8,195 عدد المشاهدات
الكاتب: أحمد علي حمد الأمير
تزخر الأحساء- شرق السعودية- بمختلف الحرف الغائرة عراقتها في عمق التاريخ، والشائع صيت جودتها في أرجاء شبه الجزيرة العربية والإقبال عليها من حاضرة وبادية، ومنها حرفة الصِّفارة، حيث اُشْتُهِرَت الأحساء بصِفارة الدلة الحساوية التي عُرِفَت بجمالها وإتقانها ودقة تفاصيلها والنقوش التي تحاكي البيئة المحيطة بالحرفي الأحسائي، المليئة بالنخلة والزاخرة بالعمارة الأحسائية الظاهرة في القلاع والمساجد والبيوت القديمة التي انعكست على شكل الدلة، حيث تحدَّث عن جمالها وإتقانها طبيب الإرسالية الأمريكية بول هاريسون الذي زار الأحساء عام 1919.
رمز الكرم والضيافة
الاهتمام بصفارة الدلة الحساوية بهذا الجمال والإتقان، لما تحظى به الدلة من مكانة عند العرب، حيث تُعَدُّ رمز الكرم والضيافة، والتي تزدان بها مجالسهم العربية التي تضم تشكيلة واسعة من الدلال التي تُقدَّمُ فيها القهوة العربية، والتي تُطْهَى أمام ضيوفهم بحمس القهوة على النار في مكان مخصَّص في المجلس يسمّى «وچاغ» ودقها في النجر بعد تبريدها، بنغم جميل علامة على استقبال الضيوف، لينتظرها ثلاثة أحجام من الدلال؛ الأولى دلة ضخمة تؤدي مهمة الغلاية، وتسمّى «خمرة»، كما تسمّى «مطابخة»، حيث تظل مملوءة بالماء فوق النار في المجالس الكبيرة لتكون جاهزة لإعداد القهوة في أي وقت، والدلة الثانية أصغر حجماً منها، وتسمّى «لقمة»، حيث تُلقّم القهوة فيها لغليها بعد إضافة الماء من الخمرة لتشعَّ رائحتها الزاكية في أرجاء المجلس، والثالثة دلة صغيرة رشيقة تسمّى «مزل»، حيث تُزل (تُسْكَب) القهوة فيها بعد غليها في اللقمة، كما تسمّى أيضاً «مَصبّ»، حيث تُمْسَك الدلة باليد اليسرى والفناجين الصغيرة باليد اليمنى، ويُدار بالدلة في المجالس ليقدم فيها القهوة العربية بأسلوب ينمُّ على الاحترام والتقدير لشاربيها وقبول زيارتهم، حيث قد لا تقدم القهوة العربية للضيف دلالة على عدم قبول زيارته، وقد لا يشرب الضيف فنجان قهوته إلا بعد أن يراهن عليها بقبول الطلب الذي أتى من أجله، فغالباً تُلبَّى حاجته طالما راهن على شرب قهوة صاحب المجلس لما لها من رمزية عند العرب، ودلالة على كرمهم وجودهم وحسن ضيافتهم، كما يُدعى الضيف إلى المجلس بعبارة شائعة عند العرب «تفضل تقهوى»، فالقهوة العربية في ذلك الفنجان الصغير، لها معنى كبير في نفوس العرب بما تمثِّله من كرم وضيافة وجود، فالدلة رمز ذلك كله، فحظيت باهتمام في صفارتها، كالدلة الحساوية، وفي اقتنائها، حيث يفتخر كلُّ صاحب بيت ذي شأن بمجموعة الدلال التي يقتنيها في مجلسه، ليقدم بها القهوة العربية التي يُضيِّفُ بها زائريه بكل حفاوة وتقدير على وقع تصادم تلك الفناجين الصغيرة بالدلة، وبين رائحتها الزاكية وسيمفونية حمس القهوة ودقّها أمام المضيف، في مشهد هيَّج قريحة بعض الشعراء، ومن ذلك ما نقله الباحث التراثي الأستاذ أحمد البقشي من نظم الشاعر الأحسائي سليم العبد الحي (ت 1320) عن مشهد عمل القهوة في الدلة القريشية:
بنيت عدل القاف في طلح قرطاس
لعيون من حازت كثير النواميس
وحييتها ما حن بالسحب رجَاس
وعداد ما زاف الحيا بالطعاميس
وعد ما جلبت بالأسواق الأجناس
وعد ما هبَت هبوب النسانيس
وما استلم ركن الحرم كفَ لمَاس
وما سرى الخَريت وسط الخراميس
وما اكتسب يوم الوغى الذرب نوماس
والخيل من لفح العريني مراويس
وعد ما كرب على القود مسَاس
أوزجَ حبر الزاج فوق القراطيس
رأس اليراع بكفَ من شيد الساس
يبني المثايل ما يرى به تعاميس
وترحيب أحليمن لما عرب الأجناس
في فاه صبّ نال منة التعاويس
وأنوح عبير من شذا المسك لأناس
بجعود غطروف أردوفه متاريس
وأبهى من اللولو بسلك من اللاس
بغرر حفيين بدار المعاريس
بالقهوة اللي شأنها هامة الراس
مقامها يرفع إلى غير هاديس
اللي لها أربع ادلال ومهراس
وتشم عنبر طيبها في المحاميس
فإن زل صافيها على كفه الكاس
يشبه لدم أدمية بالتجانيس
فالى وزن لك صاحب البن بقياس
خمسة فناجيل تزول الهواجيس
فإن عدت فيها مشقى عايم الراس
وأيديك من درهم ثمنها مفاليس
وإلا بفطر الصوم هذاك لاباس
إن رمت من عشيقتك زود تهليس
تلقى بناديها المناعير جلاس
عيون الحرار وفِي الملاقي فواعيس
واللاش عن ميدانها يعطي أطساس
ويعمي نظيره دوم ويقال لإبليس
عندي لها لامن قزا كل خناس
رعن المراجل ادنق العفن وأمكيس
سبعة فناجيل ونجر ومحماس
وأربع أدلال في شقاها مطاحيس
وَيَا مالها شبيت في الكير مقياس
نار العضا وأرخيت لأثمانها الكيس
ما يحتظى بالمرجلة ساير الناس
والجود ما جاء دون بابه حراريس
يا ساعي في البن ان عدت حماس
أخذه بهون وسايس الحمس تسييس
فإن شفت حبه يقذف الدهن ملاس
فكفه قبل تحرق لها النار وتحيس
ودقه بمهراس كما دقة الطاس
صوته يقود أمرويين العبابيس
ولقم دقيق البن في دلة انحاس
مسلوبة دقه استاد بتهبيس
فالى تبين لك كما دفق الاوراس
نكس اغطا غرنوقة الصفر تنكيس
وراكه ودون ابهار منزوه الادناس
هيل ومسمار وكب الدنافيس
وزله من اللقمة برفق وله راس
واحذر يجي به من سريبه لحاويس
في دلة مثعوبها كنه الفاس
قريشية ما قبلوها الدلاليس
تكوين الدلة الحساوية
تتكوَّن الدلة الحساوية من جسد وغطاء يتصلان ببعضهما بواسطة قطعة نحاسية تسمّى «العقرب»:
أولاً- جسد الدلة:
ويُعرَف بمصطلح الصفارين بالـ«بدن»، ويبدأ من الأعلى بفوهة دائرية تكون قاعدة لتلك الغطاء، وينساب من تلك الفوهة مصب على شكل ميزاب يسمّى «خشم الدلة» يسمح بنزول القهوة عند انحناء الدلة بسلاسة كالخيط الرفيع لتنساب على ذلك الفنجان الصغير وسقوطها فيه كالدمعة، وقد يغطي المصب برقع نحاسي. وفي أعلى البدن «خد» يطوق تلك الفوهة من الخارج، وإلى أسفل يتقلص قطر الدلة في حالة تخصير للجسم ليضفي تلك الجمالية ويسمّى «خصر»، ثمَّ ينتهي الجسد بالقعر كقاعدة للدلة، وتُعْرَف بمصطلح الصفارين (قاعة)، حيث يزداد قطرها مرة أخرى ليزيد على الفوهة، كما يُثبّت على جسد الدلة مقبض يسمّى «عروة» ليسهل عملية مسك الدلة وتقديم القهوة فيها بتحكُّم وأمان.
ثانياً- غطاء الدلة: وله شكلٌ مقبَّبٌ ذو انحناء في بعض الدلال، ومدرّج في بعضها الآخر، تعتلي القبة مئذنة نحاسية تنتهي بقطعة نحاسية مدببة تسمّى «دقمة أو قرط»، كما يغلف تجويف الغطاء من الداخل بصفيحة نحاسية رقيقة تسمّى «لهاة». وكلٌّ صفار له تصميمه الخاص للدقمة والعقرب والممسك، لأنه يقوم بصبّها في قوالب يُصنِّعها بنفسه تسمّى «ديرچة».
جمال الدلة الحساوية
الدلة الحساوية يتم عملها ونقشها بكل براعة وإتقان، ليضفي ذلك الجمال الذي يحاكي ذلك الغنج بدلال القهوة العربية والتفاخر باقتنائها، والتي تزدان بها روازن المجالس العربية الأصيلة في هرمية وتناسق جميل من الصغير إلى الكبير وبأنواع مختلفة وأطقم متعددة، فيرى هواة ومقتنو الدلال الحساوية المعاصرون، أنَّ الصفار الحساوي جسَّد جسم المرأة في صناعته للدلة، حيث نقل الباحث التراثي الأستاذ أحمد البقشي (أنَّ الصفار الحساوي، وإن لم يكن شاعراً يجسّد أنثاه في لغة شعرية، فقد جسّدها في صناعته للدلة، فعندما صمّم الدلة استهلَّ تصميمها من جسد المرأة بأعلى المواصفات الجمالية وفق الذوق العربي الرفيع المتمثل في الخصر النحيل، والوسط الممتلئ في تمايز جميلٍ يبرز كل منها جمال الآخر، فخصر الدلة الحساوية يرمز لخصر المرأة، وقاعها يرمز للردف الممتلئ، والمصبّ يرمز ليدٍ ممدودة مرحبة، والمَمْسَك يحاكي ثني يدٍ أخرى تمسك بالخصر، والقبة والمئذنة ترمزان إلى حالةٍ تزيين مُحْكمة، وعنفوان يحاكي ارتفاع المئذنة، وكل ذلك يحاكي فاتنة تقف بهذه الوضعية الغَنِجَة وتقول هيت لك!).
صفار الدلة الحساوية
اشتهرت الدلال الحساوية بتنوع أشكالها وأحجامها، حيث اختص بصفارتها عدد من العائلات الحساوية، وكل عائلة منها اختصت بشكل من الدلال الحساوية وعرفت بهؤلاء الصفارين، فهناك الدلة الحساوية القرينة نسبة إلى عائلة القريني، وهناك دلة حساوية كويتية نسبة إلى عائلة الكويتي في الأحساء، كما عُرفت بعض الدلال الحساوية باسم الصفار نفسه لإتقانه المتناهي مثل محمد علي العيسى، ودلة طاهر، ودلة بومجداد والأشول، ودلة قاسم الذي برع في نقش الدلة الحساوية على النحاس الأصفر الرقيق بنقوش تحاكي بيئته الخضراء كتجريد أجزاء النخلة بمهارة عالية لا تبعد عن أنه فنان حقيقي وصلت شهرته الآفاق، أما الدلة القريشية فتنتسب إلى البنت القرشية لجمالها، فهناك دلة قريشية حساوية وبحرينية وإماراتية وعمانية وتسمّى قريشية، حيث تمتاز بجمالية فائقة، يُبالغ في عملها وتزيينها بالأطواق المنقوشة التي قد تكون نحاساً أو فضة أو ذهباً في بعض الأحيان، وتُعَدُّ الدلة القريشية الأثمن بين الدلال. ومن الصفارين من يوثّق عمله على الدلة ليُخلِّد اسمه اعتزازاً بعمله لتصبح ماركة مسجلة باسمه مثل قاسم، وأبناء قاسم من بعده الذين اختصوا بعمل أطقم صغيرة من الدلال الحساوية كتذكار (سوفنير) يتألف من خمس إلى ست دلال، أصغرها 10 سم وأكبرها 17 سم تقريباً، وتكمن المهارة فيها حين تجد فيها القوام الكامل للدلة الكبيرة المعتاد استخدامها لصبّ القوة، وكانت محل طلب المتسوقين الأجانب الأمريكان والأوروبيين من منتسبي شركة أرامكو الذين اعتادوا زيارة سوق القيصرية التاريخي بالهفوف كلَّ يوم خميس وشراءها كهدايا تذكارية، كما يُقال إنها تسمّى طقم العروس، حيث كانت تُقدَّم من ضمن زهاب العروس. ومن الصفارين من يكتب اسمه بشكل مقلوب ليخلد تلك اللحظات التي عاشها مع الدلة أثناء صفارتها في مشهدها الأول، حيث يضعها بشكل مقلوب على السندالة أثناء طرقها ونقشها، وكأنما الصفار تعزّ عليه لحظات تصنيعها، وكيف لا وقد يأخذ منه تصنيع طقم دلال من ثلاث أو أربع دلال فترة طويلة،
قد تمتد إلى الشهر أو ربما أكثر، وذلك حسب حجمها، فكلما همّ أحد بقراءة الختم قلبها بطريقة مسكة الصفار نفسه وهي في مشهدها الأول، وليس بطريقة من يجنيها في المجالس العربية في مشهدها الأخير، مثل (عمل عليان)، وهي تنتسب إلى عمل الصفار علي العيسى السالم، حيث اعتاد على قلب الختم، واشتهار هؤلاء لا ينفي وجود غيرهم.
انتشار الدلة الحساوية
الأحساء مقصد الحضر والبدو من جميع أنحاء مدن شبه الجزيرة العربية، وذلك لاقتناء السلع الاستهلاكية ومقايضتها من سوقها التاريخي «القيصرية» بالهفوف، الذي كان منارة حضارية، يشع من حاضرة الهفوف التي تُصَدِّرُ السلع الاستهلاكية ومنها الدلة الحساوية إلى أنحاء مدن شبه الجزيرة العربية ودول الخليج، حيث اعتادت الدول المجاورة زيارتها والتبضُّع منها والتجارة بمنتجاتها، كما أسهمت هجرة بعض الصفارين الأحسائيين نظراً لكثافتهم وتزايد الطلب على منتجهم من قِبَل قصور الحكام، ومجالس الأعيان وكلِّ ذي شأن، بانتقال تصنيع الدلة الحساوية إلى مكان هجرتهم، لذا شاع استخدام الدلة الحساوية، وقصدها كل من أراد الجودة والجمال في الأحساء وخارجها، كما تبيّن بعض صور الرحالة التي التقطوها في أوائل القرن العشرين، منها صورة في الكويت كما ظهرت في كتاب «صدمة الاحتكاك» لمؤلفه خالد البسام، ومنها ما التقطها المصور الإعلامي الياباني يوشيو كاواشيما في دبي عام 1962، حيث تتصدَّر الدلة الحساوية أدوات الضيافة في المجلس.
صقل الدلة الحساوية
تصنع الدلة الحساوية من معدن النحاس الأحمر أو الأصفر «الصفر» أو كليهما معاً، حيث يتمُّ استيراد النحاس على شكل صفائح من الهند، ويتمُّ طرقه بعد تسخينه على النار في موضع يُطلق عليه بمصطلح الصفارين (الكور)، وذلك على الشكل المطلوب بمهارة فائقة تنمُّ عن فن حقيقي، وهذا المعدن يحتاج، من وقت إلى آخر، إلى صقل من خلال مساعدي الصفار، خصوصاً في المناسبات كالأعياد أو الأعراس؛ وذلك لإزالة ما يعلق بالدلة من الرماد نتيجة وضعها على النار، حيث يتطلَّب صقلها، وذلك بتسخينها وطلاء داخلها بالرصاص المسال والشناذر والنشادر، في عملية تسمّى «رباب» بمصطلح الصفارين، كما تُطلى الدلة من الخارج بالرصاص إذا كانت من النحاس الأحمر، أمّا إذا كانت من النحاس الأصفر فتُصقل فقط لتزداد بريقاً، وذلك بفركها بالرمل، ومن الصفارين المعاصرين لتلك الحرفة، الحاج عباس القريني، وذلك في أحد الحوانيت المتفرعة من سوق القيصرية التاريخي بالهفوف.
أفول نجم الدلة
رغم أهمية الدلة النحاسية في الجزيرة العربية، وما ترمز له من كرم الضيافة، إلا أنَّ هناك عدة أسباب جعلتها تختفي تدريجياً من المجالس العربية، منها:
1- في الحرب العالمية الأولى صعُب الحصول على صفائح النحاس لتوقف استيراده، فكانت الحاجة ملحة للحصول عليه، وفي الوقت نفسه حلَّ محله الألمنيوم في صناعة الأواني المنزلية التي لاقت استحسان الناس لنظافتها وأشكالها المريحة، ما جعلها رائجة بين أبناء المدن، كما ذكر طبيب الإرسالية الأمريكية بول هاريسون جراء زيارته للأحساء عام 1919.
2- ظهرت في الخمسينيات الميلادية الدلال الصينية التي تحفظ الحرارة لساعات طويلة، فأصبح استخدامها رائجاً عند أبناء المدن، أي تمَّ الاستغناء عن الدلة النحاسية وعن الوچاغ وشبة النار، فكانت ضربة قاصمة لظهر الدلة الحساوية، فأصبحت من التراث الأصيل.
حضور الدلة الحساوية مجدداً
بعد اختفاء الدلال النحاسية وطقوس تحضيرها من حمْس القهوة على النار، ودقّها في النجر وصدى صوته وتلاشي رائحته الزاكية من المجالس العربية، دوّى صداها في النفوس اشتياقاً، فهمّ هواة التراث ومتذوّقو عبقه من أبناء الأحساء بعمل مجالس عربية تحاكي تلك المجالس القديمة التي تتربع فيها الدلال الحساوية في الوچاغ على النار، ومنها على الروازن في أطقم متناسقة، منهم ما ورثه عن آبائه وأجداده، ومنهم ما تمَّ اقتناؤه من المزادات العلنية لتدخل بعضها في منافسة شرسة لتصل إلى مبالغ كبيرة لشرائها، حيث لاح نجم الدلة الحساوية في سماء المتاحف الخاصة التي تجاوز عددها العشرات في الأحساء؛ منها متحف القليبات لرجل الأعمال عبدالعزيز الموسى، ومتحف حسين الخليفة، ومتحف هاوي التراث زكريا الشواف وغيرهم الكثير، حيث تبرز أنواع مختلفة من أطقم الدلة الحساوية التي غدت من التراث الجميل.