1,292 عدد المشاهدات
لا شكَّ أنَّ للوثيقة نكهتها الخاصة مهما كان مصدرها، فهي في صورة من الصور بقعة ضوء تنير مرحلة زمنية طواها ظلام النسيان. ويجيء كتاب “القوافل – رحلات الإرسالية الأمريكية في مدن الخليج والجزيرة العربية 1901-1929″ للباحث خالد البسام في طبعته الثانية الصادرة عن دار قرطاس للنشر بالكويت سنة 2000، ليقدِّمَ المزيد من المتعة والفائدة للقارئ؛ إذ إنَّه يعرض في ثناياه زمن بدايات تفتح منطقة الخليج العربي ومراحل خروجها من عتمة التخلف والضعف والفقر والجهل إلى عصر التقدم والازدهار، وفي الوقت نفسه يوجِّه الأنظار إلى نشاط سري كان يرسم لهذه المنطقة- منذ زمن بعيد- خططاً استعمارية تلبس رداء الدين أو الطب أو السياحة أو غير ذلك من التمويهات التي تسلل عبرها المبشرون الأمريكان الذين قصر المؤلف كتابه على نشاطهم، وهم وإن جاؤوا إلى الخليج متأخرين عن أمثالهم الأوربيين، إلا أنهم عملوا بنشاط مقنن في محاولة لسبر المنطقة أرضاً وشعباً، متغلغلين في الجبال والصحارى بهدف التبشير بتعاليم الكنيسة البروتستانتية، لخلق قاعدة شعبية تقبل بهؤلاء الأغراب ومعتقداتهم. غير أنَّ اللافت للنظر أنَّ هذه الإرساليات التبشيرية أخفقت في زعزعة معتقدات أبناء منطقة الخليج العربي، ولقيت رفضاً تاماً جعلها تتراجع وتستسلم وتعود من حيث أتت.
من بين الروايات التي تضمنها هذا الكتاب هي رواية المبشِّر جيمس مويرديك في الشارقة ودبي سنة1901؛ إذ يقول: في صباح أحد أيام شهر مايو من نفس السنة أبحرت ومعي مرافقي بائع الكتب من الإرسالية الأمريكية، من البحرين متوجهين إلى بلاد جديدة تطأها أقدامنا لأول مرة، هي الشارقة ودبي.
كانت أشعة الشمس اللاهبة والسفينة المحلية عند ميناء المنامة ينتظران وصولنا مع حميرنا المحملة بالأغراض بفارغ الصبر، وأغراضنا هي معدات طبية وكتب، كان عدد المسافرين معنا 30 فارسيًّا ونوخذة السفينة وبحارته الأربعة، والكل متشوِّق لبدء الرحلة. وبعد سبعة أيام من السفر وسط العواصف والتوقفات في العديد من الموانئ وصلنا إلى الشارقة، وظهرت الابتسامة على الوجوه الشاحبة من شدة التعب.
عندما وصلنا إلى الشارقة استأجرنا كوخاً مبنيًّا من سعف النخيل في فناء محاذ لمخزن حبوب تابع لأحد الشيوخ هناك، وبعد أربعة أيام نجحنا في استئجار كوخ أفضل على الرغم من أنه كان أبعد قليلاً عن السوق، إلا أنَّ المنطقة كانت أفضل ممَّا كنَّا نتوقعها.
كان بيتنا هو البيت المسيحي الوحيد، ليس في الشارقة فقط بل في الساحل كله، ولم نتمكَّن من أن نوفِّر فيه كلَّ ما نحتاج إليه، إلا أننا استطعنا توفير مكان مريح جدًّا، وبعدما انتهينا من ترتيب أوضاع سكننا ومعيشتنا، أخرجنا الكثير من الأناجيل والكراريس المسيحية وقمنا بعرضها خارج البيت على بساط فرشناه في الأرض، وقد جذبت هذه الكتب الكثير من الزوَّار والجمهور الفضولي. وعلى الرغم من أنَّ جميع هؤلاء لم يشتروا إنجيلاً واحداً من عندي ولا من عند بائع الكتب الذي جاء معي من البحرين، إلا أنهم كانوا يسمعون كلمات الله في بيتنا بالشارقة الذي كان مفتوحاً بشكل دائم لجميع الرجال.
ومع مرور الأيام ازدادت طموحاتنا، فكنَّا نرغب في تأجير دكان في الشارقة أو دبي، لنتمكَّن من نشر وبيع كتبنا في السوق، والأهم من ذلك هو التحدُّث إلى الناس، لكن هذه المحاولات باءت بالفشل؛ فقد بدأنا المحاولة بعدما عرفنا أنَّ هناك عدداً من الدكاكين غير المؤجَّرة، وعندما ذهبنا لاستئجار أحدها رفض المالك بشدة بعد اكتشافه أننا مُبَشِّرُون مسيحيون. وبالطبع لم نيأس، واستمرت محاولاتنا مع مالكي الدكاكين، ولكنهم أصروا جميعاً على الرفض، وبعد أسبوعين من المحاولات المضنية في كل مكان تخلينا عن المحاولة تماماً، ولا سيما عندما علمنا بأنَّ شيوخَ المنطقة كانوا يشجعون أيَّ مالك على رفضه تأجير دكان لنا.
لهذا السبب لم يكن لدينا أيُّ اختيار آخر، غير أننا كنَّا نتجوَّل في الشوارع والأزقة بتلك المدينتين، ومحاولة بيع نسخ من الإنجيل، كما قمنا بزيارة بعض القرى على الساحل الشرقي، ولم نجد أحداً يرغب في شراء الكتب.
بجانب القرى قمنا بزيارة عجمان وطفناها شارعاً شارعاً دون أن نبيع كتاباً واحداً، واظطررنا إلى مغادرتها بكتبنا التي جئنا بها هناك، وبعد رجوعنا إلى الشارقة جلسنا أمام كوخنا وعرضنا كتبنا كالعادة، واستطعنا في ذلك اليوم بيع إنجيل واحد بـسنتين أمريكيين
وبعد أيام دعانا أحد الشيوخ في مدينة الحمرية(1) إلى رؤيته، وبعد التحية والسلام والضيافة
العربية المعتادة طلبت منه أن يعاين كتبنا، لكن الشيخ رفض وقال لنا: إننا نعترف بأنَّ المسيح عليه السلام كان رسولاً صادقاً لله، ولكن هل أنتم تعرفون أنَّ محمداً كان رسولاً صادقاً؟! وبالطبع لم نقل شيئاً، بعدها قام الشيخ من مجلسه وطلب من الأهالي أن يقاطعوا كتبنا وكراريسنا، إلا أنه كان للبعض فضول في معرفة ما جلبناه معنا، فطلبوا منا بعضاً من الكتب للاضطلاع على ما في داخلها، ولكننا عرفنا أنه بعد أيام أعطوا هذه الكراريس إلى شيوخ الدين الذين قاموا بإتلافها، وفوق ذلك كله وَاجَهَنَا كثيرٌ من المسلمين، وتعرضنا لرجال ملخَّص دعواهم هو أننا على باطل وأنَّ الإسلام هو دين الحق. لم نحقق هدفنا وكانت رحلتنا صعبة، إلا أننا تمكَّنا من كسب الكثير من المعلومات القيِّمة عن الناس، والفرص الخاصة بعمل الإرسالية الأمريكية في الشارقة ودبي.
رواية أخرى تضمَّنها الكتاب وهي رواية الطبيب بول هاريسون الذي كتب انطباعاته عن أبوظبي عام 1919، والذي استهلَّ حديثه عن الرحلة قائلاً: تأخرت سنوات كثيرة، وكان السبب في ذلك هو الرحلات السابقة التي قام بها أعضاء الإرسالية الأمريكية التي باءت بالفشل، لكنني استطعت في الفترة الأخيرة كتابة رسائل عدة إلى شيوخ المنطقة، أشكرهم فيها على إعطائنا الفرصة لمعالجة مواطنيهم الذين يأتون بحراً إلى المنامة للمعالجة في مستشفى الإرسالية، كما تتضمَّن هذه الرسائل عروضاً لزيارة مدن الإمارات للقيام بعمل طبي شامل إذا كان ذلك ممكناً، وبعد محاولات عدة حصلت على ردود (1)مشيخة الحمرية تقع في الشارقة اليوم وكان حاكمها في هذه السنة الشيخ هزيم بن جاسم الشامسي لرسائلنا من معظم الشيوخ هناك، وفيها دعينا إلى زيارة الإمارات.
عندما سمعنا عن قرب موعد رحيل أحد المراكب العربية إلى أبوظبي، جهزنا أنفسنا للرحلة وسافرنا مع الركب، وبعد إبحار جميل استمر يومين وسط الخليج العربي، وصلنا إلى أبوظبي، وكان لقائي بهذه المدينة أشبه بلقاء صديق قديم لم أَرَهُ منذ زمن بعيد، وفي أبوظبي أقمنا في مجلس الشيخ حمدان بن زايد الحاكم(1).
ووجدت العرب كما هم في بقية الإمارات الأخرى، يحمل جميعم البنادق فوق أكتافهم وذوي لحى سوداء غير مرتبة، وتلازمهم البنادق مثلما نرتدي نحن ربطات العنق، والرجل هنا من دون لحية وبندقية يعدُّ وكأنه لا يلبس اللباس الوطني.
في مجلس الشيخ حمدان كان علينا أكل بعض الحلوى العمانية المشهورة قبل أن نشرب القهوة. وأكثر من الحلوى، كان أعضاء البعثة يتقاسمون أكلَ أيّ شيء، بل كانوا يدعون ربهم ليمنحهم القوة لأجسادهم لتحمُّل العمل، فلم يكن أمامنا خيار آخر غير تحمُّل المشقة والصبر على كل شيء، وكلها أيام قليلة حتى استطعنا فتح عيادة طبية جاءها المرضى بالمئات، ومن كل مكان، وكان الكثير منهم يطلبون منا إقامة عمليات جراحية لهم.
في البداية حضرت إلينا مجموعة من العبيد، لمعالجة أمراض الفتق المنتشرة هناك، وعندما تمت معالجتهم بشكل جيد راحت الأمور تسير في تقدُّم، وفاق عملُنا مستوى (1)الشيخ حمدان بن زايد الأول حاكم أبوظبي من 1912 – 1922 م. المراكز الطبية التي كانت موجودة لديهم.
فمع الوقت كان معظم المرضى يحصلون على علاج، والكثير منهم أصبحوا أصحاء وتعافوا، وبسبب ذلك حصل العمل الطبي على سمعة حسنة وكبيرة، فقد وصلنا لمعالجة مئتي مريض في اليوم الواحد. وأكثر من ذلك، أعطتنا السمعة الطيبة الفرصة أيضا لتلبية الدعوات الكبيرة من شيوخ بعض الإمارات.
وبعد انتهاء عملنا في أبوظبي قمنا بزيارة الشارقة ودبي وأم القيوين ورأس الخيمة، وفي جميع هذه المناطق كان استقبال الناس لنا وديًّا ولطيفاً، وقابلنا الأهالي بكرم كثير وحصلنا على ولائم لا تعدُّ ولا تحصى. ولعلَّ أفضلَ حفلة حضرناها هي تلك التي أقيمت في إحدى الليالي بالشارقة، وحضرها عدد كبير من الشيوخ والشخصيات المهمة، وفي هذه الحفلة سألني زعيم الحفل عمَّا إذا كتبنا عريضة إلى المسؤولين في الإرسالية الأمريكية نطلب منهم إقامة مراكز طبية في المنطقة وأخذ الموافقة على ذلك، غير أنه في الواقع كان من الصعوبة إخبار الرجل بأنَّ ذلك ليس ممكناً في الوقت الحاضر، ففتح عيادة هنا، وحده هو عمل هائل ويتطلب جهوداً كبيرة، لكن أفضل شيء يمكننا عمله، أو على الأقل نعد بالقيام به هو الزيارة السنوية للإمارات والمدن القريبة منها بواسطة بعض أطباء الإرسالية، حتى يأتي وقت نتمكَّن فيه من إحضار طبيب يقيم هنا بشكل دائم.
والملاريا موجودة هنا في كلِّ مكان، وجميع أنواع الأمراض المعوية موجودة بكثرة، وهي أمراضٌ يمكن وجودها في الجزيرة العربية، حيث توجد بساتين النخيل التي تنمو من دون ري في أماكنَ عديدة، وعيون المياه العذبة قريبة منها جدًّا، وبخلاف ذلك لا توجد مزروعات كثيرة، فمعظم الأهالي يعملون في صيد اللؤلؤ. وعلى الرغم من الظلال الوافرة التي تمدها بساتين النخيل إلا أنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً، إزاء تلك الأمراض المنتشرة وذلك بسبب عدم وجود أجهزة لحرق الفضلات ولا نظم مياه مجارٍ أو غيرها من الوسائل الصحية. وهكذا فإنَّ هذه الأمراض لا تُعجِّل بأيِّ نهاية للعمليات الجراحية الكثيرة التي ينتظر القيام بها للناس.
هكذا كان وصف المبشر جيمس مويرديك، والطبيب بول هاريسون لمدن الخليج العربي، وهناك قصص كثيرة مشابهة رواها أمثالهم الذين زاروا مدن الخليج والجزيرة العربية آنذاك، اختلفت حكاياتهم نوعاً ما حسب اختلاف التجارب التي عاشوها أثناء رحلاتهم، لكن تشابهت في سرد تفاصيل الحياة الاجتماعية العربية بدقة وبنظرة متعالية على أهل المنطقة، الذين على الرغم من بساطة الحياة لديهم وقلة العلم والمعرفة، إلا أنهم لم يكونوا سذَّجاً في احتضان دعاة المسيحية الذين سعوا جاهدين إلى نشرها بينهم، حتى يتمكَّنوا من تحقيق أهدافهم الاستيطانية الجائرة، وقاوموها بالحكمة وبالإيمان لأنَّ الإسلام هو الدين الحق، وبمعدنهم الذي يعكس الأصالة العربية، ويعكس حياة البدو الذين طالما عُرِفُوا بالسخاء والضيافة والكرم، كما عُرِفُوا بالحزم والشراسة والبأس إذا ما اقترب الغريب من عرضهم ودينهم وشرفهم ومع ذلك فإننا نشكرهم على فتح عيادات متنقلة لعلاج الناس في ذلك الوقن الصعب.