2,173 عدد المشاهدات
الكاتب:محمد زاهد جول
يحمل المسجد العربي، الذي تمَّ بناؤه في عام 97 هـ (715م) بأمر من القائد الأموي مسلمة بن عبد الملك، الذي قاد الحملة الأموية لفتح القسطنطينية، في المنطقة التي يطلق عليها “كاراكوي” في يومنا هذا، ميزة كونه المسجد الأول في إسطنبول (القسطنطينية)، وفيما يلي قصة وشكل المسجد العربي الأول الذي صدح الأذان منه في سماء مدينة إسطنبول.
تمَّ السماح للجنويين بإنشاء مستعمرة تجارية في “غلطة” بعد انتهاء الهيمنة اللاتينية على إسطنبول في عام 1261، وبدأت المستعمرة الجنوية المستقلة في غلطة بالتصرُّف كدولة ذات سيادة بعد أن خارت قوى الإمبراطورية البيزنطية في المرحلة الأخيرة من وجودها. ونجحت مستعمرة غلطة، التي التزمت الحياد في الحرب التي دارت بين العثمانيين والبيزنطيين عام 1453، بعقد اتفاقية مع السلطان محمد الفاتح، استطاعت من خلالها المحافظة على معظم امتيازاتها في ظل الحكم العثماني.
استقر الإيطاليون في منطقة غلطة بموجب الامتيازات التي مُنِحَت لهم في القرن الثاني عشر. وكان اسم غلطة موجوداً منذ القدم، إضافة إلى أنَّ الإيطاليين ومن بعدهم اللاتينيين كانوا يسمونها “بيرا” ولم يكونوا يستخدمون اسم “غلطة”، أمّا العثمانيون فكانوا يسمونها “غلطة” ولم يستخدموا تسمية “بيرا” على الإطلاق. وعمد المسلمون إلى تسميتها “قلعة مسلمة” نسبة إلى القلعة التي بناها مسلمة بن عبد الملك في تلك المنطقة. وأطلق عليها العثمانيون اسم غلطة بسبب هذا الاسم القديم لها، وتمَّ إطلاق اسم “مسجد غلطة” في وقفية الفاتح (Fatih Vakfiyesi) على المسجد العربي، وقد سُمِّيَ الحيُّ الذي أقيم هناك في العهد العثماني “حي غلطة”؛ لأنَّ المسجد كان أوَّل مسجد يقام في تلك المنطقة.
كيف تم بناء المسجد العربي؟
حاصر القائد الأموي مسلمة بن عبد الملك، في شهر ذي الحجة من عام 95هـ الموافق 15 آب “أغسطس” عام717م، البيزنطيين بجيش من البر وأسطول قوي من جهة البحر، واستمرَّ الحصار أكثر من عام كامل دون التمكُّن من فتح القسطنطينية، لكنه فتح غلطة وفرض سيطرته عليها، وتمَّ بعد ذلك بناء المسجد العربي، وفتحه للعبادة نتيجة للاتفاقية التي عقدها مسلمة مع الإمبراطور “ليون”.
تكشف الوثائق أنَّ الوجود الإسلامي في منطقة غلطة سبق الدولة الإيطالية الشهيرة، وبدأ ببناء مسجد وبناء حي في تلك المنطقة. ويعدُّ المصدر الأكثر أهمية في إعطاء معلومات حول مسجد مسلمة (المسجد العربي) هو الهروي الذي تجوّل في القسطنطينية في القرن الثاني عشر. ويوضِّح الهروي في سيرته وجود مسجد في إسطنبول تمَّ بناؤه من قِبَل مسلمة بن عبد الملك، ويقول في كتابه: “يوجد في هذه المدينة مسجد بناه مسلمة بن عبد الملك والتابعون (رضي الله عنهم)، وقبر يعود لأحد الأبناء الذكور لسيدنا الحسين، رضي الله عنه”.
ويعدُّ المقدسي (946-1000م) من بين الجغرافيين والرحّالة الذين قدّموا معلومات حول هذا الموضوع، ولم يأتِ المقدسي إلى إسطنبول لكنه استفاد من مؤلفات مَن قدموا إليها. وأوضح أنَّ الإمبراطور قام بإنشاء بناء في الجهة المقابلة للقصر من أجل الأسرى المسلمين بطلب من القائد مسلمة بن عبد الملك خلال حصار القسطنطينية. وهناك احتمال كبير أنه أخذ هذه المعلومة من المؤرخ البيزنطي قسطنطينوس برورفيرغانيتوس (Constantinus Prorphyrganetos).
قُرِئت خطبٌ في هذا المسجد باسم الخليفة الفاطمي في عهد الدولة الفاطمية. وفي عام 1047 هزم طغرل بك السلجوقي الجيش البيزنطي في موقعة “حسن قلعة Hasankale” في منطقة “باسينلر” على مشارف أرزروم؛ فعرض عليه البيزنطيون الصلح لكنه اشترط عليهم إصلاح بناء المسجد العربي وفتحه للعبادة، وقبل البيزنطيون بشرطه وعُقِدَت الاتفاقية على هذا الأساس. وتمَّ إيقاف الخطب التي تُقْرَأُ باسم الخليفة الفاطمي الشيعي، واستمرت الخطب تحت اسم الخليفة العباسي والسلطان طغرل بك، وتمَّ وضع إشارة القوس والسهم التي هي شعار السلطان طغرل على محراب المسجد.
تحويل المسجد إلى كنيسة
مارس الجيش العربي المسلم، الذي أقام في إسطنبول مدة سبعة أعوام، عباداته في هذا المكان، ثمَّ اتجه الجيش العربي بعد ذلك إلى الشام نتيجة لظهور حركة تمرُّد في الشام في تلك الآونة، فاغتنم بابا الدومينيكان والرهبان هذه الفرصة وحوَّلوا المسجد العربي إلى كنيسة، وقاموا ببناء منارة لجرس الكنيسة تمَّ تحويلها إلى مئذنة للمسجد لاحقاً. وكان هذا المعبد المسيحي الذي سمَّاه اللاتينيون والجنويون “كنيسة سان باولو” كنيسة كاثوليكية مرتبطة بروما الغربية.
استعادة المسلمين للمسجد بعد فتح إسطنبول
تمَّ تحويل الكنيسة إلى مسجد بعد فتح إسطنبول عام 1453، كما أضيف محراب ومنبر للمسجد وتمَّ منحه اسم “المسجد العربي” في سجلات الدولة العثمانية، وحدثت أكبر تغييرات في المسجد حين قامت السلطانة صالحة، زوجة السلطان مصطفى الثاني وأم محمود الأول، بإصدار الأوامر بإصلاح وتعديل المسجد عام 1731 بعد الحريق الهائل الذي التهم منطقة “آزاب قابي” بأكملها. وبفضل البناء الموسّع والسقف الذي تهيمن عليه فنون العمارة الخشبية تمَّ إضافة مقصورة السلطان، وتحوَّل ذلك المسجد إلى “مسجد السلاطين”. كما تمَّ إضافة النوافذ العلوية التي تناسب فن العمارة العربي، وبناء سور على فناء المسجد وكذلك بناء الممر المؤدي إلى الشارع وإقامة “الشادرفان” (مكان الوضوء) في فترة التعديلات التي أشرفت عليها السلطانة صالحة. وتمَّ في التعديلات التي أُجريت للمسجد عام 1868 بإشراف السلطانة عادلة إصلاح الشادرفان وإضافة خزان للمياه.
لمن القبر الموجود في ساحة المسجد؟
تعرَّض المسجد العربي لحرائق عدة في فترات مختلفة من القرن التاسع عشر، وتمَّ إصلاحه عدة مرات دون تضرُّر للشكل الأصلي للمسجد، وتمَّ وضع المحراب على واجهة جدار الكنيسة السميك باتجاه القبلة، أمّا الغرفة ذات المحراب الصغير على يسار محراب المسجد فهي معتكف مسلمة بن عبد الملك، ويقال إنَّ القبر الذي في ساحة المسجد قبره أو مقامه، حسب بعض الروايات رغم وجود قبر بالشام لهذا القائد، والله أعلم بصدق هذه الروايات.
العثور على جثث محنطة داخل المسجد
تمَّ العثور على شواهد قبور وجثث محنطة تعود للاتينيين والجنويين داخل المسجد أثناء أعمال الصيانة عام 1913، وتمَّ نقلها إلى متحف إسطنبول الأثري.
الخصائص المعمارية للمسجد
يحتوي المسجد على 70 نافذة على شكل ثلاثة طوابق، أمّا سطحه الخشبي المزخرف فيستند إلى جدران المسجد الأربعة، إضافة إلى 22 عموداً خشبياً، وهناك مقصورة تقوم على ثمانية أعمدة من الرخام في المسجد، وتمَّ إحضار منصة المسجد من مسجد صقلّي محمد باشا الموجود في “آزاب قابي”. بنيت جدران المسجد العربي من خليط من الأحجار والطوب، أمّا منبره ومحرابه فقد صنعا من الرخام، وسطحه الخشبي مغطّى بالقرميد. ويأخذ تصميم المسجد شكلاً مستطيلاً وتمَّ إضافة ملحق صغير له آخر مرة عام 1913، وهناك ممر مقنطر يؤدّي إلى ساحة المسجد من تحت منارة الجرس المستطيلة الشكل، والتي تمَّ تحويلها إلى مئذنة يتم الصعود إليها عبر درج يتألف من 102 درجة، وتأخذ اللوحة الرخامية المنقوشة كتأريخ مكاناً داخل المسجد على الجدار الأيمن من ناحية القبلة.