1,514 عدد المشاهدات
الكاتب : الدكتور شهاب غانم
يقول تعالى في سورة الحجرات / الآية 13:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾
وإذا كان الله قد خلقنا شعوباً وقبائل لنتعارف، فهذا التعارف يتطلب الاتصال والتفاهم، ولا يكون هذا إلا بواسطة اللغة. والتعارف يستدعي أن يفهم كل جانب كيف يفكر الجانب الآخر؛ فالعربي لكي يفهم المكسيكيين مثلاً عليه أن يفهم فكرهم وثقافتهم وحضارتهم، ويفهم قبل ذلك لغتهم الإسبانية، أو على الأقل أن تترجم كتبهم وأفلامهم وما شابه إلى العربية.
واحدة من أهم النهضات التي قامت في جزء هام منها على الترجمة في تاريخ البشرية كانت نهضة الحضارة الإسلامية العربية في العصر العباسي الأول في زمن المنصور وهارون الرشيد، وبشكل خاص في زمن الخليفة المأمون، الخليفة العباسي السابع الذي حكم لمدة 20 عاماً بين 813 و833 ميلادية أو 198 و218 هجرية.
العصر الذهبي للترجمة
تفرد عهد المأمون بتشجيعٍ مطلق للعلوم من فلسفة وطب ورياضيات وفلك، واهتمام خاص بعلوم اليونان، وقد أسس الخليفة عام 830م بيت الحكمة في بغداد، المكتبة التي كانت مركز ترجمة ومن أهم مراكز الثقافة في عصرها.
واخترع في عهد المأمون الإسطرلاب وعدد من الآلات التقنية الأخرى، وحاول العلماء قياس محيط الأرض، ما يدل على إدراكهم لكروية الأرض. وتقدمت العلوم في زمنه تقدماً هائلاً؛ فمثلاً في مجال الرياضيات، استطاع عالم كالخوارزمي أن ينشئ علم الجبر وجداول اللوغاريتمات (التي اشتق اسمها من اسمه)، ويحل معادلات رياضية من الدرجة الثانية لأول مرة في تاريخ البشرية المعروف، ويؤسس مبادئ علم التفاضل والتكامل أي الـ calculus وقد استفاد إسحق نيوتن كثيراً من إنجازاته.
ولا أريد الإطالة، ولكن ثمة علماء عظام آخرون مثل البتاني والبيروني والكندي والشاعر عمر الخيام صاحب الرباعيات المشهورة، قدمواً أيضاً الكثير في مجال الرياضيات وعلم الفلك وجداول أو أزياج الأرصاد (جداول الحسابات والمواقع الفلكية) وصححوا أخطاء جداول الشعوب السابقة.
ولا شك أن من أهم ما قدمته الحضارة العربية الإسلامية القديمة تطويرها الأرقام الهندية وما يسميها الغربيون بالأرقام العربية، وقدموا أو طوروا فكرة الصفر، ويسمى بالإنكليزية الـ zero كما يسمى cypher، والكلمتان مأخوذتان من الكلمة العربية (صفر) الذي حقق قفزة في علم الحساب.
وقد تكون عمليات الترجمة التي رعاها هو وحاشيته وولاته أبرز سمات عهده؛ إذ نقلت خلالها العلوم والآداب السريانية والفارسية واليونانية والهندية إلى العربية. وكان يكافئ المترجمين بوزن كتبهم ذهباً، ولهذا أظن ذلك العصر كان العصر الذهبي الأول للمترجمين على مستوى العالم.
والمهم هو أن العرب استوعبوا كل ما ترجموه ومحّصوه ونقدوه ونخلوه وطوروه بشكل قفز بالعلوم قفزة هائلة. ويمكننا أن نرى إنجازات مماثلة في مجالات العلوم الأخرى؛ كالكيمياء والبصريات والميكانيكا والهندسة المعمارية والجغرافيا والموسيقى والفلسفة والطب، ونحن نعلم أن كتاب ابن سينا «القانون» ظل يدرس في بعض كليات الطب في جامعات أوروبا حتى القرن السادس عشر.
مرحلة التراجع
تلك النهضة كانت أساس النهضة الإسلامية العربية التي انتقلت إلى أجزاء أخرى من العالم الإسلامي، ومن أهم ذلك الأندلس، حيث استمرت الحضارة الإسلامية متقدمة قرابة ثمانية قرون. وكانت ترجمة الكتب العربية إلى اللاتينية ثم اللغات الأوروبية الأساس للنهضة الأوروبية أو «الرينيسانس» منذ القرن الرابع عشر، بينما تراجعت الترجمة والعلوم في العالم الإسلامي إلى حد كبير إلى أن جاءت محاولة محمد علي باشا.
حكم محمد علي باشا مصر بين 1805 و1845 واتجه نحو بناء دولة عصرية على النسق الأوروبي في مصر، واستعان في مشروعاته الاقتصادية والعلمية بخبراء أوروبيين، ومنهم بصفة خاصة الفرنسيون ،وكانت أهم دعائم دولته العصرية سياسته التعليمية والتثقيفية الحديثة، حيث كان يؤمن بأنه لن يستطيع أن ينشئ قوة عسكرية على الطراز الأوروبي المتقدم ويزودها بتقنيات العصر وأن يقيم إدارة فعالة واقتصاداً مزدهراً يدعمها ويحميها إلا بإيجاد تعليم عصري يحل محل التعليم التقليدي. لذلك ابتعث في عام 1813أول البعثات التعليمية إلى أوروبا، وكانت وجهتها إلى إيطاليا، حيث أوفد 28 من الطلبة لدراسة العلوم العسكرية وطرق بناء السفن والهندسة والطباعة، ثم أتبعها ببعثات لفرنسا وإنجلترا.
إلا أن العصر الذهبي لتلك البعثات، كان مع بعثة عام 1826 التي تكونت من 44 طالباً لدراسة العلوم العسكرية والإدارية والطب والزراعة والتاريخ الطبيعي والمعادن والكيمياء والهيدروليكا وصب المعادن وصناعة الأسلحة والطباعة والعمارة والترجمة، وأنشأ مدرسة المترجمين، التي تخرجت أول دفعة منها عام 1839. ويرجع الفضل في نجاحها في ذلك الوقت إلى منشئها قائد النهضة العلمية في مصر آنذاك الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي 1801 – 1873 الذي كان يطمح لتكوين جيل من المثقفين يكونون صلة بين الثقافة العربية والغربية، ضالعين في الآداب العربية وفي آداب اللغات الأجنبية، قادرين على تعريب الكتب الأجنبية، وعلى النهوض بالإدارة الحكومية فيما يعهد به إليهم من مناصب. وقد عدل اسم تلك المدرسة عام 1957 إلى مدرسة الألسن العليا، وقدمت للبلاد عدداً من المترجمين البارعين. وقد ألحقت فيما بعد ككلية ألسن ضمن جامعة عين شمس.
وضع الترجمة في العالم العربي
الإحصاءات المنشورة تؤكد أن ما نترجمه نسبة ضئيلة مقارنة بما تترجمه الشعوب الغربية. ونسبة الكتب المترجمة ضمن ما ننشر من كتب تقدر بنحو 5% فقط، وهي نسبة ضئيلة مقارنة بالدول المتقدمة؛ فالأمة لتستفيد من ثقافات وعلوم الشعوب الأخرى ينبغي أن تترجم نسبة كبيرة مما تنشر، كما ينبغي أن تترجم كتبها المتميزة إلى اللغات العالمية المهمة لتسهم في مسير الحضارة العالمية.
في معارض الكتب كثيراً ما أسأل دور النشر عن مبيعاتها وأكثر الكتب رواجاً فيقولون: كتب الطبخ وتفسير الأحلام والكتب الدينية البسيطة وبعض القصص والروايات، وربما بعض الكتب السياسية التي تتحدث عن القضايا الآنية الساخنة، وأفرح عندما يقولون أيضاً بعض كتب الأطفال. أما الكتب المترجمة إلى العربية فتكون عادة من الروايات التي أخذ أصحابها جوائز والكتب السياسية المثيرة أو التي تتحدث عن بعض القضايا الآنية.
أما في الغرب فقد قرأت في إحدى الإحصائيات عن خدمات الترجمة هناك أن أكثر القطاعات شراء لمثل تلك الخدمات هي في ترتيب تنازلي كما يلي: التكنولوجيا، فالطب، فالتسويق والإعلان، فالصناعة، فالخدمات المالية، فالقطاع الحكومي، فالخدمات القانونية. نحن طبعاً لدينا أيضاً الترجمات القانونية التي تقوم بها مكاتب الترجمة للشركات، خاصة في مدينة عالمية مثل دبي.
في معظم الجامعات العربية تدرس مناهج مثل التكنولوجيا والهندسة والطب باللغة الأجنبية، وغالباً الإنكليزية، وقد تكون هناك استثناءات مثل سوريا. في بلدان مثل اليابان وكوريا والنرويج تدرس هذه المواد حسب علمي بلغات تلك البلدان.
بعض الدراسات تدل على أن الإنسان يستطيع أن يتعلم ويبدع أكثر باللغة الأم. فإذا كانت الدول العربية تنوي أن تعلم في جامعاتها التكنولوجيا والطب بالعربية فيجب أن يأتي القرار من أعلى المستويات، وينبغي للدول العربية أن تنسق فيما بينها للتعاون على القيام بذلك. وسيحتاج الأمر إلى فترة انتقالية تستمر عدة سنوات يستمر خلالها التعليم باللغتين معاً.
مشاريع الترجمة في الإمارات
لا شك أن الإمارات في زمننا من أكثر الدول العربية اهتماماً بالترجمة. ومن أهم مشاريع الترجمة في الإمارات مشروع «كلمة» في أبوظبي، الذي بدأ عام 2007 وتمكن من إنجاز نحو ألف كتاب حتى اليوم، كلها تقريباً من اللغات الأجنبية إلى العربية مع بعض كتب قليلة صدرت باللغتين. وإخراج كتبها جميل ومتميز، ولكن المترجمين الإماراتيين فيها قلة لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة.
ومن مشاريع المؤسسة نفسها، أي أبوظبي للتراث والسياحة، مشروع «إصدارات» ومشروع «قلم» وهذا نشر نحو 15 كتاباً لأدباء محليين مترجمة إلى الألمانية بالتعاون مع ناشر في سويسرا عام 2008 ثم نحو 20 كتاباً عام 2009 مترجمة إلى لغات هندية في الهند.
كما نشرت وزارة الثقافة وتنمية المعرفة واتحاد الكتاب عدداً صغيراً من الكتب الأدبية والدواوين الشعرية لا تتجاوز أصابع اليدين في العد لأدباء إماراتيين.
ومن التجارب المهمة تجربة مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة، التي ترجمت نحو ألف كتاب معظمها في المجالات الإدارية والعلمية تحت مشروع «ترجم».
ولعل أهم تجربة في السنتين الأخيرتين في ترجمة الأدب المحلي كان بمبادرة رائعة من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم إمارة الشارقة، فقد ترجمت هيئة الشارقة للثقافة 60 عملاً أدبياً لستين أديباً وشاعراً ومثقفاً إماراتياً وعربياً إلى ست لغات حتى الآن، وهي الفرنسية والبرتغالية والهندية والإيطالية والروسية والإسبانية، وكنت أنا أحد المحظوظين، فقد ترجمت مختارات من أشعاري إلى كل تلك اللغات. أيضاً ترجم لصاحب السمو 14 من مؤلفاته إلى كل تلك اللغات وغيرها، وعرضت مع أعمال المؤلفين الإماراتيين في باريس وريو دي جانيرو ونيودلهي وإيطاليا وروسيا وإسبانيا.
تجربة شخصية
بدأت منذ نحو 30 سنة اهتماماً خاصاً بترجمة الشعر الأجنبي إلى العربية، وأنجزت نحو 20 كتاباً منشوراً، كما اهتممت بترجمة الشعر العربي المعاصر، وخصوصاً شعر الإماراتيين باللغة الفصحى، إلى الإنجليزية، وأنجزت 16 مجموعة شعرية منشورة. كما تُرجِمتْ مختارات من شعري إلى 19 لغة منها 13 في كتب مستقلة.
كلمة أخيرة
لكي يستمر نشر ترجمات الأعمال الأدبية الإماراتية المتميزة ينبغي أن تنشئ إحدى مؤسسات النشر في الدولة اتفاقية مع دور نشر عالمية لنشر الأعمال الإماراتية، شريطة أن تكون أعمالاً أثبتت نجاحها باللغة العربية من خلال الجوائز والمبيعات الكبيرة ومواصفات النجاح المعروفة، بحيث تصل كتب الأدباء الإماراتيين المتميزين للأسواق العالمية وتجذب القارئ الأجنبي.