1,623 عدد المشاهدات
الكاتب: محمد فتوح مصطفى
في رحاب الشوق إلى عتبات بيت الله الحرام؛ وروضة النبي الكريم ﷺ؛ وصفاء البوح والمناجاة والغفران؛ ارتبطت رحلات الحج قديما بمعالم دينية واجتماعية مازالت حاضرة في الأذهان؛ من بينها “محمل الحجاج” الذي كان خروجه من مصر صوب الحجاز مناسبة شعبية ورسمية مشهودة، بقيت قائمة حتى تحول طريق الحج من “درب الحج المصري” إلى الطريق البحري أواخر القرن التاسع عشر.
ارتبط “المحمل” المصري برحلة الحج لأنه كان يحمل معه كسوة الكعبة المشرفة؛ وهي ميزة أكسبته شهرة واسعة بين قوافل الحج؛ لذلك كان أكثر قوافل الحج تنوعا، وضم إلى جانب الحجاج المصريين حجاج المغرب العربي وممالك المسلمين في غرب أفريقيا والأندلس؛ وتفنن الصناع في تصميمه وزخرفته، وكان “حسن الطلعة وجمال الصنعة؛ بخرط متقن وشبابيك ملونة بأنواع الأصباغ، وعليه كسوة من الديباج المزركش بالذهب”، حسب وصف المؤرخين، كما ارتبط بأناشيد وأغان شعبية أطلق عليها “أغاني المحمل”؛ أصبحت جزءا أصيلا من الفلكور المصري.
ي المغرب، تعددت طرق تجمع قوافل الحجاج المغاربة، وكانت تلحق بعد عبورها ليبيا بركب “المحمل” المصري؛ حتى تستأنس به في الطريق إلى الأماكن المقدسة. وشكلت تلك القوافل معالم محمل الحج المغربي الذي عرف نوعين؛ محمل بري يضم الركب الحجازي السجلماسي والفيلالي، وهم حجاج منطقتي سلجلماسة وتافيلالت وما إليها من الصحراء، والركب الحجازي المراكشي والفاسي، وهم حجاج منطقتي مراكش وفاس والمناطق الوسطى بالمغرب؛ ومحمل بحري يضم سكان المدن الواقعة على السواحل المغربية، ويتكون من مراكب بحرية تتجه بحرا مباشرة إلى مدينة الإسكندرية للالتقاء مع المحمل المصري والمحمل البري المغربي. وضم هذا المحمل الركب الحجازي التطواني، وهم حجاج شمال المغرب المتوسطي، والركب الحجازي السلاوي، وهم حجاج مناطق الساحل الأطلسي.
وترك الرحالة المغاربة أمثال ابن بطوطة والشريف الإدريسي، وهو أكبر جغرافي عرفته الحضارة الإسلامية، والإمام ابن رشيد السبتي، مؤلفات عديدة تتحدث عن رحلة الحجاج المغاربة وحجاج الأندلس ودول غرب إفريقيا الذين كانوا يتجمعون في مراكش وفي مدينة فاس، ويتحركون في قافلة تشق طريقها برا عبر الجزائر وتونس إلى طرابلس ومنها إلى مصر؛ مرورا بالمناطق الصحراوية التي كانت تنتشر بها محطات التوقف وتتوافر بها المياه، في رحلة تمتد لنحو خمسين يوما. وعندما تصل القافلة إلى القاهرة، يخرج الناس لملاقاة حجاج بيت الله الحرام والترحيب بهم.
وبتجمع الحجاج المصريين والمغاربة وغيرهم بالقاهرة تبدأ المرحلة الأولى لرحلة الحج صوب الحجاز، حيث يدور “المحمل” بالقاهرة دورتين؛ الأولى في شهر رجب لإعلان أن الطريق آمن لمن رغب في الحج، والثانية في شهر شوال للاستعداد لبدء الرحلة. وفي أجواء احتفالية وروحية كبيرة يبدأ “المحمل” مسيرته عبر “درب الحج المصري” من باب النصر بالقاهرة إلى منطقة عجرود بالسويس، ومنها إلى عيون موسى للتزود بالمياه. ويتجه الحجاج بعدها إلى مدينة نخل بسيناء، وصولا إلى مدينة العقبة، ويعبرون الحدود إلى مدينة ينبع السعودية، لتنتهي الرحلة إلى بمكة المكرمة.
وإضافة إلى الطريق البري، وكانت له حظوة لدى المؤرخين والرحالة، وحظي بعناية السلاطين فمهدوا محطات انتظار للحجاج عليه، وأنشؤوا القلاع لحمايته وتأمينه؛ سلك الحجاج المصريون والمغاربة الطريق البحري عبر البحر الأحمر، الذي ازدهر في حقبة الحروب الصليبية رغم المخاطر المرتبطة بركوب البحر في السفن الشراعية وقتها. وسجل الرحالة الأندلسي “ابن جبير” وقائع رحلته للحج عبر البحر من القاهرة، حيث استقل مع بقية الحجاج مركبا نيليا اتجه جنوب مصر لمدة 18 يوما؛ وصفها بأنها كانت الأكثر راحة والأقل خطرا بين أيام رحلة الحج، وكان المسافرون ينزلون للتجارة والتزود بالماء والغذاء من القرى المنتشرة على ضفتي النيل. وتنتهي تلك الرحلة بالوصول إلى مدينة قوص جنوب مصر؛ لتبدأ رحلة صحراوية شاقة تنتهي بالحجاج إلى نقطة مغادرة المعمور المصري، المعروفة باسم “المبرز”؛ حيث توزن أمتعتهم لتقدر أجرة الجمال والحمالين. وتنتقل الرحلة بعدها إلى مدينة “عيذاب” ومنها إلى “جدة”.
والحقيقة أن “المحمل”، على هذا النحو، ترك تأثيرا في مسيرة المغاربة بمصر وعلاقتهم بالمصريين؛ نظرا لطول رحلة الحج وما ارتبط بها من مخاطر وطقوس دينية واجتماعية، أوجدت صداقات بين رفاق الطريق نحو الأماكن المقدسة، ومثلت جسرا قوى الارتباط بين الشعبين المصري والمغربي؛ ترجم في استقرار الكثيرين من الحجاج المغاربة في مصر للتجارة والعمل أو طلب العلم والاشتغال بالتدريس، بعد انتهاء رحلة الحج. وأصبح هؤلاء جزءا من النسيج المصري، ولهم حضورهم في التجارة والعمران والدعوة والتعليم والتصوف؛ حتى أصبح المغاربة أكبر طائفة عربية إسلامية وافدة في مصر خلال تلك الفترة، ونشأت قواسم مشتركة من العادات والتقاليد بين البلدين، من حيث لغة التخاطب والمظهر العام وعادات تناول الطعام ومظاهر الاحتفال والزي وطقوس الحزن والحداد واحترام رجال الدين وأولياء الله الصالحين…الخ
والحقيقة أن ظاهرة التصوف تعد من أهم النتائج التي ارتبطت برحلات الحج، إذ استقر بعض المتصوفة المغاربة في مصر، بعد عودتهم من الحج، وماتوا بها، وتحولت أضرحتهم إلى مزارات يقصدها الناس. ومازالت الكثير من القرى والمدن في مصر تحتفظ بأسماء أولياء صالحين تعود أصولهم إلى المغرب، مثل المرسي أبو العباس وأحمد البدوي وإبراهيم الدسوقي وأبو الحسن الشاذلي…الخ. وبمرور الوقت تحولت مصر إلى نقطة جذب للمتصوفة المغاربة، لما كانت تفتحه من آفاق لجذب المريدين؛ ويشع من بيوت القاصدين الحج فيها نورا وروحانية تستهوي القلوب.
المصدر: موقع هسبرس