1,640 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
لعلّ بعض الأُسر التي تنعم اليوم بالأموال الكثيرة والعقارات المتنوّعة والتجارات الكبيرة والشركات التي يبرق اسمها كضوء البرق في الليلة الظلماء، لا يعلم أبناؤهم كيف عاش أجدادهم وجداتهم من المعيشة الصعبة وشظف الحياة حتى بلغ منهم الجهد مبلغه.
ومنهم من قضى نحبه وهو يعاني أهوال الكسب الشاق في عرض البحر أو في عمق الصحراء، ومنهم من مدّ الله في عُمُره حتى يروي لنا قصصه الغريبة التي لا تصلح إلا أن تُسجّل في كتاب “ألف ليلة وليلة” ، ولا ألوم هذه الأجيال الجديدة إن لم تعرف هذا فالتاريخ قديم بالنسبة إليهم، فهم ولدوا في النعمة وغُذّوا بالراحة وأحاطت بهم الرفاهية والبُلَهْنية وأسأل الله أن يبارك لهم فيما رزقهم وأن يزيدهم من الحلال ويبعدهم عن الحرام.
قد ذكرت في مقالٍ سابقٍ المثل المشهور لدى أهلنا الماضين وأصبح اليوم تراثاً يُسجّل في كتب الأمثال أو يتندّر به على سبيل الطرفة وهو قولهم “احمل القذر على الراس ولا حاجةٍ إلى الناس”، وهذا المثل لم يروه الأولون عبثاً بل كان لحثّ أنفسهم وأولادهم على الكسب الحلال ولاستهجانهم ونفورهم من ذلّ السؤال واستجداء من ليس بأهلٍ، فعملوا في دارهم ولمّا لم يجدوا ما يريدونه فيها فارقوا الأرض والأهل بالأشهر وبالسنين في بعض الأحيان ليدركوا الكسب الحلال ولم يبالوا بألم الغربة ولا مشاق الأسفار إذ كانوا يلبّون رغبةً ملحةً في كفاف أنفسهم وسقي شجرة عزّتهم من أعمالهم، وإن كانت لا تناسب مقام عائلاتهم وأسماء أجدادهم لأنّ العمل لديهم مقدّس ولا مكان للعب أو التسلية حتى يدركوا ما يريدون ولو بلغوا “خليج بنغاله” كما يقولون في تلك الأيام، وكأن لسان حالهم يقول -وهذا بيت من بعض الأبيات التي أحبُّ تَردادها-:
لأستسهلنّ الصعبَ أو أدركَ المنى
فما انقادت الآمالُ إلا لصابرِ
لقد نجحوا واستسهلوا المصاعب وروّضوا الدنيا بسواعدهم القوية وعزائمهم التي تفلُّ الحديد، ولم ينظروا إلى قول مثبّطٍ ولا إلى نقد كسلانٍ بل ما ترونه أيها الأعزاء من الثراء العريض لبعض الأسر هو بفضل الله ثم بفضل إخلاص هؤلاء المثابرين المخلصين.
لم يقتصر العمل آنذاك على الرجال وحدهم بل شاركت النساء في كلِّ أمور الحياة وأستثني منها بطبيعة الحال الأمور التي لا تطيقها المرأة من مثل أعمال الغوص والحروب وغيرها، ومن باب أنّ الشيء بالشيء يذكر أذكر قول أحد أهل البحر بلغتنا الشعبية عندما طال بعاده عن زوجته أثناء موسم الغوص فأنشد:
ليت الحريم يسيرن الغوص
انغوص ويسوبن علينا
لى من نبرت وشفت لعقوص
متشربكاتٍ في الديينا
وليس هنا مكان شرح البيتين لمن لم يفهمهما ولكنى أعده بأن أشرحهما في مقالٍ آخر، وأضيف على ما قدّمت: بأنّ المرأة شاركت الرجل في أعمال كثيرة مع اعتنائها ببيتها وأولادها وقامت بجلب المياه وقطع الأخشاب وتوفير الطعام، وقد عملت المرأة أيضا في بيع العطور كالعنبر وعمل البخور “الدخون” وقامت أيضا بالخياطة وعملن أيضا فيما نسميه بقرض براقع النساء وهي مثل الأقنعة على وجوه النساء حسب العادات القديمة لأهلنا، وقد قامت بمساعدة زوجها في الإنفاق على البيت وتربية الأبناء وأذكر هذا بنفسي إذ رأيت بعض العجائز اللاتي لم يتركن مهنة “قرض البراقع” حتى وهنت قواهنّ وضعفنّ عن العمل ولم يقلنّ يوما إنّ هذا معيبٌ ولم يقل أحدٌ ذلك عنهنّ بل كنّ محل تقدير الناس إلى يوم وفاتهنّ.
وأذكر أيضاً امرأة كبيرةً في السن أصيلة وكريمة ومن أسرة عريقة كانت تبيع السمك في السوق بل كانت تهيمن عليه، فكان صيادو السمك يأتون بالسمك إليها أولا ثم يعرضونه على باقي التجار وقد بنت هذه المرأة الصابرة بيتها وربّت أبناءها من كسبها الحلال ولم تقل يوما إنّ هذا العمل من العيب بل العيب هو أن يكون الانسان فقيراً ولا يسعى لكسب قوته ويتكبّر على العمل ويزهد فيه ثم يلعن الحظّ ويقول: عارضني الزمن وأهله، وليست لديّ واسطة فلان ولا نفاقه.
كلُّ هذا من تثبيط الشيطان وعمله، فمن كان يريد العمل والكسب الحلال فعليه أن يبادر ولا يجلس في بيته ولا ييأس وليتوكل على الله وليطرق الأبواب النافعة فالبركة في الحركة وليس في نومات الضحى.
نشر في البيان
بتاريخ: 19 سبتمبر 2012