4,148 عدد المشاهدات
قاسم بن خلف الرويس – صحفي وكاتب سعودي
جوهن جاكوب هيس (Johann jakob hess) 1866-1949م مستشرق عني بلهجات البدو داخل الجزيرة العربية، درس في جامعة شتراسبورج على يدي نيلدكه، وأقام في البلاد العربية عدة سنين، واهتمَّ خصوصاً بالبدو في وسط شبه جزيرة العرب؛ فدرس لهجاتهم وطرائق حياتهم وتفكيرهم، وكتب في ذلك كتاباً بعنوان: «من بدو قلب جزيرة العرب: حكايات وأغاني وأخلاق وعادات» سنة 1938م، وتمَّت ترجمته سنة 2010م. واحد من البدو، الذي استقى هذا الرحَّالة عنه معلوماته هو موهق بن عايض بن عجاج الغنامي، الذي خلَّد اسمه في مذكراته.
أعد هيس بحثاً في (لهجة نجد الحالية) عُرِضَ في مؤتمر المستشرقين الذي عُقِدَ في فيينا عام 1912م، كما أصدر مقالتين عن اللهجة الدوسرية سُجِّلَت مادتها في الكويت، ويشير الدكتور محمد الشرقاوي في موسوعة المستشرقين إلى أنَّ هيس قد جمع موادَّ غزيرة لوضع قاموس للهجات البدو في داخل الجزيرة العربية، لكنه لم يطبع هذا القاموس، وإن كان قد حرره نهائياً. ولهذا المستشرق أيضاً بحث استقصائي حول رحلة داوتي إلى جزيرة العرب. كما أنَّ له كتاباً قدَّمه إلى أكاديمية هايدلبرغ للعلوم وطُبِعَ سنة 1912م تحت عنوان: «أسماء بدو من وسط الجزيرة العربية» وهو معجم صغير لأسماء البدو بدأت فكرته عندما جمع المؤلف في صيف 1909م نحو ثلاثمائة اسم من حضر نجد، حسب تعبيره، والذين كان يلتقيهم. ثمَّ عمل على تدقيق هذه الأسماء مع بدو نجد وغربي الجزيرة، ثمَّ أضاف إليها أسماء أخرى، وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية في السنوات الأخيرة.
مشافهة البدو
والحقيقة أنَّ الدكتور سعد الصويان من أوائل الباحثين العرب الذين لفتوا النظر إلى جهود هذا المستشرق بشكل تفصيلي في كتابه «فهرست الشعر النبطي» سنة 1421هـ /2001م عندما تحدَّث عن المصادر الأجنبية للشعر النبطي، وذكر أنَّ المستشرق الألماني ج ج هيس نشر في عام 1938م كتيباً يحتوي على حكايات وقصائد وعادات وتقاليد البدو في قلب الجزيرة العربية، ومن خلال اطلاعه على الكتاب، أشار إلى أنه يحتوي على مواد لغوية وأثنوغرافية وأدبية ومعلومات أخرى تلقي الضوء على حياة البادية، وبيَّن أنَّ هيس استقى معلوماته مشافهة من اثنين من البدو اللذيْن التقى بهما في القاهرة؛ أحدهما عتيبي اسمه «موهق بن عايض بن عجاج الغنامي» والآخر قحطاني اسمه «مسفر».
وأضاف أنَّ هيس يمتدح «موهق» ويشيد بفصاحته وبراعته في السرد والرواية وقدرته على توصيل المعلومات وتفسيرها. ويقول: إنه أمضى معه قرابة خمس سنوات في القاهرة تعلَّم منه خلالها كلَّ ما يعرفه عن لهجة عتيبة وعاداتها وتقاليدها.
فلنتأمل كيف خلَّد هذا المستشرق اسم هذا البدوي «موهق بن عايض بن عجاج الغنامي» في تاريخ الشعر النبطي كشاعر وراوية لا يشقُّ له غبار عندما كتب مذكراته.
حيث أشار الصويان إلى عمل «موهق» مع «محمد البسام» الذي يُعَدُّ من أكبر تجار العقيلات في جلب الإبل إلى مصر والشام، وخلال عمله مع ابن بسام تردَّد موهق على القاهرة وعرفها جيداً، وخلال الحرب العالمية الأولى عمل جندياً في جيش الشريف حسين، وبعد فتح الحجاز فضَّل موهق الانتقال إلى مصر عام 1930م والإقامة هناك، حيث عمل خفيراً في عزبة (عزيز عزت باشا).
قبيلة عتيبة
وقال صاحب «فهرست الشعر النبطي»: «ومن المؤسف أنَّ القصائد القليلة التي يتضمنها كتاب هس ترد بالترجمة الألمانية دون الكتابة الصوتية أو الأصل العربي».
وبعد ذلك بنحو خمس سنوات، وتحديداً في سنة 1426هـ/ 2006م ترجم الباحث تركي القداح أجزاء من كتاب هيس السالف الذكر ضمن كتابه الموسوم «قبيلة عتيبة في كتابات الرحالة الغربيين» وقال: إنَّ هيس كتب سيرة حياة موهق نقلاً عنه مباشرة، وطالب بترجمة الكتاب كاملاً وطبعه ليمكن الاستفادة منه من قبل الباحثين، ثمَّ أورد القداح مشكوراً سيرة (موهق) مترجمة عن كتاب هيس استغرقت الصفحات من (181- 194) وأرفق بها صورة (موهق) المنشورة في كتاب هيس، بل على غلافه، وممَّا جاء فيها:
تسمية «موهق»
إنَّ تسميته (موهق) كانت بسبب هجر والده لوالدته قبل ميلاده بعشر ليال [ربما طلاقها] ولفظة موهق تعني الشخص الذي يجلب معه الهموم والآلام وذلك بسبب معاناة أمه من هجر أبيه لها، وقامت والدته بإرضاعه ورعايته حتى سن الفطام، ثمَّ أوكلت رعايته بعد ذلك إلى جدته أم أبيه. أمّا ختانه فحدث في سن الثالثة قرب غدير الشبرمية، وكان ذلك حدثاً احتفالياً كبيراً ذبح فيه نحو ثلاثين خروفاً. وعندما ما بلغ السادسة من عمره بدأ بالمشاركة الفعَّالة في مجتمع البادية من خلال قيامه بالرعي لصغار الإبل، واعتماد غذائه على حليب الإبل في تلك المرحلة.
وفي الثامنة من عمره تعرّضوا لغزو من (ابن رشيد) أدّى إلى خسارة والده لجميع إبله، ممّا اضطره لجمع المواشي من الأقارب والأصدقاء؛ كتقليد تعويضي تقوم به حياة رجل الصحراء. تحوّل بعد ذلك إلى رعي الغنم حتى بلغ الثانية عشرة فكان يرافق (المديد) الذين يذهبون لجلب الأطعمة من مسافات بعيدة يتعرّضون فيها لصعوبات كبيرة.
عندما بلغ الخامسة عشرة قام والده بالغزو؛ فكسب بعض المكاسب واشترى جملين وحصاناً يستعملها في الغزو، ليثروا بعد ذلك ويعودون لامتلاك الإبل التي تولى موهق رعيها وسقيها والاهتمام بها وحمايتها.
أمَّا في العشرين من عمره فقد اشترى له والده بندقية بقيمة ريال فرنسي وشاة، ليستعملها في الصيد ولكنها لم تبقَ معه أكثر من ستة أشهر ليشتري بعدها بندقية أخرى أكثر تطوراً مقابل قعود.
ثمَّ يبدأ في سرد مغامراته في الغزو والحيافة؛ فيذكر خروجه للغزو رديفاً مع والده ولكنها كانت بداية غير موفقة لـ(موهق) فقد تغلب القوم عليهم وأسروهم، ولكنهم بعد ذلك أطلقوا سراحهم حسب الأعراف القبلية السائدة في ذلك الحين.
ابن ثعلي
ويذكر بعد ذلك مسيره مع قومه إلى مكة للتزوُّد منها وبيع السمن والغنم وشراء التمور والحبوب وعودتهم إلى أهلهم على ماء (كبشان) في عالية نجد وشرائه بندقية جديدة قيمتها عشرة ريالات فرنسية. ويتحدَّث موهق بعد ذلك عن مرافقته لاثنين من أخواله، الذين هم من قبيلة مطير، لحمايتهم خلال أراضي قبيلته حسب الأعراف القبلية السائدة ودخوله مع أخواله في معركة مع مجموعة تطلبهم ثأراً ودفاعهم عن أنفسهم بقوة وإصابة أحد أخواله إصابة طفيفة.
ويصف ذهابه إلى القاضي العرفي (ابن ثعلي) بسبب قتله حصان جار لأحد أبناء قبيلته في تلك المعركة وكسبه القضية. ويسرد بعد ذلك قصصاً حدثت له أثناء ممارسته المتكررة للغزو، ثمَّ يحكي قصة سفره مع (البسّام) واصفاً خط سيرهم من القصيم إلى حائل والجوف، ثمَّ القريات فالأزرق حتى نقرة الشام، ثم سفرهم إلى مصر وبيعهم الإبل هناك وعودتهم إلى الشام مرة أخرى، وكانت مدة هذه الرحلة 13 يوماً. ثمَّ عودته إلى مصر بجمال أخرى وبيعها والعودة إلى دمشق مجدداً ومرة ثالثة مع محمد العبدالله البسام، ثمَّ إقامته بعد ذلك في مصر كمسؤول عن الأغنام عند أحد التجار، ثمَّ انتقاله إلى مكان آخر في مصر من أجل رعاية وركوب جمال السباق. ثمَّ انتقاله إلى (المطرية) وإرسال فوزان [السابق] له بجمل إلى (خالد الطحاوي) ثمَّ رجوعه كما ذكر إلى (هيس) الذي كان يريد تعلُّم لغة البدو.
ويُعدُّ القداح حسب علمي أولَ مَن ترجم ونشر هذه المعلومات التي تسلِّط الضوء على صفحات مطوية من تاريخ الجزيرة العربية في العصر الحديث.
عادات وقوانين قبلية
والحقيقة أنَّ هذه المذكرات التي دوَّنها هيس بصورة مباشرة من موهق الغنامي – والذي ينتمي إلى عشيرة الغنانيم من ذوي عطية من مزحم الروقة من قبيلة عتيبة – لم تقتصر على السيرة الذاتية لموهق الغنامي، بل تجاوزته إلى تفصيل في الحياة الاجتماعية للبادية في الجزيرة العربية وخاصة قبيلة عتيبة من حيث العادات والتقاليد والقوانين العرفية وغيرها.
وأرى أنَّ هجرته إلى مصر ليس لها علاقة بالإخوان ووطأتهم في الحجاز كما أشار بعض الباحثين؛ لأنَّ دخول الحجاز تحت لواء الملك عبدالعزيز كان في سنة 1343هـ/1924م، ولم يهاجر (موهق) إلا في سنة 1348هـ/1930م تقريباً، وليس هناك ما يبعث على الهجرة إلا البحث عن أسباب الرزق يظهر ذلك من خلال مرافقته للعقيلات وعمله معهم. ومن المعروف أنَّ هناك أُسَراً عديدة من العقيلات استقروا في مصر والشام، فلا غرابة في إقامته في مصر.
توثيق شفاهي
وتؤكِّد الروايات الشفوية، كما أفادني الأخ تركي ماطر الغنامي في اتصال هاتفي يوم الأربعاء 15ربيع الثاني 1423هـ، أنَّ موهق كان يقوم بزيارات إلى أهله وجماعته في ديارهم في نجد، وأنه تزوج بفتاة من قبيلته رُزِقَ منها ابناً اسمه (ناصر) توفي أو قُتِلَ في ريعان شبابه أثناء مشاركته مع الجيش العربي في فلسطين وذلك قبل وفاة والده، كما ذكر أنَّ من الدوافع التي جعلت الباحث الهولندي (مارسيل كوربرشوك) يتوجَّه في بعض جوانب بحثه نحو قبيلة عتيبة هو روايات موهق الغنامي التي قرأها في كتاب هس، وقد أكَّد لي الباحث الهولندي أنَّ كتاب هيس من الكتب التي لفتت انتباهه للبحث في ثقافة الصحراء والبداوة العربية بشكل عام.
في حين يؤكِّد بنو عشيرته شاعريته وينسبون له قصائد عديدة؛ فإنه لا يوجد اختلاف على نسبة القصيدة المتداولة التي مطلعها:
اسمع كلام ابن عجاج الروقي
واترك كلام البومة الغزاوي
إلى (موهق بن عجاج) ربما لأنها مهرها باسمه في أول شطر منها، ويختلف الأمر تماماً عندما ينسب إلى (موهق) عدد من القصائد المشهورة التي ربما لا يوافق الآخرون على نسبتها إليه، رغم تأكيد الأخ تركي ماطر الغنامي والأخ فرج خلف الغنامي مثل:
عديت في مرقبٍ والليـل ممسينـي
بديار غـربٍ لعـل السيـل ماجاهـا
أضحك مع الليّ ضحك والهم طاويني
طيّة شنون الطلب وأن صرّبوا مـاهـا
وقصيدة أخرى:
يا راكب اللي بعيد الدار يطوّنه
حاير من ضرايب جيش ابن ثاني
ويظهر لي أنَّ حياة موهق في أرض الكنانة امتدت إلى نحو عشرين سنة انتقل بعدها إلى رحمة الله، حيث يؤكد بنو عمومته أنَّ وفاته كانت في عام 1370هـ، ومن قصائد موهق الغنامي أثناء غربته في مصر قصيدة أوردها الدكتور محمد سلطان العتيبي في مقدمته للطبعة العربية لكتاب هيس (بدو وسط الجزيرة) التي نشرتها دار الوراق بترجمة محمود كبيبو سنة 2010م في خمسة أبيات هي:
البارحة داخلٍ قلبي مرابيع
وأثر حلام الليال أكبر مصيبة
واجهت ربعي بعيدين المفازيع
وأصبحت من دونهم دارٍ غريبة
فكّكة البل ليا لحقوا مصاليع
لو حال من دونها عج وحطيبة
يا مل قلبٍ عليهم زاع تزويع
تزويعة الطير من راس الرقيبة
ما لي بدارٍ عذاراها مفاريع
يموت رجّالهم ما شيف طيبه
ولقد قرأت في بعض من المواقع الإلكترونية عدداً من القصائد التي تنسب إلى موهق الغنامي وهي قصائد تدل على قدرة شعرية منها الأبيات:
يا نديبي فوق عيـرات عـوصِ شعلـي
كلهن أمـلاط تضفـي عليهـن العبـاه
فجّ الأيدي خضع الأرقاب حيلٍ وحلـي
مثل صيدٍ طقه الريح وقفّـى مـع نبـاه
ما عليهن غير من يقطـع الـدار الخلـي
مرقب يدرق متونه والآخـر قـد بـداه
بيّنٍ رديفهـم عصـر يـوم يحوّلـي
كل ما ثارت تطيـح الضريبـة مـن وراه
وكذلك هذه الأبيات:
عديت بالدربيل عصراً وعاير
دربيل شوفٍ واسعاتٍ عيونه
ما شفت يا حمّاي تال العشاير
ما شفت دار محسّنين الدقونه
يا طول صبري يا عسير بن ساير
على النصارى والبحر والمهونه
انشد زبار بواردي الحشاير
هو ما نشد عني حجيجٍ يجونه
أردنا بهذه الإضاءة التعريف بشخصية أحد أبناء الجزيرة العربية الذين استفاد منهم المستشرقون وخلدوهم في مؤلفاتهم؛ لأنهم الجسر التاريخي الذي عبرت من خلاله معرفة الماضي وتفاصيل الأحوال الاقتصادية والظروف الاجتماعية، فكم من موهق ومسفر في كتب المستشرقين المجهولة أو التي لم تترجم إلى العربية إلى اليوم.