السائح الأعظم … ابن بطوطة في الصين

Business الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

 19,304 عدد المشاهدات

خاص – د.حمادة هجرس .. مركز جمال بن حويرب للدراسات

ارتبطت بلاد الصين في الموروث الشعبي العربي بكثير من الأساطير والقصص الخيالية التي تركت انطباعًا محمودًا عن هذه البلاد البعيدة عن ديار الإسلام، فنسجت حولها قصص الأساطير والخرافات مثل قصص ألف ليلة وليلة وقصة علاء الدين والمصباح السحري، وقصة الخياط والأحدب واليهودي والمباشر والنصراني… وغيرها، وعلى الرغم أن هذا الإرث الثقافي والشعبي صناعة عربية وإسلامية، إلا أنها ارتبطت ببلاد الصين؛ سواء في الأحداث أو أماكنها.

ابن بطوطة… السائح الأعظم

كانت أول المصادر العربية التي تناولت بلاد الصين هي رحلة التاجر سليمان في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، حيث قدم وصفًا موجزًا للطرق التجارية، والمدن، وذكر بعض العادات، والنظم الاجتماعية والاقتصادية مع بيان أهم صناعات الصين وعلاقة المسلمين بالصين، ثم تبعه رحالة عرب آخرون، نخص بالذكر هنا الرحالة العظيم ابن بطوطة (703-779هـ / 1304- 1377م) الذي سجل رحلاته في كتابه تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، يصف ابن بطوطة رحلاته إلى مشارق الأرض ومغاربها في كتابه على لسان شيخ من عبادان التقى به وقال له “بلغت بحمد الله مرادي في الدنيا وهو السّياحة في الأرض، وبلغت من ذلك ما لم يبلغه غيري فيما أعلمه، وبقيت الأخرى، الرجاء قوي في رحمة الله وتجاوزه، وبلوغ المرام من دخول الجنة“.[1]يبدو أن ابن بطوطة سجل هذه المقولة عن الشيخ المذكور وكأنه يقول لنا ضمنيًا إن السياحة في الأرض كانت مراده في الدنيا، فجاب الأرض شرقًا وغربًا ليقص ويروي للأجيال متعاقبة ما رآه في كل أقطار الدنيا، وفي هذا الصدد قطع ابن بطوطة أكثر من 117000 كيلومتر،[2] متجاوزًا تشنغ خه بنحو 50000 كيلومتر وماركو بولو بـ 12000 كيلومتر، وهي مسافة لم يقطعها أي رحالة حتى عصر السفن البخارية.

خريطة توضح البلاد التي زارها ابن بطوطة في رحلته بين عامي 1325-1354م 

في معرض حديثه عن مدينة الإسكندرية، ذكر ابن بطوطة حكاية عن أحد شيوخها وهو الشيخ برهان الدين الأعرج؛ حيث يقول عنه: “ومنهم الإمام العالم الزاهد الورع الخاشع برهان الدين الأعرج، من كبار الزهاد وأفراد العبّاد: لقيته أيام مقامي بالإسكندرية وأقمت في ضيافته ثلاثًا… ودخلت عليه يومًا فقال لي: أراك تحب السياحة والجولان في البلاد. فقلت له: نعم، إني أحب ذلك. ولم يكن حينئذ بخاطري التوغل في البلاد القاصية من الهند والصين. فقال: لا بد لك، إن شاء الله، من زيارة أخي فريد الدين بالهند، وأخي ركن الدين زكرياء بالسند، وأخي برهان الدين بالصين. فإذا بلغتهم فأبلغهم مني السلام. فعجبت من قوله وألقى في روعي التوجه إلى تلك البلاد، ولم أزل أجول حتى لقيت الثلاثة الذين ذكرهم، وأبلغتهم سلامه. ولما ودَّعته زوَّدني دراهم لم تزل عندي محوطة. ولم أحتج بعد إلى إنفاقها، إلى أن سلبها مني كفار الهنود، فيما سلبوه لي في البحر”.[3] وفي حديثه عن السلطان محمد شاه بن تغلق شاه، سلطان الهند، ذكر ابن بطوطة أن أحد أسباب سفره للصين هو أوامر من سلطان الهند حيث قال: “إنما بعثت إليك لتتوجه عني رسولًا إلى ملك الصين، فإني أعلم حبك في الأسفار والجولان، فجهزني بما أحتاج له، وعين للسفر معي من يذكر بعد”.[4]

صورة تخيلية للرحالة ابن بطوطة في مصر، من أعمال الفنان الفرنسي ليون بينيت (1839-1916م) 

نفهم من حديث ابن بطوطة عن الشيخ برهان الدين الأعرج وسلطان الهند أنه ما ذهب إلى الصين إلى وفاءً لطلب شيخ برهان الدين، وكذلك تنفيذًا لأوامر سلطان الهند الذي أرسله في سفارة إلى بلاط أسرة يوان برفقة سيارة عظيمة من الهدايا وغيرها.

على أية حال، زار ابن بطوطة بلاد الصين في عام 1345م خلال عصر أسرة يوان المغولية (1271-1368م)، خلال عصر آخر أباطرتها، الإمبراطور طغون تيمور (1333- 1368م)، وكانت الصين خلال ذلك العصر قد جذبت انتباه كثير من الرحالة الذين زاروها كابن بطوطة والرحالة الإيطالي الشهير ماركو بولو. وصل ابن بطوطة إلى مدينة صين الصين- صين كلان (غوانتشو) ثم وصل إلى مدينة الزيتون (تشيوانتشو)، الميناء الرئيس في جنوب الصين في عهد أسرة يوان، ومن تشيوانتشو، ذهب إلى مدينة الخنساء (هانغتشو) مرة أخرى، وعبر قناة بكين-هانغتشو الكبرى على طول الطريق شمالًا إلى العاصمة بكين.

في ذلك العصر لم تكن آلات التصوير كالكاميرا وغيرها قد تم ابتكارها، فانصب اهتمام ابن بطوطة على تسجيل غرائب وعجائب الصين؛ ففي كتابه سجل ابن بطوطة كثيرًا من مظاهر الحياة الخاصة بأهل الصين، وهي المظاهر التي جذبت انتباهه غير مرة، وأثارت فضوله واستنفرت حواسه في عديد المرات، وما ذلك إلا دلائل على وجود حضارة عظيمة ونظم محكَّمة سار عليها أهل الصين وأصبحت حاكمة لمجتمعاتهم من عادات وتقاليد وغيرها. وقد أفرد ابن بطوطة شواهد موفورة، أشار فيها إلى دياناتها وأرضها ومائها وأنهارها وبحارها وصنائعها من حرير وفخار وفضة وذهب، كذلك ما اختصت به من الصناعات، حيث يقول: “وأهل الصين أعظم الأمم إحكامًا للصناعات، وأشدهم إتقانًا فيها، وذلك مشهور من حالهم، قد وصفه الناس في تصانيفهم فأطنبوا فيه”[5]، ويقول أيضًا: “ثم سافرنا عن بلاد طوالسي فوصلنا بعد سبعة عشر يومًا والريح مساعدة لنا، ونحن نسير بها أشد السير وأحسنه إلى بلاد الصين. وإقليم الصين متّسع، كثير الخيرات والفواكه والزرع والذهب والفضة، لا يضاهيه في ذلك إقليم من أقاليم الأرض”.[6]

الأمن والأمان في بلاد الصين

ذكر ابن بطوطة غير مرة أن الصين أكثر البلاد أمنا وأحسنها حالًا للمسافرين، وفي هذا يقول: “يسافر فيها من يريد منفردًا مسيرة تسعة أشهر ومعه الأموال الطائلة والتجارات فلا يخاف عليها. وترتيب ذلك أن لهم في كل منزل ببلادهم فندقًا، عليه حاكم يسكن به جماعة من الفرسان والرجال، فإذا كان بعد المغرب أو العشاء، جاء الحاكم إلى الفندق، ومعه كاتبه فكتب أسماء جميع من يبيت فيه من المسلمين وختم عليها، وأقفل باب الفندق عليهم، فإذا كان بعد الصبح، جاء ومعه كاتبه فدعا كل إنسان باسمه، وبعث معهم من يوصّلهم إلى المنزل الثاني له، ويأتيه ببراءة من حاكم المنزل الجديد أن الجميع قد وصلوا إليه، وإن لم يفعل طالبه بهم، وهكذا العمل في كل منزل ببلادهم من صين الصين (مدينة غوانتشو) إلى خان بالق (مدينة بكين)، وفي هذه الفنادق جميع ما يحتاج إليه المسافر من الأزواد، وخصوصًا الدجاج والإوز”.[7]

نظم الفندقة في الصين

كان للصينيين خلال عصر أسرة يوان المغولية نظم محكمة خاصة بالفندقة وما يتصل بها من العلائق الخاصة بالتجارة عماد اقتصادهم، واقتصاد العالم في العصور الوسطى؛ ففي هذا الصدد يقول ابن بطوطة: “وإذا قدم التاجر المسلم على بلد من بلاد الصين خيّر في النزول عند تاجر من المسلمين المتوطنين معيّن أو في الفندق، فإن أحب النزول عند التاجر حصر ما له، وضمنه التاجر المستوطن، وأنفق عليه منه بالمعروف. فإذا أراد السفر بحث عن ماله، فإن وجد شيئًا منه قد ضاع أغرمه التاجر المستوطن الذي ضمنه، وإن أراد النزول بالفندق سلم ماله لصاحب الفندق وضمنه، وهو يشتري له ما أحب ويحاسبه، فإن أراد التسري اشترى له جارية وأسكنه بدار يكون بابها في الفندق، وأنفق عليهما”. [8]

كانت عناية الصينيين بالزائرين عظيمة، وكانوا شديدي الحرص على الزائر والتاجر الأجنبي، ومبتغاهم في هذا أنهم كانوا حريصين على الحفاظ على سمعة بلادهم حرصًا كبيرًا، حيث يقول ابن بطوطة في هذا الشأن: “والجواري رخيصات الأثمان، إلا أن أهل الصين أجمعين يبيعون أولادهم وبناتهم، وليس ذلك عيبًا عندهم غير أنهم لا يجبرون على السفر مع مشتريهم، ولا يمنعون أيضًا منه إن اختاروه. وكذلك إن أراد التزوج تزوج. وأما إنفاق ماله (الزائر- التاجر) في الفساد فشيء لا سبيل له إليه، ويقولون: لا نريد أن يسمع في بلاد المسلمين أنهم يخسرون أموالهم في بلادنا، فإنها أرض ضلال”.[9]

الرعاية بالفقراء

ومن مظاهر رعاية الصينيين بالفقراء والمساكين في بلاد الصين، يذكر ابن بطوطة في معرض حديثه عن مدين صين كلان (بفتح الكاف) وهي مدينة صين الصين (مدينة غوانتشو حاليًا بمقاطعة غواندونغ): “وفي وسط هذه المدينة كنيسة عظيمة، لها تسعة أبواب، داخل كل باب أسطوان ومصاطب، يقعد عليها الساكنون بها، وبين البابين الثاني والثالث منها موضع فيه بيوت يسكنها العميان، وأهل الزمانات. ولكل واحد منهم نفقته وكسوته من أوقاف الكنيسة. وكذلك فيما بين الأبواب كلها. وفي داخلها المارستان للمرضى، والمطبخة لطبخ الأغذية، وفيها الأطباء والخدام. وذكر لي أن الشيوخ الذين لا قدرة لهم على التكسب، لهم نفقتهم وكسوتهم بهذه الكنيسة، وكذلك الأيتام والأرامل ممن لا مال لهم”.[10]

تضامن المسلمين

وفي هذا الاتجاه، يذكر ابن بطوطة إشارات عن اهتمام المسلمين وتضامنهم مع أشقائهم من المسلمين القادمين إلى بلاد الصين؛ حيث يذكر أثناء حديثه عن مدينة الزيتون (تشوانتشو حاليًا بمقاطعة فوجيان): “وهؤلاء التجار لسكناهم في بلاد الكفار، إذا قدم عليهم المسلم فرحوا به أشد الفرح، وقالوا: جاء من أرض الإسلام. وله يعطون زكوات أموالهم، فيعود غنيًا، كواحد منهم”. [11]

تمثال لابن بطوطة (المتحف البحري في تشوانتشو)

هذا وقد اعتمد ابن بطوطة على تسجيل كل ما شاهده من عجائب بلاد الصين، وكان من أغرب ما لفت انتباهه هو دجاج الصين حيث قال: “ودجاج الصين وديوكها ضخمة جدًا، أضخم من الإوز عندنا. وبيض الدجاج عندهم أضخم من بيض الإوز عندنا. وأما الإوز عندهم فلا ضخامة لها. ولقد اشترينا دجاجة، فأردنا طبخها، فلم يسع لحمها في برمة واحدة، فجعلناها في برمتين. ويكون الديك بها على قدر النعامة. وربما انتتف ريشها، فيبقى بضعة حمراء. وأول ما رأيت الديك الصيني بمدينة كولم، فظننته نعامة وعجبت منه، فقال لي صاحبه: إن ببلاد الصين ما هو أعظم منه. فلما وصلت إلى الصين رأيت مصداق ما أخبرني به من ذلك”.[12]

طابع بريد يحمل صورة تخيلية لابن بطوطة (المملكة المغربية، عام 2004م، احتفالا بمرو 700 عام على ميلاده).

كما خص ابن بطوطة في تسجيلاته بذكر لبراعة الفنانين الصينيين ومهارتهم في فن التصوير، حيث يقول: “وأهل الصين أعظم الأمم إحكامًا للصناعات، وأشدهم إتقانًا فيها، وذلك مشهور من حالهم، قد وصفه الناس في تصانيفهم فأطنبوا فيه. وأما التصوير فلا يجاريهم أحد في إحكامه، من الروم ولا من سواهم؛ فإن لهم فيه اقتدارًا عظيمًا. ومن عجيب ما شاهدت لهم من ذلك، أني ما دخلت قط مدينة من مدنهم، ثم عدت إليها، إلا ورأيت صورتي وصور أصحابي منقوشة في الحيطان والكواغد، موضوعة في الأسواق. ولقد دخلت إلى مدينة السلطان فمررت على سوق النقاشين، ووصلت إلى قصره مع أصحابي، ونحن على زي العراقيين. فلما عدت من القصر عشيًا، مررت بالسوق المذكورة، فرأيت صورتي وصور أصحابي منقوشة في كاغد قد ألصقوه بالحائط. فجعل الواحد منا ينظر إلى صورة صاحبه لا تخطئ شيئًا من شبهه. وذكر لي أن السلطان أمرهم بذلك، وأنهم أتوا إلى قصره ونحن به، فجعلوا ينظرون إلينا ويصورون صورنا، ونحن لم نشعر بذلك، وتلك عادة لهم في تصوير كل من يمر بهم. وتنتهي حالهم في ذلك إلى أن الغريب إذا فعل ما يوجب فراره عنهم، بعث صورته إلى البلاد، وبحث عنه. فحيثما وجد شبه تلك الصورة أخذ”.[13]

صورة تخيلية لابن بطوطة على طابع بريد (المملكة المغربية)

مما سبق يتبين لنا أن الصينيين خلال عصر أسرة يوان المغولية اهتموا اهتمامًا فائقًا بالسياحة، وهو الأمر الذي ساعد عليه الأمن والأمان الذي اشتهرت به الصين خلال ذلك العصر، وارتبط هذه السياحة كما رواها الرحالة ابن بطوطة بأمور الاقتصاد والتجارة ومجالاتها، وهي المجالات التي عادت بأموال طائلة على بلاد الصين، حيث عمدت الصين منذ القدم إلى فتح طرق تجارية لها مع البلاد الواقعة في غربها خاصة الأقاليم الإسلامية والمنطقة العربية، ولا يخفى علينا أيضًا أن قوة اللغة العربية وعالميتها في العصور الوسطى كانت داعمًا أساسيًا أسهم إسهامًا عظيمًا في ارتحال وسفر، لا نقول المئات، بل مئات الآلاف من المسلمين إلى الهند بغرض المصالح الاقتصادية.

المراجع:

[1] ابن بطوطة، رحلة ابن بطوطة: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، تحقيق محمد عبد المنعم العريان، دار إحياء العلوم، بيروت، الطبعة الأولى 1407هـ/ 1987م، ص 201.

[2] Udeze, Bona, Why Africa?: A Continent in a Dilemma of Unanswered Questions, Bona Udeze, 2009, P. 504.

[3] ابن بطوطة، الرحلة، ص 42- 43.

[4] ابن بطوطة، الرحلة، ص 541.

[5] ابن بطوطة، الرحلة، ص 642.

[6] ابن بطوطة، الرحلة، ص 639.

[7] ابن بطوطة، الرحلة، ص 644- 645.

[8] ابن بطوطة، الرحلة، ص 644.

[9] ابن بطوطة، الرحلة، ص 644.

[10] ابن بطوطة، الرحلة، ص 646.

[11] ابن بطوطة، الرحلة، ص 645- 646.

[12] ابن بطوطة، الرحلة، ص 640.

[13] ابن بطوطة، الرحلة، ص 642- 643.