2,695 عدد المشاهدات
الكاتب : جمال بن حويرب
من هي الملكة «زنوبيا »؟ وكيف تزوجت الملك «أذينة » الثاني ملك تدمر؟ وكيف وصلت إلى حكم مدينة «تدمر » التاريخية؟ وهل حقاً قتلت زوجها ووليّ عهده، أم إنه محض افتراء عليها؟ وهل لها صلة قرابة بالفراعنة؟ وكيف تم القضاء على مُلْكها؟ وهل «زنوبيا » هي نفسها «الزبّاء » الملكة المشهورة عند العرب؟
وهناك أسئلة أخرى أريد مناقشتها معكم أيها الأعزاء في هذه المقالات، لإثارة الذاكرة وتحفيز القلب، ليقرأ أكثر ويبحث عن العلم من مظانه الصحيحة، وإن كان كلّ قول يحتمل الصواب والخطأ في مثل هذه التواريخ والأحداث التي لم يصلنا من علمها إلا القليل النادر، والتي مزجت بالأساطير والأحاديث الخرافية، عندما نعرضها على ميزان القواعد التاريخية الحديثة المحكمة التي تحاول الوصول إلى المعلومة الحقيقية وتحللها وتقلّبها على جمر الشكوك، لتشبع نهَم الأكاديميين الجدد.
اشتقاق الاسم «زنوبيا »
لم يعرف العربُ هذا الاسم قديماً، بل هو بمثل هذا اللفظ لا يقع على قواعد لسانهم العربي، فهو لفظ أعجمي لديهم، إذا بقي بتركيبة هذا، وإذا عرفنا هذه المعلومة وتأكدنا منها، فيمكننا أن نتساءل: إذا كانت «زنوبيا » امرأة عربية الأصول وزوجة لملك عربي، فلن يكون اسمها الحقيقي إذن هو هذا، بل سنقول إن المؤرخين الرومان هم من قام بتحريف اسمها ليناسب لغتهم في تلك الحقبة الزمنية فسموها «يوليا أوريليا زنوبيا Julia Aurelia Zenobia » ، كما فعلوا وغيروا اسم زوجها الملك «أذينة » من قبل، فقالوا سبتيميوس ،Lucius Septimius Odaenathus ومن المعروف أن الأسماء تتغير إذا ترجمت من لغة إلى أخرى، وكذلك لوجود مدينة «تدمر » تحت الحكم الروماني، لا بد أن يُطلق على ولاتها وملوكها أسماء تقارب أسماء الولاة الرومانيين، الأخرين، ولهذا اختلفت طريقة لفظ اسم ملكة «تدمر » بين الرومانية التي سمتها «زنوبيا » والآرامية التي سمتها «بات زباي » أي ابنة زباي، والعربية التي يمكن أن تكون قد أسمتها « الزبّاء » أو «زينب »، إذا صح قول من قال: إنّ الزبّاء هي نفسها «زنوبيا .»
وفي قراءتي لهذا الاشتقاق، وجدت أن الأقرب إلى الحقيقة أن يكون اسمها «الزبّاء أو زينب »، لأّنهما اسمان معروفان عند العرب، والأخير أكثر شهرة من الأول، ولهما تفسير صحيح، وهذا شرحٌ مختصرٌ لمعناهما:
– الزباء: يقول صاحب ابن منظور في معجمه العظيم «لسان العرب :»
«وداهيةٌ زبَّاء: «شديدة، كما قالوا شَعْراءُ، ويقال للدَّاهية المُنْكَرةِ: زَبَّاء ذاتُ وَبَر، ويقال للناقة الكثيرة الوبَر:
زَبَّاءُ، والزَّبَّاءُ اسم المَلِكَةِ الرُّومِيِةَ، يُمَدُّ ويُقْصَر، وهي مَلكة الجزيرة، تُعَدُّ مِن مُلوكِ الطَّوائف .»
قلتُ: نفهم من هذا الشرح أنّ العرب سمّت الملكة بهذا الاسم «الزبَّاء »، إما لشدتها وقوة حكمها، وإما لكثرة ولطول شعر رأسها من جمالها، لأّنه لن يصفوا المرأة إلا بهذا، ولعل أباها منحها هذا الاسم ليتفاءل بها وينتصر على أعدائه، كما هي عادة بعض العرب في تسمية أبنائهم وبناتهم، أو أنّ الزبّاء لقبٌ أطلقته العرب عليها بسبب ملكها العريض، وسيطرتها على كثير من الباد إبّان عهدها.
– زينب: أما هذا الاسم، فهو مشهور عند العرب جداً في القديم والحديث، وعن شرح معناه، يقول ابن منظور في معجمه: «والزَّنَبُ: السِّمَنُ (السمنة)، وعن ابن الَأعرابي: الزَّيْنَبُ شجر حَسَنُ المَنْظَر، طَيِّبُ الرائحة، وبه سمّيت المرأَة، وواحد الزَّيْنَبِ للشجر زَيْنَبة .»
قلتُ: وهذا أقرب إلى قلبي من الزبّاء، لأنه اسم عربي مشهور، ولأن «زنوبيا » عربية، فأقرب الأسماء إليها «زينب »، لاحتوائه على معظم حروفها، وتكون زيادة الواو والياء والألف من قبل الرومان.
وكما يقال أجمل العلوم تلك التي لم نعرفها بعد، وأكثرها إثارة ومتعة ما تحتاج إلى جهد جهيدٍ لسبر أغوارها واعتاء أسوارها وهتك أستارها حتى نصل إلى بغيتنا منها ونشفي غليل صدورنا للمعرفة، ولاقتناص الحقيقة من مواردها، وإن طال الزمان وبعُدت الشُّقّة فإنّ لقلوبنا من الغايات التي لا يعلمها إلا الله، وإنّ أسماها أن نكتشف سرّاً علمياً لم نكن نعرفه من قبل، وهكذا قلوب الباحثين عن المعارف ليس تشبهها أو تأنس بها إلا من شاركها في هذه اللذة الخالدة، ورحم الله العلامة اللغوي «الزمخشري » ( 467- 538 ه ) إذ يقول:
سهَري لتنقيحِ العلومِ ألذُّ لي
من وصلِ غانيةٍ وطيبِ عناقِ
وتمايلي طرَباً لحلُ عويصةٍ
أشهى وأحلى من مُدامةِ ساقي
وصريرِ أقلامي على أوراقها
أحلى من الدوكاءِ والعشَاقِ
وألذُّ من نقر الفتاةِ لدفّها
نقري لُألقي الرملَ عن أوراقي
أأبيتُ سهرانَ الدجى وتبيتهُ
نوماً وتبغي بعدَ ذاك لحاقي
وقوله «الدوكاء » يعني به الطيب كما جاء في تاج العروس، وأقول صدقت يا محمود الزمخشري: فرقٌ كبير بين من يبيت نائماً هانئاً بطيب المنام وذلك العاشق السهران للمعرفة الذي يريد تنقيح العلوم وتصحيحها، جعلنا الله منهم.
الزبّاء وزنوبيا
ذكرت فيما سبق أّنه لا يمكن أن يكون اسم الملكة العربية هو «زنوبيا » لأنه اسم غير عربي، والأقرب إلى الصواب أن هذا الاسم تحريف روماني، وقلتُ بأّنه لا بدّ أن نعود به إلى أصله العربي وهو «زينب أو الزبّاء » بالقصر والمد، كما بيّنت ذلك عند ذكري للاشتقاق اللغوي له، ويمكن أن نثير هنا هذا السؤال الذي أدخلني في حيرةٍ وشك منذ زمن بعيد؛ وهو هل «الزبّاء » قاتلة جذيمة الأبرش هي نفسها الملكة «زنوبيا » التي حكمت «تدمر »، أم هي ملكةٌ عربية أخرى وتشابهتا على المؤرخين فخلطوا بينهما؟
والجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى بحثٍ طويلٍ ومعلوماتٍ صحيحةٍ من مصادر موثقة، ولكن سنكتفي بما ظفرنا به ليدلنا على الطريق أو لنقل على أول الطريق حتى يظهر لنا علم جديد من خال الآثار والحفريات في مدينة «تدمر » التاريخية بعد زوال الحرب الأهلية هناك بإذن الله، وعليه لا نستطيع تأكيد الأمر أو نفيه حتى تؤكد الأدلة أحدهما، لأن القصة العربية عن «الزبّاء » تختلف تماماً عن الروايات الرومانية حول «زنوبيا » وكذلك الآثار التي اكتشفت أخيراً لهذه المملكة العربية القديمة، ما يجعل الباحثين يدخلون في حيرة وشك شديدين.
ومما يزيد الطين بلة أّني قد قرأت في كتاب «فتوح الشام » للواقدي ما نصه: «عن زيد بن أبي حبيب عن راشد مولاه قال: لما عول عياض بن غنم الأشعري على المسير إلى «رأس العين » إلى قتال الملك «شهرياض » بعث قبل مسيره أشعث بن عويلم وعبدالله بن غسّان إلى القلعتين المعروفتين ب (زبّا وزلوبيا) .»
قلتُ: يظهر من نص الواقدي المتوفى في أول القرن الثالث الهجري وجود قلعتين باسم «زبّا وزلوبيا » منذ الأيام الأولى للفتوحات الإسامية للشام، فهل هاتان القلعتان في منطقة «دير الزور » السورية اليوم تعودان إلى هذه الملكة أم لا؟، ولماذا تسمى إحداهما «زبّا » والأخرى «زلوبيا » التي وقع إبدال في نونها وأصلها المشهور «زنوبيا »، والعجيب أيها الأعزاء أن هذه المنطقة تعرف حتى الآن باسم «حلبية وزلبية »، فانظروا كيف تغيّرت الأسماء.
اختلاف القصص الأسطورية عن الملكة «الزبّاء » والملكة «زنوبيا » أو «زينب » يجعل الأمر غامضاً على كل باحث يريد أن يصل إلى الحقيقة، وكل ما قيل عن قصة «الزباء أو زنوبيا » سيبقى صدقة من محاله في علم الله، لأن من يتتبع القصص العربية عنها فسوف يدخل في حيْضَ بيْصَ ولن يهتدي إلى علم صحيح صريح، بل ستدور حول كل كلمة يسطّرها في بحثه الشكوك، وقد يصل إلى مرحلةٍ لا يعرف فيها «قبياً من دبيرٍ »، ورحم الله أبا حيان الأندلسي إذ يقول عن الآخذين عن الكتب من دون قواعد علمية سليمة:
إذا رمتَ العلومَ بغير شيخٍ
ضللتَ عن الصراطِ المستقيمِ
وتلتبسُ الأمورُ عليك حتى
تكون أضل من «تومنا » الحكيمِ
ويعني ب «توما الحكيم » ذلك الطبيب الذي أخذ يعالج الناس من كتاب طبّي ورثه، فجاء بالمصائب على مرضاه وضربت بجهله الأمثال.
ولكثرة المعارف والكتب المتوافرة هذه الأيام يظنُّ أحدنا أنه بإمكانه أن يصل إلى المعرفة سريعاً، بل يظنُّ أن الأسرار الغامضة مثل قصة «الزباء » وغيرها باتت سهلة المرام كأنها على «طرف الثمام » من سهولة الوصول إليها، والحقيقة أن دون بلوغها «خرط القتاد » ومن شاهد شجر «القتاد » والشوك الذي حوله فسيعلم ما أعنيه
وتقول بعض المصادر الرومانية القديمة: إنّ «زنوبيا » أو «زينب » دبّرت مقتل زوجها أذينة وابنه «حرّان » على يد قريبٍ له يدعى «مينيوس »، وكان الملك «أذينة » في احتفال بعد عودته من اللاذقية، ومرادها من ذلك أن تجعل الحكم خالصاً لابنها «وهب الات »، وقد يقع هذا الاحتمال ولا شيء يُستبعد عن النفوس الطامعة، ولكن إذا كانت «زنوبيا » قامت بقتل ابن زوجها لأنها تريد الحكم لطفلها، لماذا تقتل زوجها معه؟! هذا أمر أستبعده جداً، وأرجّح ما أكده المؤرخ الإنجليزي «إدوارد جيبون » (ت 794 م) وهو من أكبر مؤرخي الدولة الرومانية – فقد ذكر أنّ «مينيوس » قتل قريبه «أذينة » لأنه سجنه لفترة من الزمن وأهانه، وهذا أقرب إلى التصديق.
زنوبيا والفراعنة
ادعت بعض المصادر الرومانية أن «زنوبيا » أو زينب لها علاقة قرابة ب «كليوباترا » و «بطليموس »، وأضافوا أيضاً أن لها علاقة بالعائلة الحاكمة في «قرطاجة »، وهذا أظنه لبساً أو اختلط عليهم الأمر، إما بسبب احتال الملكة «زنوبيا » لمصر فترة من الزمن قبل انتصار الرومان عليها، فظنوا أنّ لها علاقة بهم، وإما كما ذكر بعض المؤرخين بأنّ أمها يونانية الأصل وقد تكون من أهل مصر، وكل هذا لا يدلُّ على أصل «زنوبيا »، فقد اتفقت أكثر المصادر التاريخية القديمة والإسامية بأن «زنوبيا » أو «زينب » أو «الزباء » كانت عربية.
موت زنوبيا
روى العرب قصة موت «الزباء » بروايات عدة، ولكنها تتفق على أنها كانت على يد «قصير » انتقاماً من قتلها لسيده «جذيمة »، أما في المصادر الرومانية فقد قالت «إّنها قُتلت في روما بعد أسرها وقُطع رأسها، وبعضها يزعم أّنها ماتت في سجنها وكانت مريضة، ولكنه تمّ أخيراً اكتشاف حجر روماني قديم أظهر مفاجأة جديدة عن تاريخها.
نشر في البيان
بتاريخ : 12 يونيو 2013