1,777 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
في كل يومٍ يزيدُ يقيني بأنَّ لهجتنا العامية معينٌ لا ينضبُ للغة العربية، بل تفسِّر لهجتنا كثيراً من مفرداتها، شاء من شاء وأبى من أبى، فلولاها ما تكلّمنا الفصحى إلا بشقّ الأنفس، ولولاها لكنا نخلط بين الذكر والأنثى، كما يفعل الأعاجم، ولولاها لما تمكنّا من فهم مفردات اللغة وقد نُصِيبُ المعنى أو نخطئه؛ فمن كان هندياً وتعلّم الفصاحة فسيبقى يفكّر بالهندية ويترجم ما فكّر به إلى العربية فيخرج كلامه ركيكاً لا فائدة فيه.
من الطرائف أني التقيت شاعراً باكستانياً له وزنه وقدره عند قومه، وقد طبع دواوين بالأردية والفارسية واللاهورية، وهي لسانه، وكذلك العربية وقلت له: كيف استطعت أن تكتب بكلِّ هذه اللغات فقال: فتحٌ من الله، وأحبُّ أن أخبرك بأني عارضت جميع المعلقات الجاهلية بشعر جزلٍ جميلٍ، فقلت: أَنْشِدْنِي، فلما أنشدها كادت نفسي تهيع من ثقل ما سمعت، فقلت: الحمدلله على نعمة اللسان العربي ولو كان شعبياً، ثمَّ ما فتأ حتى أخرج “البان”، وهو ورق أخضر فيه حمرة يمضغه أهل الهند، فتعجبت منه وقلت له: تمضغ هذا وأنت الشاعر الكبير! فهزّ رأسه وأنشد مطلع نهج البردة لشوقي:
رِيمٌ عَلَى الْقَاعِ بَيْنَ الْبَانِ والْعَلَمِ
أَحَلّ سَفْكَ دَمِي فِي الأَشْهُرِ الْحُرُمِ
ونطق البان بالباء الفارسية، يظنُّ المسكينُ أنّ البان في بيت شوقي هو نفس البان الذي يمضغه، ثمَّ تركته وأنا في عجبٍ منه .
تاريخ ومعجم
الحالوسة لعبة بدوية عربية قديمة قدم تاريخ الألعاب العربية، يلعبها الصبيان وقد يلعبها الكبار، وهي لعبة قائمة على الذكاء والفطنة والصبر؛ أستطيعُ أن أُطْلِقَ عليها شطرنج العرب، ولكنها لا تحتاج إلى مجسّمات ولا إلى طاولة فخمة تصفُّ عليها المجسّمات الخشبية، فالحالوسة لا تحتاج إلا إلى لاعبيْن اثنيْن ورملٍ بأرضٍ سهلةٍ و 5 بعراتٍ، أعزكم الله، و 5 حُفر، وقد تزيد فتجعل البعر في حفرةٍ، ثمَّ يقوم اللاعبان بالتناوب على أخذ البعر ووضعه في الحفر، فإذا بقيت بعرتان أخذهما اللاعب ووضعهما أمامه، وإذا بقيت واحدة تركها، وفي آخر اللعبة من زاد عدد بعره فاز وغلب صاحبه. وهي كما ذكرت لعبة ذكاء لا يزال البدو يلعبونها، وقد تطوّع بعض الدارسين للهجتنا فذكر الحالوسة ولم يجد لها معنى، ثمَّ ذكر الحلس؛ وهو السهم الرابع من سهام الميسر في المعجم العربي، كأنه يشير بأنَّ الحالوسة مشتقة من هذا السهم وهذا غريب، وما شأن الحلس رابع سهام الميسر بهذه اللعبة! وإنما هو تخبُّطٌ يفعله كثيرٌ ممَّن اقتحموا دراسة لهجتنا من غير علمٍ ولا درايةٍ.
في الشعر
كما ذكرتُ في أوَّل مقالتي بأنَّ اللهجة مفسّرةٌ للفصحى والعكس صحيح أيضاً؛ فقد جاء في معجم العباب الزاخر: الحَوَالِس لعبة الصبيان العرب وهي أن يُبَيَّتَ خمسة أبيات «حفر» في أرض سهلة؛ ويُجمَع في كلِّ بيت خمس بَعَرات وبينها خمسة أبيات ليس فيها شيء، ثمَّ يُجَرُّ البعر إليها والحالس خطٌ منها. قــال عبدالله بن الزبير الأسَدِيّ:
وأسلَمَني حِلْمي وبِتُّ كـأنَّـنـي
أخو مَرِنٍ يُلْهيه ضَربُ الحَوالِسِ
قلت: الحوالس جمعٌ ولم يعرف أصحاب المعاجم العربية كيف كانوا يلعبونها ولا المفرد منها، ولكن لهجتنا بيّنت المفرد فقالت حالوسة، وبينت أيضاً كيفية اللعب بها.