الخيول العربية في الوثائق العثمانية

Business الخيول العربية مجلة مدارات ونقوش – العدد 13

 2,908 عدد المشاهدات

الكاتب: البروفسور زكريا كورشون

إنَّ للخيول، التي هي من أجمل مخلوقات الخالق وأبدعها تصويراً، مكانةً مرموقةً وقيَّمةً رفيعةً في جميع الثقافات. فقد لعبت الخيول دوراً بارزاً في حياة الأتراك في آسيا الوسطى، فما من قصة عنهم إلا وذُكِرَت فيها الخيول. تقدَّم الأتراك نحو الغرب على صهوات خيولهم إلى أن وصلوا أواسط أوروبا، فحازت الخيول تبعاً لذلك ثقلاً كبيراً في الأدب التركي، ونظم الأتراك فيها الأشعار، وكتبوا عنها الحكايات وخلدوها في تراثهم.

تعرَّف الأتراك إلى الخيول العربية مع بداية هجراتهم نحو الغرب في العصور الوسطى، وتشير الوقائع إلى أنَّ الأتراك السلاجقة هم أوائل الأتراك الذين استخدموا الخيول العربية في جيوشهم وفتوحاتهم، ثمَّ انتقل هذا التقليد من بعدهم إلى الأتراك العثمانيين، فصارت الخيول العربية تمثِّل عنصراً أساسياً في حياتهم اليومية والعسكرية، وانعكس هذا الأمرُ بشكلٍ مباشرٍ في أدبهم. لقد توسَّع العثمانيون في القارات الثلاث قائلين: «تُقَرِّب الخيول العربية البعيد»، وبالتالي لا بدَّ من السؤال: كيف استفاد العثمانيون من الخيول العربية في فتوحاتهم؟ هنالك العديد من الوثائق في الأرشيف العثماني التي يمكن أن تكون جواباً عن هذا السؤال، لكن من غير الممكن التطرُّق إلى كلِّ تلك الوثائق في هذه المقالة، لذا سيتمُّ الاكتفاء بتناول الوثائق المُؤَرِّخَةِ للنصف الثاني من القرن التاسع عشر، وشرح مكانة الخيول العربية لدى العثمانيين من خلالها.

لمحات من الوثائق العثمانية حول الخيول العربية

يعدُّ القرن التاسع عشر بالنسبة إلى الدولة العثمانية عصرَ العمل الدبلوماسي أكثر من كونه حقبةَ نشاطٍ عسكري، فقد انصبَّ التركيزُ بشكلٍ أكبرَ نحو تأسيس وتوطيد العلاقات مع الدول الأجنبية، ولتحقيق هذه الغاية كانت الخيول العربية من أكثر أنواع الهدايا التي بعثها السلاطين العثمانيون للملوك والملكات والأمراء وأصحاب النفوذ، وفي هذا الصدد تشير الوثائق العثمانية إلى إرسال هدايا من الخيول إلى قيصر روسيا ورؤساء فرنسا، وإيطاليا وألمانيا. ومن المعلوم أيضاً اصطحاب السلطان عبد العزيز خان خلال جولته الأوروبية في سنة 1867م عدداً من الخيول العربية، ليهديها للملوك والملكات والأمراء.

ازدادت الحاجة إلى الخيول العربية مع التحوُّل إلى الجيش النظامي في الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، وتأسيس معسكرات له في مناطق مختلفة، فبدأت الدولة الاهتمام بتربية الخيول العربية ودعمت مُربّي الخيول في سوريا والعراق والبصرة ونجد، كما أنَّ الأمراء والوجهاء من تلك المناطق كانوا يرسلون بين الفينة والأخرى الأصيل من الخيل للسلاطين العثمانيين. كما عُرِفَ عن  السلطان عبدالحميد الثاني تربيته للخيول العربية الأصيلة في مزارعه الخاصة، وقد وظَّف لهذا الأمر خبيراً يُدعى «مظفر باشا» الذي قام بدوره بالتواصل مع بعض شيوخ القبائل العربية المهتمين بتربية الخيول، واستفاد منهم في تحصيل المعلومات وتوريد المِهار «صغار الخيول» الأصيلة بهدف تربية نوعية جيدة من الخيول.

كانت الخيول التي تُبْعَثُ كهدايا للسلطان تُرْسَل معها شجيرات أنسابها، وفي الغالب تكون منسوبة لخمسة خيول يروى أنها كانت للرسول صلى الله عليه وسلم، لكن ظهور شجيرات أنساب مزيفة من وقتٍ لآخر دعا إلى تقييد أنساب الخيول العربية بالوثائق، وفي هذا السياق قام السيد محمد غالب بن جاري بإعداد قائمة توضِّح أنساب الخيول العربية وقدَّمها للسلطان عبدالحميد الثاني.

في سياق آخر، ولدت رغبات الأوروبيين في الحصول على خيول عربية مشكلة أخرى، حيث بدأ الملوك والملكات والأغنياء المعجبون بالخيول العربية في إرسال المندوبين والتجار إلى بغداد والبصرة ونجد لجمع الخيول لهم. انتشرت هذه الظاهرة لدرجة أدَّت إلى أن تحظر الدولة العثمانية تصدير الخيول العربية إلى الخارج، فقد كانت الخيول العربية الأصيلة تُباع بمبالغَ باهظةٍ لتصدَّر إلى الدول الأجنبية. وفي ظل وضع كهذا، إذا لم يكن معدل تربية الخيول مساوياً للمُصدَّرِ منها، فإنَّ انقطاع نسلها هو أمرٌ حتميٌّ، لذلك كان الالتزام بقرار المنع قوياً، فلم يكن يُسمَح بتمرير الخيول العربية من النقاط الجمركية، أمام هذا الوضع أُضطر عددٌ من وجهاء أوروبا إلى أخذ أذونات خاصة من السلطان للحصول على فرس أو فرسين عربيين.

وثيقة عثمانية تبين سلالات الخيول العربية
وثيقة عثمانية تبين سلالات الخيول العربية

ولَّد حظرُ تصدير الخيول العربية إلى الخارج ظاهرةَ التهريب في تجارتها، حيث عمل بعض التجار الأوروبيين على إغراء مُربّي الخيول العربية بضِعف أسعارها، ومن ثمَّ تهريبها من مواقع لا تتوافر فيها مراكز جمركية، وكانت «مُحمّرة» هي أكثر المناطق التي انتشرت فيها هذه الظاهرة. وحسب تقارير الاستخبارات للعام 1879م، فقد تمَّ اكتشاف تهريب عددٌ كبيرٌ من الخيول العربية إلى الهند بواسطة الممثِّل السياسي الإيراني عبر «مُحمّرة»، ولمحاربة الظاهرة سعى موظفو الدولة والإداريون المحليون إلى البحث عن حلول أخرى، وبجانب التدابير الأمنية المتخذة تمَّ الشروع في منح مكافآت لكلِّ من يخبر عن عمليات تهريب الخيول العربية. ورغم الحظر والتدابير الأمنية لم يكن بالمقدور منع تهريب الخيول العربية.

كما سعى الأوروبيون والأمريكان إلى إصلاح خيولهم بتهجينها بالخيول العربية، فقد أشارت الوثائق العثمانية إلى أنَّ خيول «أورلوف» و«ريسبتشين» التي يتمُّ تربيتها في المزارع الأوروبية هي هجين من الخيول العربية.

وثائق عثمانية تدل على اهتمام كبير بالخيول العربية
وثائق عثمانية تدل على اهتمام كبير بالخيول العربية

الخيول العربية في معارض باريس وشيكاغو

إنَّ السمعة الطيبة التي حازتها الخيول العربية في مختلف أنحاء العالم شجَّعت العثمانيين على التعريف بها في المعارض الأوروبية، حيث تمَّ عرضها في عدة معارض أقيمت في مدن أوروبية وأمريكية لعرض منتجات الدول، وكانت أقسام الخيول العربية الأكثر جذباً للزوّار في تلك المعارض التي حظيت باهتمام عالمي كبير.

عرضت الدولة العثمانية الخيول العربية لأول مرة في عام 1893م في معرض شيكاغو في الولايات المتحدة الأمريكية، الذي يعدُّ  أكبر المعارض العالمية آنذاك، حيث تمَّ إرسال 40 فرساً مع فرسانها، وعُرِضَت في زاوية أُطْلِقَ عليها اسم «ساحة الخيول العثمانية»، وكان قبول إرسال هذه الخيول للمشاركة بها في المعرض مشروطاً بإعادتها وعدم تركها هناك أو بيعها.

هذا المعرض الذي أقيم بمناسبة الذكرى الـ400 لاكتشاف «كرستوفر كولمبوس» أمريكا، شاركت فيه وفود من مختلف أنحاء العالم، ولفتت الخيول العربية في المعرض انتباههم ونالت إعجابهم. بهذا الشكل ضربت سمعة الخيول العربية الطيبة الآفاق.

كما شارك العثمانيون في معرض باريس العالمي عام 1900م بإرسال أنواع معينة من الخيول من الدرجة الثانية للتعريف بها، وأُعِدَّ كتيّبٌ مفصّل عن الخيول المشاركة، كُتِبَت فيه أنساب الخيول، وألوانها، وأعمارها، وقاماتها وأماكن تربيتها، ويحتوي الكتيّبُ على معلوماتٍ للتعريف بالخيول العربية وُضِعَت فيه هذه الفقرة: «لأنَّ الخيولَ العربيَّةَ معتادةٌ على العيش مع الإنسان في حياته اليومية، فهي تبدو كسولةً في زمان استراحتها، ولكن بمجرد ما أن يمتطي الفارس صهوتها تكشف أصالتها وكبرياءها، وكأنها تؤكِّد بذلك قيمة ممتطيها».