4,110 عدد المشاهدات
متابعة: خليل بري
قال الباحث والكاتب البحريني أنور الحريري: إنَّ اهتمامي بموضوع الكتب العربية النادرة المطبوعة في أوروبا ينبع من كونها تؤكِّد أنَّ حركة الطباعة في أوروبا، والتي ابتدأت منذ سبعة قرون ونيف، بالنسبة إلى تاريخنا وتراثنا العلمي والثقافي، خير شاهد على ما حققته هذه الطباعة من أثر كبير في الحفاظ على التراث العربي والإسلامي، واستدامة الجسور الثقافية والحضارية بين العرب وأوروبا، كما أنَّ تلك الكتب التي طبعت هناك، شاهدٌ حيٌّ على استمرار التواصل الثقافي، ولا بدَّ من استمرار تدفقها إلى دول العالم، كون هذا التواصل الثقافي بين الدول العربية والإسلامية مع شعوب الأرض، يخدم مصالحنا المشتركة .
وقال الحريري في أمسية نوعية نظَّمها مركز جمال بن حويرب للدراسات، بحضور كوكبة من المثقفين والإعلاميين والباحثين: إنَّ تجميع وتصنيف الكتب العربية التي طُبِعَت في أوروبا، يسهم في خدمة الباحثين والمهتمين بالثقافة والعلوم، وفي فتح مجالات التعاون مع الدول الأخرى، عبر منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم والتربية (اليونيسكو) .
أدار الجلسة الصحافي والشاعر حسين درويش الذي عرّف بالمحاضر، وتحدَّث عن بدايات الطباعة العربية في أوروبا، وعرّج على دخول المطبعة إلى البلاد العربية عن طريق رجال الدين المسيحي في حلب.
ابتدأت الأمسية برسالة وجّهها رئيس المركز، المستشار والباحث جمال بن حويرب، رحّب فيها بالمحاضر والحضور.
البدايات الأولى
قال الحريري: إنَّ الطباعة بالحروف المتحركة التي نعرفها اليوم، والتي ابتدأت في العام 1445م، يعود الفضل فيها إلى الألماني جوتنبرج الذي كان يعمل حداداً، وموّله صديقه موهان، وقام بطباعة الإنجيل ما بين 1452 – 1454م.
ويعدُّ الألمان هم أوَّلُ من طبع بالحرف العربي، كتاب أول رحلة إلى القدس طبعت بالحرف العربي سنة 1468م، وعن طريق ألمانيا دخلت الطباعة إلى إيطاليا عام 1469م، وشكَّلت البندقية بشكل خاص مركزاً للطباعة وللثقافة وتجارة المخطوطات في العالم في تلك الحقبة. ويمكن القول من شواهد المنشورات إنَّ الغالبية من الكتب العربية التي طُبِعَت في إيطاليا أخذت ثلاثة اتجاهات:
– كتب ذات صبغة دينية موجَّهة إلى الجاليات المسيحية العربية المرتبطة بالكنيسة الرومانية مثل: «الأوقات السبعة القانونية للصلاة»، و«الشعائر المسيحية».
– كتب تولَّت الكنيسة الكاثوليكية طباعتها وتوزيعها في المشرق العربي، من أجل بسط نفوذها، وإخضاع الكنائس الشرقية لسيطرتها، مثل «اعتقاد الأمانة الأرثوذكسية وكنيسة روما».
– كتب لغوية ترجمت من العربية لدعم حركة التنصير، مثل كتاب «الأجرومية» الذي ترجمه إلى اللاتينية المستشرق الإيطالي ريموندي، ونشره عام 1592م.
انتشار المطابع
وأضاف المحاضر: في فرنسا كان المسلك الذي تبنَّته مؤسَّساتها الحكومية يتجه نحو تعليم الرهبان والقساوسة اللغة العربية، لذلك فقد تكفّلت «مميز» (المطبعة الملكية في باريس) بنشر كتاب «في صناعة النحو» عام 1613م، وكتاب «الفلاسفة العرب»؛ وممّا يبرهن على ذلك المسلك التنصيري بعموميته أنَّ أوَّلَ كتاب عربي طُبِعَ في فرنسا هو «القواعد العربية» عام 1538م.
ولم تبعد إسبانيا عن إيطاليا، حيث إنَّ أوَّلَ دخول للطباعة إليها كان على يد المهاجرين الألمان، إلا أنها أحرزت الأسبقية في طباعة الكتب العربية؛ نتيجة تأثرها بالثقافة الإسلامية العربية على مدى ثمانية قرون، فكان كتاب «فن تعلُّم اللغة العربية بسهولة» أوَّلَ كتابٍ يُطْبَعُ في غرناطة عام 1505م.
أمّا هولندا فقد كانت الطباعة العربية فيها متأخرة عن غيرها من دول أوروبا، وكانت أكبر ثلاث مطابع فيها موجودة في أوترشت وأمستردام وليدن. وفي المدينة الأخيرة (ليدن) شكَّلت جامعتها عام 1575م لجنة لدراسة العربية والعبرية، ونشر آثار هاتين اللغتين.
مطبعتان
وفي بريطانيا كانت أشهر مطبعتين بالأحرف العربية فيها هما: مطبعة «أكسفورد»، و«مطبعة لندن»، وكان اسم إدوارد بوكوك من أبرز الأسماء التي ظهرت في مجال النشر العربي، من خلال تأليفه كتاب «نظم الجوهر» بالتعاون مع المستعرب سلديتي، وتحقيقه كتاب «تاريخ مختصر الدول» لابن العبري في 1663م، ونشره نصاً تاريخياً لابن العبري بعنوان: «ألمع من أخبار العرب». ومع كلِّ ما ذُكِرَ يبقى «قاموس اللغات الشرقية» الذي طُبِعَ في عام 1669م، وحوى سبع لغات، أهمّ ما أسهم به البريطانيون في هذا المجال.
وظهرت أوَّلُ طبعة للقرآن الكريم في مطبعة بمدينة البندقية، وصدرت عام 1537، وقام بطباعة المصحف باغانينو دي باغانينو وابنه ألسندرو وهما مطبعيان أصيلان، وقد أقدمت هذه العائلة على طباعة المصحف؛ لأنها كانت على علاقات تجارية مع المدن العربية والتركية حول البحر المتوسط، وتحديداً في صناعة وترويج الورق، وأرادت أن تجد لها سوقاً رائجة، وكانت تلك مجازفة كبرى نظراً للجوّ المشحون بالصراعات بين المسلمين والمسيحيين.
كتب تعليمية
ومن حيث الموضوعات كان ثلثُ هذه الكتب يتعلّق بالنحو وتعليم اللغة العربية، وثلثٌ يتناول الدين، خاصة العقيدة المسيحية بما فيها النصوص المقدسة، ونصوص في الدفاع عن المسيحية، وكتب الطقوس والصلوات، أمّا بقية الكتب فتناولت المعارف الإنسانية المختلفة من طب وفلك ورياضيات وفلسفة وعلوم، فضلاً عن التاريخ والجغرافيا. وغلب الطابع الديني والجدلي على المطبوعات الإيطالية والفرنسية، وبدرجة أقل الكتب الألمانية والهولندية والإنجليزية.
وأضاف المحاضر: لقد أسهم الكتاب العربي المطبوع في أوروبا، في التعريف ببعض المؤلفات للعلماء المسلمين في الأوساط الجامعية والأكاديمية الأوروبية، وأدّى إلى الاهتمام بالتراث الإسلامي كله فيما بعد، لكن هناك من يرى أنَّ الطباعة العربية الأوروبية لعبت دوراً في تغذية الصراع والجدل بين الكاثوليك والمذاهب المسيحية الأخرى بالشرق.
عربياً وإسلامياً
واستطرد الحريري: لم يكن العالم الإسلامي غائباً عن تطوُّر الطباعة في بلاد أوروبا، حيث واكب المسلمون التحوُّلات التي عرفها فن الطباعة منذ استخدام الألواح الخشبية، حتى اختراع الطباعة بالأحرف المنفصلة، وظهور مطبعة جوتنبرج، وجرت بعض المحاولات المبكرة لإدخال المطبعة إلى مصر مع نابليون عام 1798، ونشرت مطبعة نابليون عدداً من الكتب العربية. وذكر الجبرتي أنهم طبعوا بها نصَّ محاكمة سليمان الحلبي، ولكن هذه المطبعة خرجت ثانية مع عودة الحملة عام 1801، إلى أن جاء محمد علي، وفكَّر في تأسيس مطبعة عربية، فكانت مطبعة بولاق التي فكَّر في إنشائها عام 1815، وتأسَّست بالفعل عام 1820، واعتبرت المطبعة العربية الأولى؛ لأنها نشرت كتباً في مختلف التخصصات، وكانت موجَّهة للطلاب وللجمهور العادي، ولا تزال هذه المطبعة قائمة إلى اليوم، وتحمل اسم المطبعة الأميرية.
وفي إيران والمغرب، لا تتوافر تفاصيل كافية عن محاولة المغرب، ولكن المتصور أنه بسبب القرب الشديد بين المغرب وإسبانيا، ووجود كتب عربية للتنصير في إسبانيا، كان لا بدَّ من الانتباه ومحاولة الأخذ بتلك التقنية.
لكن محاولة إيران كانت في مدينة أصفهان، وذكر الرحّالة الفرنسي آن شاردين أنَّ العلماء المسلمين قدَّموا اقتراحاً بإدخال المطبعة في أصفهان إلى الشاه عباس الثاني (1624 – 1666) واستحسن الفكرة وبدأ بتنفيذها، لكن المشروع توقف، ولم يكتمل، بل مات تماماً، حين انتقل الشاه عباس إلى رحاب الله، وانتقلت السلطة إلى ابنه صافي سليمان الذي أهمل المشروع، ولم يعره أي اهتمام.
وأضاف الحريري: في حيدر آباد بالهند هناك «المطبعة العثمانية»، وقد نجح الإيرانيون في أخذ كل مطبوعاتها، وأنشؤوا «مكتبة شمس»، ونسبوا مطبوعاتها إليهم.
صفات الكتب النادرة
وقال المحاضر: من المهم أن ندرك أنَّ الكتاب العربي المطبوع في أوروبا، أو في الدول الأخرى له مواصفات، مثله مثل الكتب الأخرى المهمة، ويمكن تحديد هذه المواصفات بالآتي :
1- الندرة، من حيث تاريخ طباعة الكتاب. في أمريكا، مثلاً، يعدُّ الكتاب نادراً إذا كان مطبوعاً قبل العقد الثاني من القرن التاسع عشر ميلادي، وفي إنجلترا، إذا كان مطبوعاً في منتصف القرن السابع عشر .
2- عدد النسخ المطبوعة، إذا كان مطبوعاً لأول مرة بأعداد محدودة جداً «من نسخة واحدة إلى 300 نسخة».
3- شكل الكتاب، إذ يعدُّ نادراً إذا كان مطبوعاً على نوع قديم من الورق، كورق البردي، أو جلد الغزال «الرق»، أو إذا كان مجلداً تجليداً غريباً، أو مطبوعاً بأحجام تختلف عن الأحجام المعتادة مع قلة النسخ.
4- شكل الخط أو الطريقة التي كتب بها، إذ يعدُّ نادراً إذا كان يحتوي على صور ورسومات وخرائط قديمة أو نادرة .
5- التقادم، وتعني الأسبقية في تاريخ الطباعة والنشر.
6- التميُّز والفرادة، ويشمل ذلك قلة النظر للكتاب ذاته، أو من النسخ المتاحة أو الطبعات المتوافرة.
وفي ختام الجلسة دارت حوارات عدة، شارك فيها كلٌّ من الدكتورة رفيعة غباش، د. شهاب غانم، رشاد بوخش، علي عبيد، راشد بن هاشم، أحمد ناصر ونادر مكانسي.
وقد أبدى د. شهاب غانم رأيه بضرورة قيام مسح شامل عن المخطوطات العربية في روسيا والصين واليابان والهند وإيران .
ثمَّ قام الأديب والباحث بلال البدور بتقديم درع المركز للمحاضر أنور الحريري، نيابة عن المستشار والباحث جمال بن حويرب، رئيس المركز.
إضاءة
أنور الحريري في سطور:
الباحث أنور منصور غانم الحريري، من مواليد 1963، يحمل شهادة بكالوريوس إعلام وسياسة من جامعة الإمارات في العين، متقاعد من المجلس الأعلى للبيئة في البحرين، وعمل مستشاراً للتنسيق والمتابعة في مكتب الرئيس الأعلى للبيئة، ومديراً لإدارة الثروة السمكية، ومدير إدارة البرامج الاجتماعية في المحافظة الجنوبية، رئيس العلاقات العامة في الهيئة العامة للحياة الفطرية، واختصاصي علاقات عامة في وزارة الداخلية البحرينية.