الجغرافي المؤرخ الإماراتي

مجلة مدارات ونقوش – العدد 18 - 19 هالات

 1,355 عدد المشاهدات

الكاتب: جمال بن حويرب

لم أجد مع طول بحثي في سِيَر أعلام الخليج العربي، وخاصة دولة الإمارات العربية المتحدة منذ سنين طويلة مَن عُرِفَ بعلم الجغرافيا وله معرفةٌ تامَّةٌ برسم الخرائط الصحيحة، كما عُرِفَ بها علماءُ الإسلام الجغرافيون الأوائل في القرون الأولى الذين تابعوا جهود الجغرافيين الإغريق وأبدعوا فيها جداً، ثمَّ جاء من بعدهم الجغرافيون الأوروبيون واعتمدوا على ما خلفه العرب من «صور» كما كانت تسمّى عند الجغرافيين العرب، وهذا اسمُها منذ أيام الحجاج بن يوسف الثقفي فيقولون: «صورة الأرض»، ثمَّ شاعت مفردة «خارطة» وهي ترجمة من اللغة اللاتينية carta»» وتعني الورقة، وكان ذلك في عهد الترجمة الحديثة في زمن محمد علي، ثمَّ اعترض اللغويون عليها؛ بسبب عدمِ وجودِ أصلٍ لها واستبدلوها بمفردة «خريطة» التي لها أصل في العربية وتعني الوعاء من الجلد، ولأنها أقرب إلى مفردة «خارطة» المترجمة حرفياً من اللاتينية، ولم يَعُدْ بالإمكان العودة إلى مفردة «صورة»؛ لأنَّ العامَّة استخدمتها بمعنى الصور الفوتوغرافية بعد ذلك.

ويقال إنَّ أوَّلَ خارطةٍ تمَّ رسمُها في الإسلام كانت في زمن الحجاج، حيث طلب من قائده قتيبة بن مسلم الباهلي رسم خريطة لبخارى «صورة»، وقد طال حصارها، ليعينه برأيه عندما أرسله لفتح بلاد ما وراء النهرين؛ فأعانه برأيه وتمَّ له النصرُ. وإذا صحَّ هذا الخبر فإنَّ هذه الخريطة تكون أوَّلَ خريطةٍ رُسِمَت في الإسلام (سنة 90 هجرية) فيما ذكره الباحثون. ثمَّ توالت الخرائط بعد ذلك خاصة في عهد الخليفة العباسي المأمون، وأصبح هذا العلم يشغلُ اهتمامَ علماء المسلمين؛ لأنَّ فيه تسهيلاً لمعرفة أماكن السكّان لجمع الخراج والزكاة، وبسبب اتساع بلاد الخلافة والاهتمام الكبير بالنظام الإداري احتاجوا إلى خرائط تعينهم على تنظيم أعمالهم. ومن بين أهم العوامل التي أدّت إلى رواج حركة رسم الخرائط، معرفة الطريق إلى مكة والمدينة؛ ولأنَّ المسلمين في مساحة جغرافية كبيرة، أراد علماء الإسلام- بتكليف من الخلفاء- تسهيل سفر المسلمين لأداء مناسك الحج وكذلك لطرق التجارة العالمية، وكانت لحركة الترجمة التي قادها العباسيون دورٌ كبيرٌ في رواج رسم الخرائط؛ فطوَّروا الخرائط البدائية الإغريقية ووصلوا بها إلى القمة؛ فخرجت خريطة المأمون للأرض، والتي رسمها علماء عصره، معتمدين على النهج الإغريقي، وخريطة لنهر النيل ومصر، وُجِدَت في كتاب الخوارزمي «صورة الأرض». وجاء البلخي والاصطخري وابن حوقل في القرن الرابع الهجري وأكملوا مسيرة الخرائط التفصيلية المميزة التي ليس لها مثيلٌ في عصرها، وقد اعتمدوا الشمال في أسفل الخريطة والجنوب أعلاها والغرب يمناها والشرق يسراها، وهذا يخالف الخرائط الحديثة، ومن تعوَّد على الخرائط الحديثة يصعب عليه قراءة الخرائط العربية القديمة لهذا السبب. هذا، ويعدُّ العلّامة الإدريسي الجغرافي (493-560هـ) صاحبَ ثورة رسم الخرائط، حيث أخرج للناس خريطةً عجيبةً نقشها على قرصٍ من الفضة، بيَّن فيها الأقاليم السبعة المعروفة حينذاك، وذكر بلدانها وتفاصيلها، ثمَّ أخرج كتابه العجيب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» وشرح فيه خريطته، ووصف البلدان والناس وزينها بسبعين خريطة دقيقة، ما جعل هذا العلم أقرب للناس وأسهل، وكلُّ مَن أتى مِن بعده فللإدريسي فضلٌ عليه، رحمه الله.

خارطة الإدريسي

وإذا عرفنا الاهتمام الكبير برسم الخرائط عند العلماء الأوائل، والآن ما نشاهده من تطوُّر كبيرُ في مجال الخرائط، حتى بلغ أدقَّ التفاصيل التي تقوم عليها أعمدة السياسة والاقتصاد والحروب والثقافة، فلماذا لا أجد هذا الاهتمام عند شبابنا الإماراتي ولا حتى الخليجي؟! هذا في الخرائط الحديثة. أمّا في الخرائط القديمة وفهمها واستخراج دررها وعدم الوصول إلى نتائج خاطئة فيها؛ بسبب الجهل أو الغفلة أو التسرُّع في الأحكام من دون دراية في علم الخرائط، فهذا ما يدعو إلى قرع ناقوس الخطر، وتنبيه القوم الغافلين لهذا العلم المهم، وتكوين خطة شاملة تشمل المدارس والجامعات ومراكز الأبحاث، لبعث علماء إماراتيين متخصِّصين في الخرائط القديمة والحديثة؛ حتى نستفيدَ منهم في مجال التاريخ والمجالات الأخرى قبل أن تكثرَ المفاهيم الخاطئة.