2,142 عدد المشاهدات
مسارات الحج إلى الديار المقدسة أخذت في تاريخها أشكالاً عديده، فمن السفر على ظهور العيس عبر القوافل، إلى ركوب البحر وامتطاء لججه، خاض المسافرون إلى مكة مسالك شتى قبل توافر وسائل النقل الحديثة كالسيارات والقطارات، والتي كان أشهرها خط سكك الحجاز، في هذه القراءة نقدم لمحة عن مسار الحجاج من الكويت إلى البقاع الطاهرة وثقها مساعد يعقوب البدر في مخطوطة تعود إلى سنة 1932.
هذه المخطوطة التاريخية نشرت في كتاب صادر عن مركز الدراسات والبحوث الكويتية، حرره وقدم له الدكتور عبدالله يوسف الغنيم، وعثر على هذه المخطوطة ضمن مجموعة وثائق تعود لأسرة البدر الكويتية، وجاءت في كراسة صغيرة تتضمن سجلاً مخطوطاً بعنوان «الرحلة الميمونة إلى بيت الله الحرام»، كتبه مساعد يعقوب البدر، ووصف فيه رحلته من الكويت إلى مكة المكرمة حاجاً على ظهور الإبل عام 1932، حيث غادر الكويت في 18 فبراير وعاد إليها في 23 مايو من السنة المذكورة.
وصف الرحلة
ويصف الكاتب الطريق من الكويت إلى مكة المكرمة والعودة منها بعد أداء فريضة الحج، وقد تم له ذلك على ظهور الإبل، قبل استخدام السيارات في حملات الحج، وقد ذكر من كان بصحبته من الحجاج، وقدّر عدد خيام الحجاج عند الحفر بنحو خمسين خيمة، وعند وصولهم إلى المدينة المنورة ذكر مجموعة من الحجاج الذين أتوا عن طريق البحر، ويضع الكتاب هامشاً توضيحياً لرحلات الحجاج عبر البحر من الكويت، فيشرح أن الحجاج كانوا يفضلون طريق البحر لأنه أكثر أماناً من عبور مجاهيل الصحراء، فكانوا يذهبون بالسفن الشراعية أو البخارية إلى بومبي في الهند، ويركبون باخرة أخرى توصلهم إلى جدة، وتذكر الوثائق البريطانية أنه في عام 1908 أمر الشيخ جابر المبارك (نائب الشيخ مبارك آنذاك) بمنع الحج عن طريق البر بسبب الحروب داخل الصحراء.
ووصف البدر بشكل دقيق في مخطوطته مسارات الرحلة ومنازلها ومسافاتها، والفروق بين الأماكن بالساعات والدقائق، في تقرير مفصل عن الأودية والشعاب والجبال والكثبان الرملية والآبار، كما ذكر ما ينبت في أنحاء الطريق من النباتات كالعشر والعرفج والسدر والدوم، وغير ذلك.
مسار
وبدأت هذه الرحلة من الكويت إلى الجهراء ثم إلى بريدة، وجاء في المخطوطة، «في الساعة التاسعة من صباح يوم الخميس 11 من شوال سنة 1350 هـ الموافق 18 من فبراير 1932 ركب الحجاج جمالهم المتجمعة خارج سور مدينة الكويت وتحركوا غرباً باتجاه مدينة الجهراء، وهي المنزل الأول في طريق الحج..».
ومنها إلى بريدة، حيث تتجه القافلة إلى المدينة المنورة، ومنها لم تأخذ القافلة الطريق المعتاد إلى مكة، والذي يسير في سهل تهامة، بل عادوا شرقاً ليأخذوا طريق زبيدة، وأحرموا عند قرن المنازل أو السيل، وهو ميقات حجاج نجد، ومن هناك اتجهوا إلى مكة لقضاء مناسك الحج.
وقد أحسن مساعد البدر في توثيق هذه الرحلة بخطه الجميل، ووصف الطريق، وما أحاط بها، في أسلوب دقيق اتسم بالإيجاز، وقد رصد الكتاب الذي حمل الاسم ذاته «الرحلة الميمونة إلى بيت الله الحرام»، والمطبوع سنة 2011، من خلال 197 صفحة، مضامين هذه المخطوطة بالشرح والتفصيل والإيضاح عبر الخرائط والصور الفضائية الحديثة، التي تلقي الضوء على جميع محطات الرحلة، إضافة إلى معجم للأسماء التي وردت في الكراسة، مع شروح لها، سواء كانت أسماء أعلام أو أماكن جغرافية أم نباتات سجلها الكاتب بين دفات مخطوطته، وهو أمر قل في الكتابة عن رحلات الحج، حيث تركز على المناسك والمشاهد، وتنسى التفصيلات الدقيقة لمسار الرحلة.
ذاكرة دقيقة
كما سجل مساعد البدر أسماء القرى والبلاد التي كانت على طريق الحج المذكور أو قريبة منه، وكان يذكر أحياناً سكانها من القبائل وعددهم وأميرهم في ذلك الوقت، وكتب هذا المخطوط في دفتر مدرسي من الحجم المتوسط بالحبر الأسود، فيما سطر العناوين الفرعية باللون الأحمر، كما وضع الكاتب في الهامش اليمن من الصفحة جدولاً يسجل فيه مسار القافلة في كل يوم من أيام الرحلة، كما تحمل بعض الصفحات عناوين جانبية مثل «من الكويت إلى الحفر»، و«من بريدة إلى المدينة المنورة»، و«من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة»، و«من مكة المكرمة إلى بريدة»، و«من بريدة إلى الوطن المحروس الكويت»، كما جاء في العنوان الذي وشم به مساعد البدر خلاصة الرحلة.
وكاتب هذه الكراسة التاريخية، كما جاء في تعريفه في الكتاب، سليل عائلة كريمة من عائلات الكويت، وهي عائلة البدر، التي كان من أبرز رجالها المرحوم، يوسف عبد المحسن البدر (1800 – 1879 م) الذي عرف بأياديه البيضاء وكان ديوانه مقصد رجال العلم والأدب، من مثل الشاعر الشعبي الكويتي محمد بن لعبون والشاعر الموصلي عبد الغفار الأخرس، ونزل في ضيافته لويس بلي، المقيم السياسي البريطاني في الخليج، حيث أقام عنده شهراً من الزمان، وذلك في يناير 1865 م، وقد ذكر لويس بلي أن يوسف البدر قد أعانه على ترتيب سفره إلى الرياض، وهي المهمة التي كان قادماً من أجلها، من خلال اختيار أدلاء الطريق والجمال الجيدة والأشخاص المهمين الذين يمكن مقابلتهم في الرياض.
كفاءة
وصاحب هذه الرحلة درس في المدرسة المباركية، وربما حضر دروس المرحوم الشيخ عبدالله الخلف الدحيان (توفي 1932، وهو تاريخ كتابة المخطوط) والذي عرفت صلته الوثيقة بأسرة البدر، الذين تقع منازلهم وديوانهم بالقرب من بيته، الذي كان مجمعاً وقبلة لطلب العلم، كما كانت مكتبته من أنفس المكتبات في الكويت.
ووفق الكتاب، مما يؤكد تاثر كاتب المخطوطة مساعد البدر بالشيخ عبدالله الخلف أنه أورد في آخر المخطوط الذي كتب فيه رحلة الحج متن الرحبية المعروف باسم «بغية الوارث عن جمل الموارث»، لمحمد بن علي بن محمد الرحبي الشافعي، المتوفى عام 577 هـ، والمعروف أن الشيخ عبدالله الخلف كان يقرأ الرحبية على تلاميذه ومريديه، وهي أرجوزة في بيان قواعد المواريث في الفقه الإسلامي.
ومما جاء في سيرة مساعد البدر، أنه لم يكتف بدراسة العلم الشرعي، بل درس مع نخبة من أبناء الكويت اللغة الإنجليزية في مدرسة الإرسالية الأمريكية، وكان النشاط التجاري مع الهند وبريطانيا يقتضي دراسة هذه اللغة، وبخاصة أبناء تلك الأسر التي كانت لها مصالح تجارية مع تلك البلاد.
كما زاول «الطواشة» أي تجارة اللؤلؤ مع إخوته في بداية حياته، وبعد ظهور النفط واضمحلال النشاط البحري، عُين مفتشاً للجمرك البحري، وقد نشر خبر هذا التعيين في مجلة البعثة التي كانت تصدر عن بيت الكويت في القاهرة في عدد أبريل 1950، كما عمل مديراً عاماً لإدارة الكهرباء والماء بالكويت، وتوليه لهذين المنصبين الكبيرين آنذاك يدل على مقدرته وكفاءته.
وأشار الكتاب إلى أن أول تسجيل موثق لرحلة حجاج الكويت إلى مكة المكرمة كان القصيدة التي نظمها المرحوم الشيخ عبدالله خلف الدحيان، الذي غادر الكويت، بمعية جماعة من آل البدر، بطريق البر في 16 من شوال عام 1324 هـ(3 من ديسمبر 1906 م) فوصل إلى المدينة المنورة يوم 19 من ذي القعدة 1324 هـ (4 من يناير 1907 م)، وقد بلغ عدد أبيات القصيدة المذكورة 156 بيتاً وصف فيها أحوال الطريق من الكويت إلى الأراضي المقدسة.
ولا تقتصر هذه المخطوطة التاريخية على تفصيلات رحلة الحج، بل تتضمن موضوعات أخرى منها تفصيل رحلة الكاتب من «مسقّف المزيد» في الكويت إلى الصبيحية والعودة منها وذلك في يوم الأحد الموافق 8 من صفر عام 1351 هـ(23 من يونيو 1932 م)، وقد سجل أيضاً بالساعة والدقيقة المسافات بين كل موقع وآخر، وجاء وصف هذه الرحلة في نصف صفحة من هذه الكراسة.
ومنها تفاصيل رحلته من الكويت إلى بغداد في يوم الأربعاء 30 من محرم 1355 هـ الموافق 22 من أبريل 1926 والعودة منها، وقد سجل كل ذلك بالساعات والدقائق، وأضاف في رحلة العودة المسافة بالأميال ما بين بغداد والعشار، وقد تكلم في تلك الرحلة عن المناطق التي توقف فيها وزارها، وهي البصرة والناصرية والكويت وبغداد وكربلاء والنجف والكوفة، وأورد قائمة بالمعالم الأخرى التي زارها مثل إيوان كسرى، وأضرحة بعض من الصحابة الأجلاء كسلمان الفارسي وحذيفة بن اليمان، والعالم التابعي عبد الرحمن بن جابر، رضي الله عنهم.