3,934 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
الاحتفاء بالذاكرة الأدبية جزء كبير من عملية التوثيق التاريخي للحياة الثقافية، ومن الشخصيات البارزة في ذاكرة الثقافة الخليجية الشاعر العماني عبد الله الطائي، في «مدارات ونقوش» نقدم محطات من سيرة هذا الشاعر، الذي تفتقت موهبته الشعرية مبكراً، وكانت له بصمات واضحة في الحياة الثقافية من خلال استنهاض الأمة وأهل الخليج لمقاومة المستعمر البريطاني في المنطقة، كما كان لسان عمان الأدبي والفكري والسياسي والتاريخي.
ولد الأديب عبد الله الطائي في مدينة مسقط عام 1924م في أسرة عريقة، ونشأ بين والدين كريمين، وقد اشتهرت عائلته بطلب العلم والدعوة بصرامة لإقامة الحق ومجابهة الظلم رغم تعرض بعض أفرادها للسجن والتضييق والنفي، وكان منهم القضاة والأدباء كجده الأكبر القاضي صالح بن عامر ووالده القاضي محمد بن صالح وعمه عيسى بن صالح.
شبّ عبد الله الطائي منذ نعومة أظفاره على حبّ المعرفة، والرغبة في الاطلاع، وصقل موهبته في الكتابة، والشعر، والنثر، وكان من أبرز أساتذته الشيخ أحمد بن سعيد الكندي، الذي كان مشرفاً على الطلبة العمانيين -ومنهم الطائي- في العراق، والثاني العلّامة الشيخ سالم بن حمود السيابي، الذي كان يعمل أستاذاً للعربية والنحو قبل أن يتقلد منصب القضاء.
السفر إلى بغداد
تفتحت مواهبه الثرية مبكراً، فوجد قلمه يتدفق منهمراً بروائع الشعر والنثر، وحين جاءته فرصة السفر إلى بغداد سنة 1935م كان على الرغم من صغر سنه في مستوى من التحصيل الجيد؛ لذلك كان شديد التفاعل مع جوه الجديد في بغداد الثلاثينيات التي كانت تمور بقضايا الثقافة والفكر والجدل السياسي، وكانت قد تهيأ لها الدخول للحضارة العالمية القادمة لبلاد العرب من خلال المعاهد الحديثة التي أنشئت فيها والأساتذة العرب الكبار الذين حلوا ساحتها من أمثال ساطع الحصري والدكتور زكي مبارك وغيرهم من مثقفي فلسطين ومصر وسوريا ولبنان، ممن هضموا الثقافة العصرية وعرفوا الحضارة الجديدة، وأتقنوا اللغات الأجنبية. وذلك الزخم المعرفي والحراك السياسي عمّق من ثقافة الطائي وأدخله إلى المعارف الحديثة والقضايا العصرية، فولج بابها في توهج وسطوع ورغبة في نيل المزيد، وكان زاده المعرفي الذي جاء به من مسقط معيناً له في مرحلته الجديدة.
لقد كانت بغداد، تلك المدينة الحالمة الثرية بقضايا الثقافة والفكر والسياسة، من المدن التي عمّقت مواهب الطائي بروائع الشعر والنثر؛ نتيجة وجوده في بغداد للدراسة عام 1935م ولمدة 7 سنوات برفقة السيد ثويني بن شهاب، والسيد فهر بن تيمور، والأستاذ حفيظ الغساني والأستاذ حسن الجمالي.
مضت عليه سبع سنوات خصبة في بغداد يدرس في المدارس ويغشى المنتديات والملتقيات؛ ينهل من العلم ويستزيد من المعرفة، حتى أكمل دراسته الثانوية عام 1941م، وفي تلك الفترة أتيح له حضور الكثير من الفعاليات التي كانت تتدفق في بغداد من محاضرات أدبية وأمسيات شعرية وملتقيات سياسية وندوات ثقافية، وكان الفكر القومي العربي هو الأبرز الذي يهيمن على الساحة يومها، مطلقاً صيحاته المدوية ومقدماً رسالته المبشرة بأمة عربية واحدة ممتدة من المحيط الأطلسي وحتى اليمن، وكان ذلك من المؤثرات القوية في عقل عبد الله الطائي وفكره، مما أنتج تفاعله مع ذلك الحراك ودخوله في سجالات مع رموزه وأعلامه عبر مقالات ملتهبة كان ينشرها في الصحافة مؤيداً أو معارضاً أو في الوسط بين هذه النظرية وتلك، وقد ترسخ آنذاك فكره القومي العربي المؤمن بالعروبة مظلة جامعة لكل العرب من ضفاف المحيط الهندي في الشرق وحتى أقاصي المغرب في غير عنصرية أو غلو متطرف، وظل خيط هذا المسار هو الناظم لفكر الطائي خلال سنوات عمره كله؛ تعبر عن ذلك مقالاته العديدة وأشعاره المتوالية، ولكن العروبة عنده تكامل بين أوطان العرب وتعزيزاً لروابطها دون إلغاء أو إمحاء؛ فهو عربي الهوى من غير انسلاخ عن عمان أو تجاوز لكيانها.
السلطان قابوس وعبدالله الطائي
العودة إلى مسقط
وبعد عودته إلى مسقط عيِّن مدرساً في المدرسة السعيدية، التي استمر بها لمدة تزيد على ست سنوات، وهو يسجل عن تلك الفترة قائلاً بالنص: «كان عملي الوحيد الذي مارسته بهذه الحقبة من عمري هو التدريس في السعيدية، وكان فيه فوائد للنشأة والتهذيب وفهم الرجال ومطالعة الكتب»، وقد أخلص الطائي لعمله ذاك وتفانى فيه وبذل كل ما استطاعه للارتقاء به وتطويره؛ فهو يقوم -إضافة إلى التدريس- بالمشاركة في أنشطة المدرسة، ويكتب التمثيليات البسيطة والأناشيد، ويتفاعل مع أساتذة المدرسة وطلابها وإدارتها في همة متجددة وعزيمة فوّارة، ولكن يبدو أن معوقات كثيرة واجهته في العمل لم يجد حلاً لها أدت به أخيراً للاستقالة والسفر إلى باكستان غداة استقلالها عن بريطانيا وانفصالها من الهند عام 1947م، وشجعه للذهاب لباكستان أصدقاء له سبقوه إلى هناك منهم جواد الخابوري وأحمد الجمالي وغيرهما من العمانيين، إضافة إلى أساتذة عرب من الخليج وفلسطين واليمن، واستمر هناك لما يزيد على سنتين مدرساً للعربية، ولكن إقامته كانت مضطربة متعبة مما اضطره للعودة إلى مسقط. وقد أفادته رحلته الباكستانية في تعزيز لغته الإنجليزية وتقويتها وتعلمه للغة الأوردو التي تمكن منها تمكّنا أعانه على قراءة عباقرة أدبائها كمثل إقبال وطاغور وأتاح له ترجمة شيء من إبداعاتهم إلى العربية كما روى بعض أصدقائه.
أيام البحرين
بعد أن مكث الطائي في باكستان مدة عامين انتقل مباشرة إلى البحرين ليصبح مدرّساً في مدرسة بمدينة المحرق البحرينية لمدة عام، ثم رجع إلى مسقط، ليعمل مترجماً في القنصلية البريطانية بسبب بعض الظروف العائلية، ثم استقال ليعود إلى البحرين مرة أخرى في عام 1952م ملتحقاً بنفس مدرسته بالمحرق.
وجد الطائي في البحرين بيئة اجتماعية مثالية تميّز بها أهل البحرين، وبالأخص تجاه أهل عمان، فشجعته على الاستقرار، والتفاعل مع الجو الثقافي هناك، وارتبط بعلاقات وثيقة، وصداقات متينة مع النخب البحرينية المؤثرة من الشعراء، والأدباء، والكتاب، وشارك في المنتديات، واللقاءات الفكرية، والثقافية، وكان له حضور لافت، وكان قلماً نيّراً يكتب في الصحافة البحرينية، ويدير الندوات، ويلقي المحاضرات وتقام له الأمسيات.
وحينما افتتحت إذاعة البحرين عام 1955م، بادر بالعمل بها في الفترة المسائية، فقدّم العديد من البرامج الثقافية والأدبية التي نالت استحسان وتقدير المستمعين بشكل كبير، إضافة إلى أنّه أصبح أحد محرّري المجلة التي أصدرتها الإذاعة باسم «هنا البحرين» ورئيس تحريرها فيما بعد، حينما تفرّغ للعمل الإعلامي، وانتقل من مهنة التدريس إلى العمل في دائرة العلاقات العامة بالإذاعة التي كان يرأسها جيمس بليقراف ابن مستشار حكومة البحرين الإنجليزي تشارلز بليقراف، وكان له نشاط كبير وملحوظ في الأندية والمجتمعات، لا سيما «نادي الخليفي الثقافي» في المحرق، وكان سكرتير اللجنة الثقافية لاتحاد الأندية في البحرين، ومن أهم الأدباء الذين ساهموا في استنهاض الأمة وأهل الخليج العربي والبحرين خاصة لمقاومة المستعمر البريطاني في المنطقة، كما كان خير من يناضل من أجل القضية العمانية في غربته؛ فقد كان لسان عمان الأدبي والفكري والسياسي والتاريخي.
في منتصف 1957 اضطر أديبنا عبد الله الطائي أن يترك البحرين بعد 9 سنوات قضاها هناك حافلة بالعطاء، وغزارة نتاجه الفكري والثقافي في شتى المجالات نتيجة الأوضاع السياسية الملتهبة، آنذاك، وبضغط إنجليزي غاصب مستعمر، ليهاجر إلى الكويت، وهو حزين جداً على تركه البحرين بعد كل هذا العطاء، حيث صوّر الطائي لوعة فراقه للبحرين وأهلها في تلك الأبيات التي كتبها:
وداعاً وإن كان الوداع تألما
وصبراً وإن كان التصبر علقما
وداعاً أوال العرب لا القلب مسعفاً
ولا النفس ترضى لا ولا الخطو أقدما
ولكنه إرهاب من جاء قاطعاً
بحاراً لتشريدي وهجرك حتما
ويا أيها الطيار سر بي مسرعاً
ففي القلب للبحرين ألف هوى نما
إذا ما تناءت معشراً ومنازلاً
ففي القلب ينبوع لعهد تصرما
وداعاً بلاد الخير والمجد إنني
نأيت على رغمي وفي كبدي ظما
في الكويت
بدأ حياة جديدة في الكويت، ورحب به أصدقاؤه الذين يعرفهم هناك، ومن أبرزهم صالح جاسم شهاب والشاعر أحمد السقاف؛ زميلاه أيام الدراسة في بغداد. وفي الكويت واصل نشاطه الثقافي والفكري في الإذاعة والصحافة والمنتديات وتقلد بعد فترة رئاسة تحرير مجلة «الكويت» التي كانت تصدرها حكومة الكويت، إضافة إلى برنامج إذاعي أسبوعي ثقافي أدبي كان يقدمه بصوته من إذاعة الكويت معني بالثقافة والأدب والتاريخ، وقد خصص حلقات من هذا البرنامج للحديث عن عمان وتاريخها وأدبها وأعلامها، وقد تم وقتها تضمين المنهج الدراسي الكويتي للصف الثاني عشر بعض حلقات ذلك البرنامج. وبعد إنشاء رابطة الأدباء الكويتية كان أحد أعضائها الفاعلين، وفي كل ندوة ومحفل كان دائماً يلقي المحاضرات ويتحدث في مجالات الفكر والثقافة وأفرع المعرفة المختلفة، كما كان يولي كبير عنايته للمواهب الشابة والأقلام المبتدئة ويفسح لها المجال للظهور والتكون في الإذاعة الكويتية التي أثراها ببرامجه المختلفة في الثقافة، والأدب، والتاريخ، الذي خصص جزءاً منه لتاريخ عمان، وحضارتها التي ضمن بعضها في المنهج الدراسي الكويتي للصف الثاني عشر، كما واصل نشاطه الفكري في بعض الصحف والمنتديات الأدبية.
مكتب الكويت في دبي
وخلال الفترة من 1 يناير 1963م وحتى 18 يونيو 1964م انتدبته حكومة الكويت ليشرف على سكرتارية مكتب الكويت في إمارة دبي للمساهمة في تنمية إمارات ساحل عمان، وإمارات جنوب اليمن في مجال التعليم والصحة وغيرها من مجالات.
العودة إلى الكويت
وعاد إلى الكويت ليعمل في إدارة الثقافة والنشر، ثم تقلد بعد ذلك مهمات وظيفية أخرى إدارية وإعلامية وثقافية حتى مغادرته الكويت إلى أبوظبي عام 1968م، أي بعد ما يزيد على 8 سنوات أمضاها هناك، وكان قد أصبح له حضوره البارز واسمه الكبير الذائع على مستوى الساحة العربية كلها، حيث دعاه وقتها حاكم أبوظبي الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان للعمل مستشاراً له، فغادر الكويت محموداً مقدراً من أناسها ومن حكومتها للأدوار التي قام بها وللخدمات التي أداها واضطلع بها فترة إقامته فيها، وهو بدوره كان لسانه يلهج بالشكر ويفيض بالثناء للكويت وأهلها وحكومتها التي آوته وساعدته وأفسحت له المجال ليعمل وينتج، وقد قال في حفل توديعه الذي أقامته رابطة أدباء الكويت وأعضاؤها من أصدقائه الأوفياء، وهو في ذلك يخاطب أهل الكويت:
وما هجرتكم سعياً لمصلحةٍ
لكن نداءٌ أتاني من حمى وطني
وما أنا للكويت اليوم ذو ملل
وكم شدوت بها في السر والعلنِ
الشيخ زايد وعبدالله الطائي
مستشار لزايد
في أبوظبي أصبح عبد الله الطائي محل ثقة والدنا الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، الذي قلّده الكثير من المناصب التي ساهمت في تطور الإمارة وكانت ركيزة مهمة من ركائز النهضة الحديثة لأبوظبي، وقد كان له جهد واضح وملموس في إنشاء إذاعة أبوظبي وتلفزيون أبوظبي، والمساهمة في تأسيس جريدة «الاتحاد» وأشياء أخرى كثيرة في مجالات التربية، والعلوم، والثقافة، والسياسة طوال فترة وجوده هناك التي دامت عامين، ثم طلب من الشيخ زايد، طيب الله ثراه، واستأذنه للعودة إلى عمان، التي طال غيابه عنها ليعود في عام 1970 إلى وطنه الأم عمان.
الشيخ خليفة بن زايد والشيخ مبارك بن محمد آل نهيان وعبدالله الطائي
في وطنه
بعدما وصل الأديب الراحل عبد الله الطائي إلى عمان عام 1970، التقى بجلالة السلطان قابوس ورئيس وزرائه السيد طارق بن تيمور، ليتم بعدها توليته وزيراً للإعلام ووزارة العمل والشؤون الاجتماعية بالوكالة، وإليه يعود الفضل في تنظيم الإذاعة العمانية وإعداد هياكلها وترتيب إدارتها.
ومن أهم مآثره في تلك الفترة نشيد «صوت النهضة» الذي أصبح أيقونة أساسية لجميع الأعمال الوطنية وأروعها حتى يومنا هذا.
كذلك قدّم الطائي برنامجاً يومياً عبر الإذاعة العمانية يذاع في أمسيات شهر رمضان عام 1971م، كم أرسل العديد من الشباب العماني للدراسة والتعليم، وعمل على استقدام الإعلامي الكويتي الكبير سالم الفهد ليصبح مديراً لإذاعة مسقط خلفاً للإذاعي الشهير أحمد المنصوري، الذي كان من إمارة دبي منتدباً من إذاعة «صوت الساحل» وتم نقله ليصبح مديراً لإذاعة صلالة بعد افتتاحها.
كما كان له دور فعال في تعميق العلاقات الودية بين عمان وبقية الدول العربية، وكذلك كان من أهم الداعمين لإنشاء صحيفة «الوطن» لأخيه نصر الطائي.
من مؤلفاته
العودة إلى الإمارات
ولم يدم عبد الله الطائي في المنصب الوزاري كثيراً، وخاصة بعد إعادة تشكيل مجلس الوزراء عام 1972م وتعيينه مندوباً للسلطنة في الأمم المتحدة، ولكنه رفض المهمة الجديدة، ورحل عن عمان عائداً إلى أبوظبي ليتفرغ لإعداد مؤلفاته العديدة مثل ديوانه الشعري «الفجر الزاحف» وروايته «ملائكة الجبل الأخضر»، وللذهاب إلى القاهرة لإلقاء سلسلة محاضرات عن أدب الخليج العربي في معهد البحوث التابع للجامعة العربية استجابة لدعوة من ذلك المعهد، وقد صدرت تلك المحاضرات فيما بعد في كتاب أسماه «الأدب المعاصر في الخليج العربي» طبعته جامعة الدول العربية تكريماً له بعيد رحيله بوقت قصير.
وفي غمرة اشتغالاته الفكرية والثقافية داهم الموت أديبنا الرحل عبد الله الطائي فجأة وهو في قمة نشاطه وعطائه في 18 يوليو من عام 1973م.
ومن أجمل أشعار الأديب الشاعر العماني عبد الله الطائي:يا من يعايدنا بصورة دارنا
وببحرها وبشامخ الأطوادِ
ارفق بقومٍ سافروا عن أرضهم
والشوق في الدرب الطويل كزادِ
العيد عندهم لقاء زانه
سير البلاد بركب أهل الضادِ
تحمي العروبة في الخليج كشأنها
في عهد من سبقوا من الأجدادِ
العيد عندهم عمان بعزة
وبنو عمان طليعة الروادِ
يبنون بالحكم الرشيد طريقهم
كي يوصلوه بسالف الأمجادِ
العيد شعب قد تجمع شمله
فغدا بموطنه قريع جهادِ
جمع الأكف على اكتساب معيشة
في داره وحماه من أصفادِ
إذ ذاك تحلو يا صديق بطاقة
ونرى جميعاً عزة الأعيادِ
فالعيش صفو والحياة عزيزة
والنفس تسكب صفوة الإنشادِ
والعين تبتهج المناظر حولها
فتخال (مسقط) مشرق الإسعادِ
والروح تلتمس التراب تلمه
لتقول ها أنا قد لمست مهادي
منه خلقت وفي الممات أرى به
سراً عليه يقوم يوم معادي
قل للذين استبعدوا عوداً لنا
سنعود عود البيض للأغمادِ
ولسوف نلقى إخوة وأحبة
وعمان تهتف مرحباً أولادي