2,233 عدد المشاهدات
الكاتب: يحيى عبدالله الكندري
يذكر القنصل الروسي العام في بيروت ق. بازيلي، أنَّ البدو في بادية الشام كانوا يشتركون في الفرس الواحدة حتى يصل عدد الملاك إلى عشرة أشخاص أحياناً! كما يجيزون بيع نصفها وثلثها وربعها (15)، ما تسبَّب في تعقيد بيع وشراء الخيل آنذاك، وأدى لصعوبة الانفصال عن الشركاء، خصوصاً بالنسبة إلى الأوروبيين الذين وفدوا إلى الشرق بغرض شراء الخيل، وممَّن واجهوا هذه المشكلة القنصل الفرنسي في بيروت، الذي يروي بازيلي أنه قام في العام (1840م) بشراء نصف فرس أصيلة، ولم يستطع أن يشتري نصفها الآخر من ثلاثة أو أربعة ملاك مشتركين معه، إلا بعد سنتين وبصعوبة بالغة.
وثيقة مهمة وقعت عليها تتناول الخيل العربية، وتهدف إلى التعريف بأنماط بيعها لدى البوادي والحاضرة، وأنواعها، وأهم الأفحل التي تُشَبّى، وتضيء جوانب مجهولة في تاريخ الخيل العربية وسير أهلها الأولين من أصحاب المرابط والتجار والفرسان، واعتمدت في تحليلها على كتابات الرحالة والمؤرخين المحليين، والفولكلور الشعبي، والمقابلات.. وهذا نص الوثيقة:
«بسم الله الرحمن الرحيم..
نعم، حضر ناصر ابن ثلَّاب الدوِّيش، وأقرَّ على أنَّه باعَ على حسن بن عبدالرحمن ابن حسين، نِصْفَ فَرَسِهِ الحمراءِ رَبْداء، وقُودْها كلّه بثمنٍ معلومٍ، قبضهُ من ناصر في 12 شهر ذي الحِجَّة سنة 1300، وصار بينهم القرارُ على مُعْتادِ بيعِ الخيلِ أنَّ ما جاء من الحِصِنْ فهو تبَع الخيل خاصَّة حسن، وإذا جابَتْ مهرة فمن بعد أربعة أشهر يحضر ناصر ويضْرِبْهم، ولحسن الخيار، وإن ما حضر ناصر فهو موكل: علي ابن جفن المْوَهَة مْطير في مكانه وكيل مطلق يضْرِب، ولحسن الخيار، فإن مضَنْ الأربعة ولا حضر منهم أحد فكل شهر يمضي على الفلوة خمسة أريل.
شهد بذلك ناهض الغاوي، وعبدالله بن هدلان، وأحمد آل إبراهيم آل ملحم، وكفى بالله شهيداً، وصلى الله على محمد وآله وسلَّم. حرر 12 ذو الحجة 1300 .. شهد به أحمد بن عبدالله ابن ملحم». [الختم]
أصل الوثيقة
أصل هذه الوثيقة من أرشيف أسرة آل حسين الكريمة بالأحساء، وقد تفضَّل الشيخ حسن بن عبدالرحمن آل حسين بتزويدي بنسخةٍ رقميَّة عنها، فله جزيل الشكر على تعاونه، وليست أولى مساعداته العِلْمِيَّة، ومن الطريف أن يتطابق اسمه وهو الحفيد مع اسم جدِّهِ المذكور في الوثيقة قبل 134 عاماً (1).
البائع والمشتري
تؤرِّخ الوثيقة لشراء التاجر حسن بن عبدالرحمن آل حسين (توفي 1314هـ = 1897م)، فرساً عربيَّة أصيلة من رسن الرُّبد، لونها أحمر، من مالكها ناصر بن ثلَّاب الدوِّيش، وهو من قبيلة مطير، والثَّلاب فرعٌ من أسرة الدوِّيش شيوخ قبيلة مطير وزعماؤها، ولعله أحد أولاد ثلَّاب بن مخيمر بن زقم بن مفوز (فواز) بن وطبان الدويِّش، ووطبان الأول هو الجدُّ الجامع للدُّوشان، وقد التقت حملة عباس حلمي باشا الأول بمخيمر بن زقم بن مفوز (فواز) الدوِّيش، ونقلت عنه شهادته عند الحديث عن «رُبْدِ الخشيبي»، ومعظم نتاج الرُّبْد عند مخيمر الدويش أفراس حمراء (2)، والفرس المذكورة في هذه الوثيقة ربداء حمراء أيضاً، ورغم أني لم أجد في الشجرة أبناء ثلاب الدويش المذكور أحداً اسمه ناصر، وأبناء ثلَّاب حسب شجرة الدُّويشان أربعة: منوخ وعبيد وكنعان وعبدالهادي، وليس لهم عقب، إلا عبدالهادي فإنه رُزق بحجاب (3). فلا يبعد أن يكون ناصر المذكور في الوثيقة أخاً لهم انقطع عقبه أيضاً، والله أعلم.
وقد عرفت قبيلة مطير والدوشان خاصةً بتربية أجود الأرسان وأعظمها قيمة، ومن خيل الدُّوشان المميزة: «كحيلة كروش»، و«الحمدانية السَّمْريَّة» (4)، و«كحيلة العجوز»، و«العبيَّة الشرَّاكية»، و«المِعْنِقِيَّة الحدرجية»، و«ربداء الخشيبي» (5).
ومما يشهد لارتباط الدُّوشان بالرُّبد واستمرارها عندهم، قول شيخ قبيلة مطير فيصل بن سلطان بن الحميدي الدوِّيش في إحدى حداويه (6):
نَرْكَبْ على اللِّي جَدِّهِنّ (ربدان)
تَفْرِقْ عَشيرٍ عن عَشير
أما المشتري (7) فهو حسن بن عبدالرحمن المريدي، ولد في النصف الأول من القرن الثالث عشر، من أسرة تجارية، وفي فترة الخلاف بين أبناء الإمام فيصل بن تركي آل سعود انتقل مترجمنا حسن بن عبدالرحمن بن محمد آل حسين إلى الأحساء، وكان تاجراً ميسوراً، ذا أملاكٍ قبل نزوله الأحساء، وفي فترة وجيزة أصبح من كبار تجارها، واتسعت اقطاعاته الزراعية وعقاراته في كثير من قرى الأحساء وحاضرتها، علاوةً على تجاراته الأخرى مع بومبي والبحرين، وتوفي وهو متوجه للحج في مدينة عنيزة بالقصيم في ( 12/شعبان/ 1314هـ )، الموافق (16/1/1897)، وقد ذكره المؤرخ إبراهيم بن عيسى في «كناشه»، وابن بسام في «تحفة المشتاق»(13).
بيع الخيل في البادية
تُشير الوثيقة إلى إحدى طرائق بيع الخيل، وهو بيع النصف كما تسميه البادية، ويعدُّ أحد أنماط الشراكة في الخيل، وله أحكامه ونظامه عند البدو، ويشرح لنا نصُّ الوثيقة طريقة هذا البيع، وتتلخص في أن إنتاج الفرس من الأفحل يكون للمشتري فتقول الوثيقة: «وصار بينهم القرار على معتاد بيع الخيل أنَّ ما جاء من الحصن (الأحصنة) فهو تبع الخيل خاصة حسن»، أمّا الأفراس فإنها تكون بالمضاربة بين المشتري والبائع، وللمشتري (ابن حسين) الخيار في الإبقاء على الفلوة ودفع نصف ثمنها إلى شريكه (الدويش)، ويكون ذلك بعد مضي 4 أشهر على ولادة الفلوة، كما عَيَّنَ البائع (الدويش) من يضارب بالنيابة عنه في حال غيابه، وهو علي بن جفن من فخذ المْوَهَة من بطن علوى من قبيلة مطير، وإن مضت الأربعة أشهر ولم يحضر البائع (الدويش) ولا وكيله (علي بن جفن المويهي المطيري)، فإن على الدويش أن يدفع لقاء عناية ابن حسين بالفلوة ثمناً قدره خمسة ريالات فضيَّة (ريال نمساوي)، لأنه ما زال يمتلك نصف الفلوة، ومما يُمَيِّز هذه الوثيقة ويعطيها أهمية كبرى كمصدر لصورة هذا البيع، ما جاء في أوَّلها: «وصار بينهم القرار على معتاد بيع الخيل»، ما يعني أن صورة البيع المذكورة هي قانون البيع المعتاد في هذه الحالة آنذاك، خصوصاً مع كون البدو يعترفون بهذه القوانين بشكل عرفي، فهي غير مسجلة ومكتوبة، كما سيأتي على لسان عبدالله وليمسون، وبازيلي، وميهاي الحداد، وغيرهم.
ويذكر الرحالة السويسري بوركهارت أن الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد آل سعود، توفي (1229هـ -1823م)، قد سنَّ قانوناً يمنع فيه بيع ثلث الفرس كما تفعل عنزة، إذ يرى أنَّه يؤدي إلى الخداع غالباً، ولكنَّه أجاز لأهل نجد بيع نصف الفرس، وهو نمط البيع المذكور في وثيقتنا.
بدو الشام
وبالعودة لما ذكره القنصل الروسي العام في بيروت ق.بازيلي، من أن البدو في بادية الشام يشتركون في الفرس الواحدة حتى يصل عدد الملاك إلى عشرة أشخاص أحياناً، فإنهم بذلك يجيزون بيع نصفها وثلثها وربعها، مما يتسبب بتعقيد شراء الخيل وصعوبة الانفصال عن الشركاء، خصوصاً بالنسبة إلى الأوروبيين الذين وفدوا إلى الشرق بغرض شراء الخيل، ويضيف بازيلي أن أحد الذين واجهوا هذه المشكلة القنصل الفرنسي في بيروت، إذ يروي أنه (الفرنسي) قام في العام (1840م) بشراء نصف فرس أصيلة، ولم يستطع أن يفدي نصفها الآخر من ثلاثة أو أربعة ملاك مشتركين معه إلا بعد سنتين وبصعوبة بالغة.
ثمن البيع
ومن المؤسف أن الوثيقة لم تتعرض للثمن الذي دفعه ابن حسين ليحصل على نصف الفرس مع حق الانتفاع بها، إذ اكتفى محررها بقوله في أولها: «وقودها كله بثمن معلوم»، أي أنَّه اقتادها إلى مربطه بالثمن المعلوم من قبل أطراف البيع، والمتفق عليه بينهما، ولعلهما أحبّا أن يخفيا قيمتها عن الشهود، أو غير ذلك من الأسباب.
وممّا يُشير إلى أهمية هذه الفرس وقيمتها لدى طرفي البيع، أنهما أشهدا على هذا البيع 4 رجالٍ هم: ناهض الغاوي، وعبدالله بن هدلان، وأحمد الإبراهيم الملحم، وكاتب الوثيقة أحمد بن عبدالله الملحم، والذي مهرها بختمه الخاص، كما عيَّن البائع (الدويش) علي بن جفن المويهي المطيري وكيلاً عنه في حال غيابه؛ كل هذا التثبت والإشهاد أمارةٌ على أهمية الفرس وقيمتها الغالية.
الشهود والوكيل
وكيل الدوِّيش كما تذكر الوثيقة هو علي ابن جفن المويهي المطيري، من فخذ الموهة من بطن علوى، الذي يرأسه الدوِّيش علاوةً على رئاسته لقبيلة مطير، وبالنسبة إلى كاتب الوثيقة أحمد بن عبدالله المِلْحِم فهو من حاضرة الأحساء، وكذلك قريبه الشاهد الأول، وأحمد آل إبراهيم المِلْحِم، ويعود نسب أسرتهم آل مِلْحم إلى بطن بريه من قبيلة مطير. وربما يعود اختيار آل ملحم لعلاقتهم الطيبة مع ابن حسين وقرب مسكنهم من مسكنه، أو بسبب القرابة مع الدويش. أما الشاهدان الآخران؛ ناهض الغاوي، وعبدالله بن هدلان، فلم أهتد إلى معرفتهما إلا أنه يغلب على الظن أن يكونا من أسر الأحساء أو من قبيلة مطير.
هوامش:
1- هو جدُّه من جهة الأم، إذ إن صاحب الوثيقة توفي ولم يولد له.
2- «أصول الخيل» (عباس باشا) (362- 364)
3- شجرة الدوشان شيوخ قبيلة مطير، حررت بتاريخ (1415 / 1/ 15هـ)
4- تذكر الليدي آن بلنت أن الإمام فيصل بن تركي آل سعود تحصَّل على مربط كحيلة كروش والحمداني السَّمْري من الدُّوشان. «حج إلى ربوع نجد» (ص 281).
5- نقلها الشيخ حمد الجاسر في كتابه «أصول الخيل العربية الحديثة» (ص 143) عن الفصل الخامس عشر من الجزء الثاني من «قبائل بدو الفرات» لبلنت، وذكر أنَّ هذا الفصل لم يُعَرَّب في نشرة الفارس ونضال معروف.
6- «سلطان بن الحميدي الدويش»، طلال الشمري: (ص 8 – بحث غير منشور). وهو شاهدٌ شعريٌّ ينشر لأول مرَّة.
7- تمت مراجعة ترجمته من قبل حفيده الشيخ حسن بن عبدالرحمن آل حسين، وأشكره على ما أمدَّني به من معلومات عائليَّة ووثائق خاصة.
8- «ملاحظات عن البدو والوهابيين»، بوركهارت (ص 148).
9- «الحصان العربي في روسيا»، يفيم ريزيفان (ص 131).
10- «الحصان العربي في روسيا»، يفيم ريزيفان (ص 132).
11- «قاموس البادية»، شاهر الأصقه المطيري: (ص 409).
12- «جمهرة الأسر المتحضرة في نجد»، حمد الجاسر (ج 2/ص 808).
13- إفادة الشيخ حسن بن عبدالرحمن آل حسين.