمعا ً من مصدر موثوق، ولكن حقيقة الأمر أنها معلومات قد يكون فها شيء من الحقيقة، وقد تكون كاذبة ملفقة 100%، حيث لم يتعنَّ صاحبها جهداً بعرضها على عقله للتأكد من قبولها القبول المنطقي أولاً، ثمَّ التأكُّد من مصدرها وصحتها وواقعيتها ثانياً قبل أن ينقلها للآخرين، وأخيراً تتبُّع نتائجها وأحوالها والعلائق الأخرى بها ومعها، الغاية منها فقط تصدر المجالس والتباهي، لكن القلة القليلة من الباحثين والكُتّاب هم الذين يحوِّلون المعلومات بعد إعادة عرضها على العقل، ثمَّ العمل على تأهيلها وتوثيقها وإدراك ما فيها وتتبُّع مصدرها وغايتها لتصبح معرفة، إنَّ السلامة في هذا الأمر هي بالتكشيف والتحليل للوثائق والأحداث والبعد كل البعد عن استهداف الأحداث والشخصيات ضمن أحكام مسبقة.
تأهيل العقل
من أجل كل ذلك يجب علينا أن نعيدَ تأهيل العقل بما يلزمه من المعارف والمعلومات. لسلامة الأحكام يجب فهم ودراسة عناصر القضايا الموروثة والتاريخ المنقول للأمة العربية عموما ً من جميع جوانبه؛ فالأمة العربية تعرَّضت لكل ما تعرَّضت له من ظلم واستهداف، لأنه لم يسمح لها بأعمال العقل المنطقي في التخطيط الناجز للمستقبل، وهذا ما جعله دائماً رهينة لاستحضار الماضي والبطولات للهروب من الواقع المؤلم.
يجب إعادة قراءة الوثائق ومقارنتها مع الأحداث والوقائع لنفهم الماضي ونحاكي الحاضر ونخطط للمستقبل؛ فالوثائق هي الدرع التي تتمترس خلفها الحقائق، ولا يمكن أن نخطِّطَ للمستقبل إن لم نفهم الماضي بكل تداعياته، وحيث إنَّ الوثيقة نصف الحقيقة ونصفها الآخر في التدقيق والتكشيف والواقع والمجريات والنتائج، يجب أن نجدَ أرضية قائمة على المعرفة والعلوم والتحليل، وليس فقط نقل الأحداث بطريقة السمع والحكم المسبق.
الرأي المؤدلج
يجب ألَّا نركن بأي حال من الأحوال لتحليل الإعلام الصحفي فقط، الذي يخلق رأيا ًعاما ًمؤدلجاً في كثير من الأحيان. يجب أن نعرفَ قدراتنا واحتياجاتنا؛ مكانتنا ومكاننا الحقيقي دون تهويل أو تلبُّس فكرة أننا شعب الله الأوحد، لنستطيع أن نؤسِّس لتخطيط استراتيجي محكم ليس له علاقة بنظرية المؤامرة والاستهداف، وقائم على العلم والعمل والإدراك.
فهم الواقع
يجب أن نؤسِّس لخطاب إعلامي واقعي قائم على المعلوماتية الحقيقية والإدراك ومعرفة عدونا الحقيقي، إن كان في داخل الأوطان أو خارجها؛ فالجهل داخل الوطن العربي أكبر عدو للأمة. علينا أن نؤسِّسَ لقيام المنظومة المتوازنة من المعايير التي يُعتمَد عليها في إدارة الأزمة، وكذلك بنك معرفة عربي يُستند إليه في إدارة ما بعد الأزمة. إنَّ التوثيق هو ذاكرة الأمة؛ لأجل فهم الواقع والتخطيط للمستقبل، وكشف الحقائق، وليس للتباكي ولا للتباهي؛ هو مصدر للمعلومات والمعرفة وقاعدة لبناء منظومة التخطيط الاستراتيجي.
إنَّ العمل في مجال التوثيق التحليلي يوجب على المشتغل به النظر بعين العقل لا الأذن في ما يخص الأحكام وإصدارها ونشر معلوماتها. ومن ضمن أهم المعايير حتى لا يكون هذا البحث تنظيرياً فقط:
1- الوعي الديني
فهو عنصر مهم في استجماع وربط الأحداث من خلال الموروث الديني القائم على التحري والتأكد والاستنباط والبعد عن الافتراء، وفهم حقيقي للرسالة السماوية الواحدة، وما تبعها من أحداث دينية وتغيرات مذهبية وتحول في الفكر الديني (يهودي، مسيحي، إسلامي)، وضمن فهم معرفي.
2- الوعي الجغرافي
إنَّ أهمية الاطلاع على الجغرافيا في إعمال التوثيق مؤشر ناعم للفهم الترابطي بين الأحداث والتواريخ وما يجمع بينها من مورثات، وهو مصدر مهم لفهم العادات والتقاليد والتشابك الاجتماعي، وكذلك الطبيعة الإنسانية التي تميِّز شعباً عن شعب، وكذلك أهمية الموقع الجغرافي في التخطيط العالمي وفهم طبيعة إدارة المصالح.
3- الوعي التاريخي
إنَّ تلقي معلومات جديدة مغايرة للمعلومات التي تكوَّنت وتشكَّل منها الجدار الناري؛ والعمق المعرفي والحكمي للعقل الباطن في الحكم على الأشياء والأحداث والأشخاص، له أثر كبير في إعادة ترتيب الحقائق بعيداً عن الاستهداف، وإنَّ تشبيكاً حقيقياً للمعلومات التاريخية مع الأحداث المتفرعة منها وعنها وما يؤسِّس له من تاريخ سمعي أو نقل سياسي تاريخي يجب أن يؤخَذَ بعين الاعتبار.
4- الوعي الثقافي
إنَّ إدراك وفهم ثقافة شعب عن شعب، أو أمة عن أمة، يوفِّر أدوات التحليل الناجز الذي من خلاله يتم ربط كل الخيوط المتوافرة فيما بين يدي الموثق، كما أنَّ القراءة المتنورة والتوسُّع في فهم الثقافة من جوانبها الموروثة أو المكتسبة عبر الكتابات وتوسعها في مصادر الكتابة عنها من أهم الأسس.
5- الوعي بالتوقيت (الوقت الزمني)
إنَّ إدارة العملية التوثيقية يجب أن يلازمها بدون أيِّ ملابسات فهم لتسلسل القرارات والأهم تواريخها ومعرفة مواقيت اتخاذها، وسبب اتخاذها وإشكالية التعامل مع الوقت في اتخاذ هذه القرارات؛ لأنَّ الأخطر من الحدث هو توقيته.
6- الإدراك والفهم المجرد
إنَّ المشتغل بعلم التوثيق يجب أن يكون لديه القدرة على البحث والتأصيل والفهم العميق في إدارة معلوماته التي يعمل عليها مع كل تلك المعايير الناظمة لإدارة منظومة الإخراج النهائي؛ فإنَّ أيَّ إنسان في هذا الكون يستطيع أن ينقلَ الحدث من الزاوية التي يريد أن يراها الآخرون بعين نقلها السمعي، مع إغفال أو استغفال للزاوية الأخرى التي تحيط بهذا الحدث. وإنَّ احتكار الحقيقة والادعاء المطلق بها من كوارث وآفات العلوم؛ لأنَّ الحقيقة المطلقة هي من الاختصاص الإلهي، فكل شخص في هذا العالم يعتقد الحقيقة بالشكل الذي يصله من المعلومات عنها أولاً، وبما يستطيع العقل من إدراكه وتحويله إلى وعي ثانياً.
خاتمة كل ذلك، أنه قد ترسَّخ عندي أنَّ الحقيقة كالألماس؛ من حيثما تنظر لها ترى انعكاس ما حولها عليها؛ فهي ليست مجردة من انعكاس البيئة والحفظ والإضاءة الساطعة عليها وتغير وتعدد الألوان فيها.
إنَّ الحديث عن تفسير الأحداث وكتابتها دائما ًما يُروج على أنها الحقيقة المطلقة، ويُدافع ويقاتل مطلقها عنها بكل شراسة، وتكون أكثر تأثيراً إذا ما أُسندت من وسائل الإعلام والتأثير السمعي والانتشار النقلي، أو إذا تبنتها حكومات ودول معينة.
سيكون الحديث دائماً بأنَّ حكم وتقدير وفهم مطلق لهذه المعلومات مقدَّس، وبأنها الفيصل، وبأنَّ أيَّ تبرير أو فهم آخر سيكون محكوماً عليه بالقصور وسوء الفهم والتقدير، وبأنه لا يمتُّ للحقيقة بصلة.
دائماً ما كان يطلبُ منا أن نُبقيَ عقولُنا مغلقةً وآذاننا مفتوحة؛ لكي تصبحَ المعلومات والأحكام راسخة بالسمع والنقل، مستقرة في الوجدان قبل العقل، وإذا ما تجرأت وحاولت أن تُعيدَ صياغة تلك المعلومات فإنك لن تعرفَ من تعارك ومع من تتحاور.
فبعضهم يعتقد أنَّ المعلومات إذا مسَّت موضوعاً أو شخصاً ما بعينه، وإن كانت حقيقية، فإنها إن خالفت ما هو رائج من المعلومات عن ذلك الموضوع أو الشخص، فإنَّ ذلك يعني الانتقاص من بلده وشعبه، ولن يسمح بأن يتمَّ إعادة تأهيل المعلومات بأي طريقة كانت حتى لو قُدِّمَت معها كلُّ الوثائق والوقائع والبراهين.
إنَّ البعد النفسي خصوصاً، والإنساني عموماً، للإنسان العربي من الممكن أن يُعزّزَ أو يُشوّه بعيداً عن الأداء الحقيقي في الحكم والتعامل على ومع الشخصيات العامة، وكذلك الأحداث التاريخية؛ حيث يرفض الإنسان في عقله الباطن الهزيمة، وكذلك يرفض أن يعترفَ ببطولة الآخرين، ومرد ذلك إلى ما يحمله من جوانب نفسية (رغبات، دوافع، صور ذهنية، خبرة نفسية،…) تجاه التعامل مع الآخرين، وخصوصا ًالإنسان العربي الذي يستند في حكمه إلى الشعور بمرارة الظلم والطغيان التي عاشها خلال الحقب الماضية ومن التهميش والنسيان والتجهيل.
التوثيق هو المخرج الحقيقي للخروج من منظومة الزيف والكذب والافتراء التي لا يمكن أن تقود إلى التقدّم والمستقبل الأفضل للأمة والشعوب العربية.