الشعر في ديوان العرب الرقمي

Business الخليج العربي مجلة مدارات ونقوش – العدد 11

 1,844 عدد المشاهدات

الكاتب: د.علي بن ذيب الأكلبي –  باحث سعودي

هناك تغيرٌ كبيرٌ في المشهد الثقافي والمعرفي بناءً على ما أحدثته التقنية من تطوُّر في أدوات ووسائط المعرفة، حتى ظهرت بيئة المحتوى الرقمي بكلِّ ما فيها من إمكانات وقدرات كبيرة جداً، ويندرج في ذلك ما طرأ من تحوُّل في شكل النصِّ الأدبي، إذ أخذ في التحوُّل من الشكل التقليدي إلى النصِّ الرقمي من خلال المنصّات الإلكترونية، التفاعلية والديناميكية.

وهذا التحوُّل جعل من النصِّ الأدبي مادةً مشاعةً سهلةَ المنال واسعةَ الانتشار، ولم تعد محصورةً في مكان أو زمان، ولا تنتهي نسخها التي ظهرت مطبوعةً فيها ولا تنفد، وصار بمقدور المتذوّق والمتخصّص والمحب أن يبحث عن الشاعر والقصيدة والمعنى والمناسبة التي قيلت فيها، ومتى قيلت، وما طرأ عليها من تعليق أو شرح أو تغيير، بل وأصبح بالإمكان التأكُّد من صحة وزيف نسبتها إلى قائل معيّن، أو تغيير بعض عباراتها أو الألفاظ الواردة فيها بسهولة ويسر، ولكن ما مدى إفادة النص الأدبي العربي من إمكانات البيئة الرقمية؟

لقد برزت محاولات متوافرة اليوم على شبكة الإنترنت لإنتاج النصِّ الشعري الرقمي، ولكنها ما زالت دون المأمول وليست بمستوى الكفاءة في وظائف العرض والبحث والاسترجاع الدقيق، وبما أنَّ البيئة الرقمية مرنة وديناميكية ولا تحدّها حدود، فربما تغيَّر فيها شكلُ بناءِ القصيدة وعرضها بناءً على تصميم الموقع، ورغبة مسؤوليه في شكلٍ معيّنٍ أو تصميمٍ مختلف، لكن لا ينبغي أن يطغى على بنية القصيدة وما تتألّف منه من أبياتٍ لها صدرٌ وعجزٌ وتنتهي بقافية، وربما أعتبر الشكلَ الرقميَّ امتداداً طبيعياً لتطوُّر أشكال الكتابة الأدبية المتأثرة بمستجدات التقنية وما أنتجته من قواعد معلومات إلكترونية ومكتبات رقمية.
إنَّ المسؤولية في مواكبة مستجدات التقنية واستثمارها لصالح النصِّ الأدبي، شعراً كان أم نثراً، هي مسؤولية مشتركة يتحمّل تبعاتها الجامعات والأندية الأدبية، ومؤسَّسات المعلومات التي تنتج المحتوى الرقمي وتتيحه، وعليها تبعات التثقيف والتدريب والتوعية لشريحة الأدباء من شعراء وغيرهم، لإكسابهم أدوات ومهارات إنتاج النصِّ الرقمي والإسهام في نشره على المنصّات الرقمية. وفي ذلك مساهمة في رفع مستوى الأدب العربي وزيادة نسبة المشاهدات له والرجوع إليه والاستشهاد به من قِبَل القارئ والباحث العربي، وكذلك الأجنبي الذي يهتمُّ بالمحتوى العربي، ويمكن الآن للباحث والمهتم الذي يرغب في قراءة الشعر وبقية أنواع الأدب أن يجدَ بعضَ ضالته على شبكة الإنترنت، ولكنها تظلُّ جهوداً متواضعة وغير مؤسَّسَة على نهج علمي موثوق ومتطوّر، ولا تتوافر محركات بحث خاصة بالمحتوى الأدبي العربي تحديداً.
ولعلَّ بداية العمل المتقن لإتاحة الأدب الرقمي المؤسَّسي تكون من قِبَل المجلات المتخصِّصة في الشعر والأدب، والأندية الأدبية والمراكز المتخصِّصة في الأدب عبر إنشاء مستودعات رقمية أو مكتبات إلكترونية مصغّرة تتوافر فيها أدوات البحث والاسترجاع المعيارية، ويتمُّ تنظيمُ محتوياتها تنظيماً فنياً مقنَّناً يراعى فيه إعدادُ البيانات الوصفية الببليوجرافية للقصيدة متضمنةً اسم الشاعر وعنوان القصيدة وعدد أبياتها وتاريخها الذي قيلت فيه، وهل هي منشورة في مصدر معيّن، وكذلك تهيئة النصِّ الكامل للقصيدة ليكونَ نصّاً قابلاً للبحث بأيِّ جزءٍ أو كلمة منه، وهكذا. وهذا مثال على بيانات مصدر شعري في مكتبة دبي الرقمية لتقريب الصورة حول البيانات الببليوجرافية المشار إليها.

ولعلَّ من المناسب أن أشير في هذا الصدد إلى أنَّ بيئة المحتوى الرقمي ستوفِّر أيضاً للنصِّ الأدبي وللقصيدة على وجه الخصوص المزيد من الإمكانات التي تجعل منها مادةً أكثرَ إمتاعاً وأسهلَ استعراضاً من خلال تسجيلها صوتياً، وأحياناً إضافة مؤثرات إلى القصيدة بحسب موضوعها إن كان في الوصف أو الحماسة أو ما إلى ذلك عبر مؤثرات صوتية من البيئة المناسبة لموضوع وغرض القصيدة، فربما تمَّ إضافة أصوات لخرير الماء وصوت البحر في قصائد تتعلّق بالمطر والتنزُّه، وربما أضيفت أصوات جلبة وصخب إلى قصيدة ملحمية وهكذا. كما يمكن في البيئة الرقمية إدراج صور تعبيرية توضّح معاني بعض العبارات والأبيات التي ربما ترد في بعض القصائد ليسهل فهمها ومعرفة معناها من قِبَل القارئ، كما لو أضيفت صورة صخرة كبيرة انشقت عن الجبل جرّاء سيل وذلك لبيان معنى قول امرئ القيس في معلقته:


مِــكَــرٍّ مِــفَــرٍّ مُــقْــبِــلٍ مُــدْبِــرٍ مَــعــاً
كَــجُلْـمُوْدِ صَـخْرٍ حَطَّهُ السَّـيْلُ مِنْ عَلِ

ولا ريب أنَّ التصويرَ البلاغيَّ للألفاظ الشعرية عندما يصاحبه توظيف للقدرات المتاحة في البيئة الرقمية سيأسرُ القلوبَ ويأخذُ بالألباب خاصة ونحن نتناول نصّاً مميزاً من حيث الشاعر المجيد للشعر والجزل في الألفاظ والمعاني، فكما نعلم لدى الشعراء قدرة خاصة على قول الكلام البليغ، فتراهم يأتون بتركيب كلامي عجيب في سبكه ومعناه، والشعراء هم الذين يقولون الكلام المنظوم في موضوع معيّن أو أكثر بأوزان خاصة وبكلام مقفّى، أي له قافيةٌ وخاتمةٌ واحدة، تنتهي كلُّ كلماته بحرفٍ واحدٍ، ليتشكَّل من ذلك ما يسمّى “القصيدة” التي يتمُّ بناؤها من مجموعة أبيات، والبيت يتكوّن من صدر وعجز.
وفيما يأتي عينة عشوائية لبعض الأمثلة على عدد من الأبيات الشعرية التي سيزداد جمالها وتأثيرها في متلقيها في البيئة الرقمية من خلال إلقائها صوتياً أو إضافة مؤثرات صوتية مناسبة لمعاني ودلالات ألفاظها، أو إدراج صور تعبيرية توضّح معاني العبارات الواردة في القصيدة، كما في هذه الأبيات على سبيل المثال التي قالها أبو تمام مادحاً خصلة الحياء، وداعياً إلى المحافظة عليها وأنها لبُّ الحياة الطيبة، وذاماً التخلي عنها:

يَعِيشُ المَرْءُ ما استَحْيَى بِخَيرٍ

        ويبقَى العودُ ما بقِيَ اللحاءُ
فلا واللهِ ما في العيشِ خَيْرٌ

              ولا الدُّنيا إذا ذَهبَ الحَياءُ
إذا لَمْ تَخْشَ عاقبةَ  الليالي

             ولمْ تستَحِ فافعَلْ ما تَشاءُ

فلو صَاحَبَ البيتَ صورةٌ لعود شجرة من دون لحاء كهذه الصورة التالية، لكان تأثيرها أبلغ وأقوى، وهذا سهلٌ ومتاحٌ في البيئة الرقمية.

 ويقول أبو البقاء الرندي في معرض رثائه للأندلس وما فقدناه فيها من أمجاد وحضارات وثقافة:


لكلِّ شَيْءٍ إذا ما تمَّ نُقْصانُ

     فلا يُغرُّ بِطيبِ العيشِ إنسانُ
هي الأمورُ كما شاهدتها دُولٌ

     مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ
وهذه الدارُ لا تُبقي على أحدٍ

     ولا يدومُ على حالٍ لها شانُ

فيمكن من خلال إمكانات البيئة الرقمية إضافة عينة من صور أو مقاطع لبلاد الأندلس، لتقرّب الصورة الذهنية لمن يراها بشكل ومنظر حضارة المسلمين في الأندلس كما في هذه الصورة مثلاً وهي لمسجد قرطبة في الأندلس.

إنَّ مواكبة المستجدات واستثمار منافع البيئة الرقمية أمرٌ يهمُّ كلَّ عربي فرداً كان أم مؤسَّسة، ولذلك فالأملُ معقودٌ على الجميع في الارتقاء بوسائط عرض وإتاحة المحتوى الأدبي العربي في البيئة الرقمية.