2,792 عدد المشاهدات
الكاتب:حسين درويش
لا تكتمل أيُّ جولة سياحية دون ركوب العَبْرة «وسيلة تنقُّل مائية تقليدية مصنوعة من الخشب على شكل قارب، تنقل الناس بين ضفتي خور دبي»، حيث يتأمل السائح جماليات العمارة القديمة في منطقة الشندغة التي تعكس هوية المكان من البراجيل وزخرفة البناء أو المتاحف والمقاهي الفسيحة بإطلالتها الساحرة وطيور النورس التي تزيّن السماء، وصولاً إلى شريط الأبنية الحديثة والمدنية المعاصرة.
تصل العبرة من الضفة الشمالية للقناة المائية إلى الضفة الجنوبية، حيث ترسو في مدخل منطقة الشندغة من جهة البحر، ووسط هدير الأمواج التي تحركها عشرات العبرات التي تمخر اليمَّ ومن حولها طيور النوارس الأليفة، ثمَّ يغادر السائح العبرة باتجاه منطقة الشندغة الممتدة بشكل هندسي عفوي، متلفتاً صوب القارب الخشبي الذي يعدُّ أرخص وسيلة مواصلات بين ضفتي الخور، ومتسائلاً في الوقت عينه عن مصدر السحر الذي تخلفه مفردات الزمن الجميل في الروح.
خلال صعود الركاب إلى العَبْرة، وخاصة الذين يزورون المدينة بشكل سياحي، تراهم يستلون هواتفهم وكاميراتهم ليلتقطوا مشاهد استثنائية لواجهة الشندغة التراثية، وكأنهم يدركون قيمة الزمن في تلك الحجارة البنية والأبواب الخشبية التي لوحتها شمس الخليج، وتراهم رغم ميلان قاربهم نحو الشمال أو اليمين لا يتوانون عن التقاط صور ذاتية «سيلفي» ومن ورائهم أبنية الشندغة التي تبدو خلف رفيف النوارس قطعة فنية أبدعها رسّام ماهر.
جولة في التاريخ
وتختلف أغراض رحلة العبرة بين ضفتي الخور، حيث يستخدمها البعض وسيلة مواصلات أو نزهة في البحر، أو رحلات سياحية لها طابع ثقافي، فهم يحرصون على زيارة مختلف الأمكنة التاريخية والسياحية، من أسواق التوابل والعطور والذهب إلى منطقة الشندغة التراثية التي تضمُّ المتاحف، مثل بيت الشيخ سعيد، وقرية الغوص، وقرية التراث، وبيت الشعر والمتنزهات، وسوق الذهب وغيرها.
غير أنَّ العَبرات التقليدية التي كانت تتهادى بين ضفتي خور دبي، وتلتحم بسطح الماء فتخطّ وراءها ذيولاً مائية ترسم هوية المكان، ذهبت إلى التقاعد في مشهد يشي بوداع يأتي بعد «طول عشرة»، عقب قرار إحالة جميع العبرات العاملة في الخور إلى التقاعد، كونها «لم تعد ترقى» إلى مستوى المواصفات العالمية لحماية البيئة والحدّ من التلوث، على أن يتمَّ استبدالها بجيل جديد «أكثر خفة ورشاقة» ويتمتّع بمواصفات صديقة للبيئة·
كانت العبرات (التي يبلغ عددها 149) تتمايل في رحلاتها اليومية في الخور، لكنها اليوم ذكريات عالقة في الأذهان، فقد استمرّت العبرة طوال السنوات الماضية شاهدة على التحوُّلات الكبيرة التي جرت في محيط الخور ومدينة دبي بشكل عام، سواء من الناحية العمرانية أو الاجتماعية.
وتذكر المراجع التاريخية أنَّ أقدم استخدام للعَبْرة يعود إلى العام 1860 من خلال الحركة التجارية والاجتماعية التي نشطت على ضفاف الخور، وفي العام 1920 كانت العَبْرة بالمجداف تنقل التلاميذ من الشندغة وبر دبي إلى المدرسة الأحمدية· أمّا المؤرخ البريطاني جون غوردون لوريمير، فقد ذكر أنَّ حاكم دبي في عام 1908 كان يسمح للسكان يوم الجمعة باستخدام العبرة مجاناً للوصول إلى دبي والصلاة في الجامع الكبير والعودة بعد ذلك إلى منازلهم في ديرة· وتعدُّ العَبْرة واحدة من أصل 20 نوعاً من القوارب الصغيرة التي درج استعمالها في الماضي، ومنها الجلبوط والشوعي والشاشة، وتعدُّ الأخيرة هذه من أصغر أنواع القوارب التي استخدمت في خور دبي، وهي مصنوعة من سعف النخيل، وكانت تُسْتَعْمَلُ في الصيد البحري·
ولم تملّ العبرات طوال العقود الماضية ولغاية اليوم من ممارسة دورها الذي تحفظه كتب التاريخ بصور الأبيض والأسود؛ إذ تنحصر مهمتها في العبور بين ضفتي الخور في مسافة لا تتعدى الكيلومترين· وشكَّلت العبرة في الماضي وسيلة التنقُّل الوحيدة بالنسبة إلى معظم سكان دبي المنتمين إلى مختلف الطبقات الاجتماعية·
في منطقة خور دبي يمكنك التعرّف إلى ملامح دبي القديمة، وركوب العَبْرة للتجوُّل في الخور والتمتُّع بزيارة الأسواق القديمة مثل سوق التوابل وسوق الأقمشة وسوق الذهب، وذلك كله بثمن زهيد. وتوجد ثلاث محطات لهذه الوسيلة التراثية للتنقُّل الجماعي، تتيح متعة لا تُنْسَى؛ أولها في سوق ديرة القديم ومحطة السبخة ومحطة الشندغة والغبيبة.
فيلم
فيلم «ما بين ضفتين» هو باكورة أعمال المخرجة الإماراتية نجوم الغانم، يسرد الفيلم، خلال 20 دقيقة، حكاية خميس مرزوق، آخر من بقي يعمل في قوارب التجديف في خور دبي من خلال الصورة البصرية الموحية وأصداء أغاني البحارة، حيث نتعرّف إلى التحديات التي تفرضها المدنية الحديثة، وكيف يستطيع العبّار التقليدي العمل والاستمرار ما بين ضفتين، حيث ينقل يوميات حياته المتشابهة، وصراعه ضد تيار العمر والفقر والتكنولوجيا، التي قذفت به وسط أمواج المراكب والقوارب التجارية الحديثة، وقد مثّل فيلم «ما بين ضفتين» الإمارات رسمياً في مهرجانات دولية عدة؛ منها مهرجان «ياما غاتا» باليابان في سبتمبر 1999.
بيت الشعر
في إطار حرص مؤسَّسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة على تعزيز القيمة الفنية للشعر والشعراء، وإيماناً بدور الشعر في رُقي الشعور الوطني والإنساني، أطلقت المؤسَّسة بالتعاون مع هيئة دبي للثقافة والفنون، بيت الشعر في منطقة الشندغة التراثية بدبي، بالقرب من بيت الشيخ سعيد آل مكتوم المطل على خور دبي.