1,323 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
لا تزالُ رحلة محمد بن عبدالله الطنجي المشهور بابن بطوطة (703-779هـ) هي الأكثر حظّاً بين الرحلات العالمية من حيث الشهرة واهتمام الدارسين لتميّزها في معلوماتها وصدقها بعد أن ثبت التزوير في بعض الرحلات الأخرى، مما جعل رحلته تحتفظ بالصدارة على الرغم من تقادم السنين عليها. وقد خرج الباحث الإنجليزي “ماكنتوش” ببرنامج في قناة “بي بي سي” وأذاع حلقاتٍ عجيبةً عن رحلة ابن بطوطة وقام فيها بتتبع سير رحلته من مدينة “طنجة” مسقط رأسه إلى بلاد الصين، فأثبت صدقه ودقته في الوصف.
وقد أخبرني الأستاذ عبدالهادي التازي محقق هذه الرحلة: أنّ رئيس المالديف أرسل رسالة للملك الحسن الراحل ملك المغرب وفيها تصحيح لمعلومة عن تاريخ بعض مساجد المالديف وقد ذكرها خطأً، فما كان من الملك إلا أن أرسل التازي إليه فمكث شهراً وأثبت صحة ما جاء عند ابن بطوطة في قصةٍ طويلةٍ سأذكرها في مقالٍ آخر إن شاء الله.
ابن بطوطة
ومن صدق أوصاف هذا الرحّالة الكبير هو وصفه لرحلة الغوص في الخليج العربي حيث ذكر أمراً يطابق الواقع الصحيح من طريقة الغوص الذي لم ينته إلا من زمن قريب وقد أدركه آباؤنا ووصفوه لنا، يقول ابن بطوطة:
“سافرنا منها إلى مدينة “قيس” وتسمى أيضاً بسيراف، وهي على ساحل بحر الهند المتصل ببحر اليمن وفارس، وعدادها في كور(مدن) فارس، مدينة لها انفساح وسعة، طيبة البقعة، في دورها بساتين عجيبة، فيها الرياحين والأشجار الناضرة. وشرب أهلها من عيونٍ منبعثةٍ من جبالها، وهم عجم من الفرس أشراف، وفيهم طائفة من عرب بني سفّاف، وهم الذين يغوصون على الجوهر(اللؤلؤ).”
قلتُ: “سيراف” مدينة أخرى كانت عامرة على بر فارس وهي من مراكز التجارة القديمة وميناء مشهور تبحر منها سفن التجارة وقد اندثرت منذ قرون وهي غير جزيرة “قيس”، ولا تقع في بحر الهند كما ذكر ابن بطوطة ولكنها في الخليج وتسمى “كيش” اليوم، أما عرب بني سفاف فلم أجدهم في كتب التاريخ ولعله تحريف، ومن المعلوم أنّ معظم رجال الخليج كانوا يعملون في الغوص وليس أهالي جزيرة “قيس” فقط.
ويتابع ابن بطوطة ويصف الغوص فيقول :
«مغاص الجوهر(اللؤلؤ) فيما بين سيراف والبحرين في خور راكد مثل الوادي العظيم، فإذا كان شهر إبريل، وشهر مايو تأتي إليه القوارب الكثيرة فيها الغواصون وتجار فارس والبحرين والقطيف، ويجعل الغوّاص على وجهه مهما أراد أن يغوص شيئاً يكسوه من عظم الغيلم، وهي السلحفاة ويصنع من هذا العظم أيضاً شكلاً شبه المقراض، يشده على أنفه، ثم يربط حبلاً في وسطه ويغوص، ويتفاوتون في الصبر في الماء، فمنهم من يصبر الساعة والساعتين(مدة زمنية قصيرة) فما دون ذلك فإذا وصل إلى قعر البحر يجد الصدف هنالك فيما بين الأحجار الصغار مثبتاً في الرمل، فيقتلعه بيده.
أو يقطعه بحديدة عنده معدة لذلك، ويجعلها في مخلاة جلد منوطةٍ بعنقه، فإذا ضاق نفسه، حرّك الحبل فيحسّ به الرجل الممسك للحبل على الساحل، فيرفعه إلى القارب، فتؤخذ منه المخلاة، ويفتح الصدف فيوجد في أجوافها قطع اللحم تقطع بحديدة، فإذا باشرت الهواء جمدت فصارت جواهر، فيُجمع جميعها من صغير وكبير، فيأخذ السلطان خمسه، والباقي يشتريه التجار الحاضرون بتلك القوارب وأكثرهم يكون له الدين على الغواصين، فيأخذ الجوهر في دينه أو ما وجب له منه».
«الديلي ميل» تصف القفال بسباق القوارب الأجمل في العالم
قلتُ: لو سألت أهل الغوص من أهالي الخليج لما زاد على ما ذكره ابن بطوطة في القرن الثامن الهجري، ولو أنه توّهم أنّ لحم الصدف ينقلب لؤلؤاً وهذا عارٍ عن الصحة وإنما اللؤلؤ يكون في أحشائها بأحجام وألوان مختلفة.
ومن باب الطرافة وبعد مرور هذه القرون على رحلة ابن بطوطة وانتهاء الغوص وذهاب أهله، تأتي جريدة بريطانية وهي «الديلي ميل» وتغطي سباق «القفّال*» في الإمارات الذي يحاكي رجوع السفن من الغوص وتصفه بقولها: هو سباق القوارب الأجمل في العالم!
قلتُ: هو كذلك. هذا وسباق «القفّال» يحرص عليه سمو الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم حفظه الله منذ 22 سنة ويشارك فيه كثير من المتسابقين في الدولة ويبدأ من جزيرة “صير بو نعير” كل سنة في مثل هذه الأيام.
نشر في البيان
بتاريخ 01 يونيو 2012