رحلة في عالم الكمامة الطبية عبر العصور

Blog

 1,250 عدد المشاهدات

الكاتبة: إيمان محمود سليمان

دبي ـ إيمان محمود سليمان

كثرٌ من يعتقدون أن الكمامة الطبية تم ابتكارها في الغرب ومن ثم تصديرها إلى العالم العربي، وبالفعل عندما نبحث عن بدايات ظهور القناع الطبي في محركات البحث، نجد أن معظم المواقع التاريخية والمجلات الطبية تنشر معلومات عن بدايات ظهور الكمامة الطبية في باريس على هيئة قناع يشبه منقار الطيور وذلك خلال القرن السادس عشر.

لكن، هل فعلا قناع المنقار الفرنسي هو الشكل الأول للكمامة الطبية؟ وهل كانت بداية استخدام الإنسان لقناع يحمي رئتيه وينقي أنفاسه في القرن السادس عشر؟

الإجابة الحقيقية لم نعثر عليها في المواقع والمنصات الالكترونية العالمية، لأن الكمامة الطبية بشكلها الأول ووظيفتها السابقة والحالية، عرفها العرب منذ آلاف السنين، وكانوا يطلقون عليها اللثام، وهو ما يشده العربي على أنفه وفمه لأغراض متعددة.

عرف العرب اللثام منذ القدم، وكان وسيلة فعالة لحماية الرأس من وهج شمس الصيف وزمهرير الشتاء، لكن الاستخدام الأكثر أهمية للشماغ أو اللثام الذي اعتاد العرب لفه حول الوجه كقناع يحمي الانف والفم، كان بغرض الوقاية من الغبار والهواء السام والريح الجافة، والحماية من أمراض الحساسية الموسمية.

واستخدم العرب على امتداد بقاع واسعة من مناطق انتشارهم اللثام بألوانه المتعددة التي اختلفت باختلاف المدن والقبائل العربية، وحمل اللثام مسميات مختلفة حيث أطلق عليه اسم الغترة أو الشماغ في الخليج العربي وبلاد الرافدين، والحطة والكوفية في بلاد الشام. وفي القرن السادس ميلادي تحدث العالم المغربي الأندلسي ابن عبدون محمد بن أحمد التُّجيبي عن أهمية اللثام في حفظ الصحة ضمن رسالة القضاء والحسبة، التي نشرها المستشرق ليفي بروفنسال، المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية في القاهرة 1955.

. وقال ابن عبدين التجيبي في مراقبة المحتسب للطحانين والخبازين: «..ولا يعجنُ أحدهم إلا وهو ملثّم لئلا يتطاير من فمه شيء إذا عطس أو تكلم، وأن يشد على جبينه عصابة بيضاء كي لا يعرق فيقطر منه شيء فوق العجين.

أول استخدام

وفي بداية القرن الخامس عشر ميلادي استخدم العالم العربي عز الدين الجلدكي الكمامة لأول مرة في معامل الكيمياء للوقاية من خطر استنشاق الغازات السامة الناتجة عن التفاعلات الكيميائية.

انتقالا إلى أوروبا، خلال العصور الوسطى، تحديدا في العام 1619 عندما اجتاح الطاعون باريس، ظهر شكل مختلف للقناع الطبي على يد شارل دي لورم، طبيب الملك لويس الثالث عشر، عبارة عن بذلة واقية وعصا وقناع يشبه المنقار، ومن المفترض أن هذه الأقنعة كانت محشوة بالأعشاب ذات الرائحة النفاذة مثل القرنفل أو القرفة أو الثوم.

هذه الأقنعة الشبيهه بمنقار الطائر أدت إلى ظهور مصطلح  “أطباء المنقار” وكان الهدف من استعمالها آنذاك توفير الحماية للأطباء والممرضين من آفة الطاعون التي انتشرت حينها، و كان الاعتقاد السائد في تلك الفترة أن الطاعون ينتشر من خلال الهواء الفاسد والروائح الكريهة

في أعقاب الحرب العالمية الأولى شهدت أوروبا وبعض دول العالم انتشار الموجة الأولى من جائحة الإنفلونزا، أو ماعرف بالانفلونزا الإسبانية وهوما أدى إلى انتشار الكمامة الطبية بين الناس، وأصدرت دول مختلفة قرارا ينص على ضرورة استخدامها، فارتدى المواطنون الأقنعة تنفيذا لأوامر السلطات في حين اعترض عليها البعض.

وتقول المؤرخة نانسي تومز إن ارتداء الأقنعة اعتنقه الرأي العام الأمريكي باعتباره ” شعارًا للروح العامة والانضباط”. وأخذت النساء اللواتي اعتدن على حياكة الجوارب والضمادات للجنود بصنع الأقنعة كواجب وطني، ولكن سرعان ما تضاءل الحماس تجاه الكمامة بسرعة.

وبدأ استخدام الكمامة الطبية في غرف العمليات بشكل رائج خلال عشرينيات القرن الماضي، في ألمانيا والولايات المتحدة، خاصة أثناء إجراء عمليات التنظير الداخلي .

وفي حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى، استمر اليابانيون في ارتداء الأقنعة للوقاية من الأنفلونزا، ولم يتوقفوا عن ارتداءها إلا في السبعينيات من القرن العشرين عندما أصبحت لقاحات الإنفلونزا متاحة على نطاق واسع.

أما في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، ازداد ارتداء الأقنعة للوقاية من الحساسية، التي أصبحت مشكلة متنامية، في اليابان، كما تراجعت فعالية لقاحات الإنفلونزا واستؤنف ارتداء الكمامة لتجنب الإنفلونزا وانتشر ارتداء الأقنعة الطبية بشكل كبير وفق عالم الاجتماع الياباني ميتسوتوشي هوري.

وكانت الكمامات الطبية المستخدمة في أربعينيات القرن التاسع عشر تتكون من عدد مختلف من طبقات الشاش فقط، قابلة للغسل والتعقيم والاستخدام مرة أخرى، وفي منتصف الستينيات تم استخدام العناصر التي تستخدم لمرة واحدة والمصنوعة من الورق والصوف في الولايات المتحدة الأمريكية ثم انتشرت في جميع أنحاء العالم.

انتشار الأقنعة

 وصولا إلى العصر الحديث اضطر العالم إلى ارتداء الكمامات الطبية مرة أخرى، مع تفشي إنفلونزا الطيور ووباء السارس في شرق آسيا خلال السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين.

وعندما انتشرت جائحة إنفلونزا الخنازير في المكسيك والولايات المتحدة ودول أخرى بين عامي 2009 _ 2010 لجأت بعض الدول مجددا إلى فرض ارتداء الكمامات الطبية للوقاية من الفيروس، والحد من انتقال العدوى.

مع كل تلك الجوائح والآفات التي تعاقبت خلال القرون المنصرمة، لم يشهد العالم عددا هائلا من الوجوه المقنعة، إلا بعد انتشار جائحة كوفيد 19 ، حول العالم والمستمرة منذ نهاية 2019  حتى يومنا هذا، حصدت خلالها الجائحة ملايين الأرواح وأصابت عشرات الملايين ومازالات تهدد بالمزيد.

وهكذا أصبح ارتداء الكمامات سلوك يومي للبشر في كل دول العالم، فهي بمثابة السلاح الفعّال لمواجهة جائحة كورونا، وسرعان ما بدأ التنافس على ابتكار كمامات بتصميمات عصرية مختلفة وألوان متعددة، حتى باتت الكثير من النساء حول العالم تنسق اختيار الكمامة لتتلاءم مع ملابسها، وباتت الكمامة اكسسوار العصر، الذي أضافه كوفيد 19 على عالم الموضة في القرن الواحد والعشرين.

على أية حال يبدو أن القناع الطبي سيستمر بتغطية وجوهنا، حتى أجل غير مسمى، طالما أن كورونا المستجد يواصل انتشاره، يتطور تارة ويتحور تارة أخرى، ومن يدري كيف سيكون الشكل الجديد للكمامة الطبية خلال الجائحة التالية؟!

المصادر


ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
المجلة الطبية الأوربية
رسالة في القضاء والحسبة