5,564 عدد المشاهدات
مدارات ونقوش (خاص)
في إحدى محاضراته التي ألقاها في القاهرة سنة 2010 أكّد الباحث الأمريكي الدكتور جورج صليبة، أستاذ العلوم العربية والإسلامية بجامعة كولومبيا، أنَّ النهضة الأوروبية لم تأتِ من فراغ، وأنَّ العالم يدين للعلماء العرب والمسلمين بالفضل في التوصُّل إلى النهضة العلمية، وأنَّ الإسهامات العربية والإسلامية قدَّمت لعلماء العالم منهجاً علمياً سليماً أسهم في النهضة الأوروبية، ومثَّل استمرارية للفكر العلمي العربي الإسلامي الذي ربط بين المشاهدة والملاحظة والقياس.
وهذا غيض من فيض مئات الشهادات التي أنصفت العرب ونسبت إليهم أصول العلوم التطبيقية التي قامت عليها النهضة الغربية، في الطب والهندسة والفلك.. وغيرها من فروع العلوم.
ونحن عندما نتحدَّث عن موضوع كالبيطرة، فإننا لا ريب ندرك رسوخ قدم العرب في هذا الفرع النفيس من أنواع العلوم التي نبغ فيها العرب وبلغوا شأواً لا يستهان به، حتى أصبح لهم قصب السبق فيه.
وهنا نسلط الضوء على هذا العلم وما خلَّفه علماء العرب والمسلمين للمكتبة العربية من آثار يُشهد لها في علم «بيطرة الخيل»، لتكون إضاءة تاريخية يستنير بها القارئ لمعرفة حقائق قد تخفى على الكثيرين، وتؤكد ما أثبتته الأيام واختزنت به مكتبات العالم من مخطوطات أثْرَت العالم بخيراتها ومعارفها، لتشعَّ منها أنوار النهضة التي أشرقت بها ظلمات أوروبا، كما قال المفكر النمساوي ليوبولد فايس: «لسنا نبالغ إذا قلنا إنَّ العصر العلمي الحديث الذي نعيش فيه لم يدشن في مدن أوروبا، ولكن في المراكز الإسلامية في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة».
البيطرة والبيزرة
أسهمت الحياة الصحراوية والبيئة البدوية العربية في بحثهم عن الطرق والأساليب التي يستعينون بها على العناية بممتلكاتهم وأنعامهم التي لا غنى لهم عنها في مأكل أو ملبس، وكان على رأسها آلة الحرب الأبرز التي خاضوا بها غمار المعارك وكان لها شأنها عند العرب، ألا وهي الخيل العربية الأصيلة، كما أنَّ احتراف العرب للصيد أيضاً أبرز الحاجة الكبيرة إلى التعامل مع الطيور الجارحة كالصقور، وهذا –إضافة إلى أسباب أخرى سيأتي ذكرها- صقل معارف العرب وأوصلهم إلى إنجازات بارزة في مجالين علميين مهمين هما «البيطرة» و«البيزرة».
أمّا البيزرة فهو علم يبحث فيه عن أحوال الجوارح من حيث حفظ صحتها وإزالة مرضها ومعرفة العلامات الدالة على قوتها في الصيد وضعفها فيه.
ولا يخفى علينا معنى مصطلح «البيطرة»، إذ نعلم أنه علم يتعلّق بأحوال الحيوانات وصحتها وأمراضها وعلاجها. ولكن العرب خصّت هذا العلم بالخيل، وكأنه مقصور عليها مخصوص بها، لذا نجد علماء التصنيف والفهارس يعرفونها بذلك حصراً. ففي كتاب مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده أنه: «علم يبحث عن أحوال الحيوان المخصوص، وهو الخيل، من جهة ما يصح ويمرض، أو يحفظ صحته ويزيل مرضه، وهذا في الخيل بمنزلة الطب في الإنسان». وليس هذا إلا من عظم الاهتمام بالخيل الأصيلة، وبالغ قيمتها.
جاء كتاب «أبجد العلوم» 1 / 314: «موضوعه وغايته ظاهرة للمتبصر، ومنفعته عظيمة لأنَّ الجهاد والحج لا يقوم ويقوى صاحبه إلا به». وفي «كشف الظنون» قريب من ذلك.
تسامح معرفي
ومن الجدير بالذكر، ونحن في عام التسامح، أن نفخر بأسلافنا من النوابغ الذين لم يثنهم اختلاف الدين أن يأخذوا المعارف من منابعها، إذ عكفوا على كتب أرسطو وأبقراط وترجموها، واستعانوا بكبار العلماء المخالفين لهم في العقيدة، ولم يتهموهم في عدالتهم عندما أوكلوا إليهم ترجمة تلك الخزائن المعرفية الثرة، من أمثال حنين بن إسحاق ويوحنا بن ماسويه. ثمَّ توسعوا بالبحث في تشريح الحيوانات، ووصفوا أمراض الخيل، وقد نضج عندهم هذا العلم في القرن السابع حين فصل عن علم الطب، وأصبح علماً قائماً بذاته واشتغل به كثيرون من أطباء المسلمين من أشهرهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب الإسكافي.
عوامل حضارية
ويعدُّ الطب البيطري وتطوره عند المسلمين من الدلالات المميزة على إنجازاتهم في مجال علم الحيوان بصفة عامة، وعلم صحة الخيول بصفة خاصة، وقد تأسَّس ذلك على عدة عوامل من أهمها التعاليم الإسلامية الحضارية التي حثت على الرفق بالحيوان والعناية به، والأمر بحسن تغذيته وعلاجه، وعدم تحميله فوق طاقته، ومنع قتله إلا لمنفعة مشروعة، والأحاديث النبوية في هذا الشأن وفيرة معروفة. فكان لهذه التشريعات السمحة الفضل في عناية المسلمين بعلم الحيوان والطب البيطري، أضف إلى ذلك –بالنسبة لما نحن بصدده من الحديث عن بيطرة الخيل- التكريم الإلهي والنبوي لأمر الخيل والجياد الصافنات، التي كانت رفيقهم في السلم والحرب، فكتبوا عن أنواع الخيل وخصائص كل نوع وعيوبه ومميزاته، ثمَّ كتبوا عن أمراضه وعلاجاتها، بل بلغ الأمر إلى نبوغهم في تشريح الخيل ورسم أعضائه الداخلية وتسميتها، كما ورد في مخطوطة محفوظة في مكتبة الجامعة بإسطنبول، بعنوان «الزردقة في مَعرفة الخيل وأجناسها وأمراضها وأدويتها» لمؤلف مصري مجهول من العصر المملوكي، وضعه في القرن التاسع الهجري، وتظهر فيه صورة تشريحية لفرس مسطوح على ظهره. والزردقة كلمة مولدة تعني علم تربية الخيل والعناية بها وشؤونها.
لم يكن تفوُّق العرب وسبقهم في علم البيطرة أمراً هيناً باستطاعة كل أحد إتقانه، وليس هو بالسهولة التي قد نتصورها، بل هو أصعب مراساً من تطبيب الإنسان؛ لأنَّ الدواب عجماوات ليس لها نطق تعبِّر به عمّا تجد من الألم والمرض، وإنما يُستدَلُّ على عللها بالجس والنظر الذي يحتاج إلى حذق وحسن بصيرة، ولا سيما أنَّ علل الدواب كانت تنيف على ثلاثمائة وعشرين علة، أشارت إليها كتب البيطرة بالتفصيل.
مصنفات
إنَّ ثمار هذه العبقرية التي حظي بها نوابغ البيطريين العرب والمسلمين أينعت مصنفات وكتباً حجزت مكانة مرموقة في مكتبتنا العربية؛ الممتلئة بنفائس المؤلفات التي أولت «بيطرة الخيل» عناية فائقة؛ بحثاً ودراسة ووصفاً وعلاجاً، منها:
- «رسالة في علم البيطرة ومعرفة أعمار الخيل» لقنبر ميمون، خادم علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
- «كتاب الخيل – في الفروسية والبيطرة» لعبد الملك بن قريب، المحدّث الفقيه الأصولي الأديب اللغوي النحوي، المعروف بالأصمعي المتوفى في البصرة سنة 216هـ، 831م. وهو مطبوع بتحقيق الدكتور حاتم الضامن.
- «الفروسية والشجاعة والبيطرة في علامات الخيل وعلاجها» و«الخيل والفروسية والبيطرة» لمحمد بن يعقوب بن إسحاق الشهير بابن أبي حزام، المتوفى بعد سنة 289هـ، 902م.
- «البيطرة» لأحمد بن الحسن بن الأحنف، الذي توجد منه نسخة محفوظة في دار الكتب المصرية، تضمُّ تسعاً وثلاثين صورة ملونة تشتمل على رسوم خيل بمفردها، أو مع سواسها يركبونها أو يروضونها أو يعتنون بها.
- «شرح الأرجوزة المنصورية في صفة الخيل – في البيطرة» لأحمد بن الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة أبي الحسن الزيدي المتوكل بالله المتوفى سنة 680هـ، 1281م.
- «فضل الخيل» لعبد المؤمن بن خلف بن أبى الحسن الدمياطي، المتوفى سنة 705هـ. وهو مطبوع بتحقيق نظام يعقوبي.
- كتابان للأمير بدر الدين بكتوت الرماح الخازندار الملِكي الظاهري، المتوفى سنة 711هـ، 1211م: أولهما سماه «كتاب في علم الفروسية ومعالجة الخيل – في البيطرة»، والثاني: «السرّ المخزون وجامع الفنون – في البيطرة»، وهو مختصر كتاب ابن أبي حزام الآنف الذكر.
- «كاشف الويل في معرفة أمراض الخيل»، لأبي بكر بن بدر الدين المنذر المصري، وهو طبيب بيطريّ رئيس البياطرة، عاش في عهد الناصر محمد بن قلاوون المصري، وألّف الكتاب له، وكان حياً سنة 741هـ، 1310م. وقد جعله على عشر مقالات، ذكر فيه: ما جربه هو، ووالده، وغيرهما، بمصر، والشام.
- «كتاب في أمراض الخيل» لأحمد بن الحسن، ابن الأهنس.
- «الخيل وصفاتها وأنواعها وبيطرتها» لعلي بن داوود بن يوسف، المجاهد الرسولي، المتوفى سنة 764هـ.
- «المغني في البيطرة في الخيل والجمال وغيرها» للأشرف الرسولي، أبو حفص عمر بن يوسف. وقد نشر من قبل المجمع الثقافي بأبوظبي سنة 2004.
والملاحظ من تواريخ وفاة مؤلفي هذه الكتب أنَّ التصنيف في هذا المجال امتد منذ عصر الإسلام الأول، وحتى القرون المتقدمة من عمر الأمة، وهذا يعني أنَّ الطب البيطري له جذور أصيلة وقديمة في تاريخنا العربي والإسلامي. كما أنَّ ما أشرنا إليه أعلاه من هذه المصنفات ما هو إلا غيض من فيض ما خلفه علماء العرب وسطروه من معارفهم وتجاربهم فيما يتعلَّق بأمراض الخيل وصحتها وعلاجها. ومن الجدير بالذكر أنَّ أكثر هذه المنصفات لم تزل مخطوطات؛ فلم تُحقَّق ولم تُخرَج للقرّاء، وهي بانتظار من يميط عنها غبار الأيام، فإنها بلا ريب تستهوي عشّاق تلك الأصائل الذين يملؤون مشارق الأرض ومغاربها.